فعلينا بتقوى الله في أنفسنا، فإننا قادمون على مواقف تستحق أن نفكر فيها كثيراً، وعلى شهادات ليس لنا منها مفر ولا مهرب، فلنحاسب أنفسنا قبل أن يأتي ذلك اليوم، وتُكشف الأوراق، وتتبينُ الأعمال، وينطقُ الأشهاد، ثم يعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
الحمد لله نحمده ونستعينه...
أما بعد: فاتقوا الله معاشر المؤمنين، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لقمان:33].
عباد الله: ما رأيكم في حال شخص أجلسه خصمه أمام القاضي، فأنكر الدعوى، لكنّ خصمَه أثبت الدعوى عليه بشهودٍ عدول، ودلائل بيّنات واضحات؟ لاشك أنه موقف صعب، لا يُحسد عليه.
أحبتي في الله: إذا كان الأمر كذلك، فلنفكر في أمرٍ أعظمَ من ذلك كله، إنه يومُ العرض على الله -عز وجل-، ذلك اليوم الذي يُظهر الله فيه كل شيء، وسيكون الشهود في ذلك اليوم، من أصدق الخلق، وأعدلهم.
أيها الأحباب: إن شهودَ الدنيا قد يكذِبون، وقد يُبالغون في الحقيقة، وقد يمتنعون عن الإدلاء بالشهادة خوفاً من مُهدِّدٍ، أو طمعاً في مُرَغِّب، وقد تكون شهادتُهم غامضة تحتاج إلى توضيح وتفصيل، وقد يحضرون للشهادة، وقد يمتنعون عن الحضور لشغل أو عائقٍ، لكن شهودَ يومِ القيامة يختلفون تماماً عن شهود الدنيا، لا تنفع معهم الرشاوى، ولا يعرفون المجاملات، يُؤمرون من ربهم وخالقهم فينطقون، لا يزيدون ولا ينقصُون، لا يكذبون ولا يمتنعون، شهادتهم واضحة، وعباراتهم مفهومة.
فلنحاسب أنفسنا، مادمنا في دار المهلة، ومادام في العمر فسحة، وفي الوقت متسع، ومادام باب التوبة مفتوحا، أسأل الله -عز وجل-، أن يرحمني وإياكم في ذلك اليوم، وأن يعاملنا بلطفه ومنّه وكرمه، وأن يتجاوز عنا، وأن يسترنا، ولا يفضحنا بين الناس.
عباد الله: مَن الشهود الذين سيقفون معنا أمام الملك الجبار يوم القيامة؟.
أما الشاهد الأول: فهو الأرضُ التي نعيش عليها، يقول الله -تعالى-: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) [الزلزلة:1-5].
روى الترمذي في سننه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)، فقَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا؟" قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا، أَنْ تَقُول: عَمِلَ كَذَا وَكَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا"، قَالَ: "فَهَذِهِ أَخْبَارُهَا".
فيا له من موقف صعب محرج مخجل، فهل فكرنا يوم أن اقترفنا المعصية، أن تلك الأرض التي نطؤها بأقدامنا سوف ينطقها الله يوم القيامة، لتكون شاهدةً لنا أو علينا؟ فمن الموعظة أن لا نفعل على هذه الأرض إلا ما يرضي الله؛ كي تكون شاهدة لنا بدل أن تكون شاهدةً علينا، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:7-8].
أحبتي في الله: أما الشاهد الثاني فهو رسولنا -صلى الله عليه وسلم-، في ذلك الموقف العظيم سوف يشهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- على المكذبين والعصاة من أمته، يقول الحق -تبارك وتعالى-: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) [النساء:41-42].
في ذلك الموقف العظيم يتمنى المرابون، والظالمون، والمتكبرون، والذين يسعون لإشاعة الفاحشة بين المؤمنين، وغيرهم من أصحاب المعاصي الأخرى، يتمنون أن تبتلعهم الأرض، ويهال عليهم التراب، وتسوى بهم الأرض، ولا يقفون ذلك الموقف المهين أمام الله -عز وجل-، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشهد على معاصيهم.
وكذا بقية الأنبياء، كلٌ يشهد على أمته بما فعلوا وأساؤوا، يقول الله -عز وجل-: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) [النحل:84]، فلا مجال للاستعتاب والاعتذار، فهو يوم حساب وجزاء.
الشاهد الثالث من شهود يوم القيامة: الأشهاد، وهم الملائكة والرسل والعلماء والدعاة، يقول الله -جل وعلا-: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود:18].
وخرّج البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "وَأَمَّا الْآخَرُونَ أَوْ الْكُفَّارُ فَيُنَادَى عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ"، والأشهاد هم: من الملائكةِ الذين كانوا يُعبَدون من دون الله، والرسلِ الذين كانوا يُكذَّبون بما جاؤوا به من الحق، والعلماء والدعاة إلى الله الذين كانوا يُكذبون، ويستهزأ بهم، هم الأشهاد الذين يشهدون ويفضحون الكفرة، والمنافقين والعلمانيين، والمجاهرين بالمعصية على رؤوس الخلائق.
أما الشاهد الرابع: فهما الملَكان، قال الله -تعالى-: (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) [ق:21-23].
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: "أيْ: ملَكٌ يسوقه إلى المحشر، وملَكٌ يشهد عليه بأعماله"، وقال مجاهد -رحمه الله-: "هذا كلام الملَكُ السائق يقول: هذا ابن آدم الذي وكلتني به، قد أحضرته".
فعلينا بتقوى الله -عباد الله- في أنفسنا، فإننا قادمون على مواقف تستحق أن نفكر فيها كثيراً، وعلى شهادات ليس لنا منها مفر ولا مهرب، فلنحاسب أنفسنا قبل أن يأتي ذلك اليوم، وتُكشف الأوراق، وتتبينُ الأعمال، وينطقُ الأشهاد، ثم يعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه الكريم، وهدانا للاستمساك بهدي رسولنا الأمين، وجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم...
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه...
أما بعد: عباد الله، فاتقوا الله حق تقواه، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج:1-2].
أيها المسلمون: مع كثرة الشهود يوم القيامة، إلا أن من الناس صنفاً، قد ضلوا وتنكبوا عن الصراط، فلا يعترفون بشهادة، ولا يقبلون شهادة الآخرين عليهم، ولا يعترفون بأحد، فكل الناس في نظرهم أقل منهم، ويظنون أنهم لا زالوا قادرين على شراء شهادة الآخرين بأموالهم، كما كانوا يفعلون في الدنيا، ويحسبون أن بإمكانهم تغطية جرائمهم وفسادهم عن الله، كما كانوا في الدنيا يغطونها عن الناس، بل يفكرون: من ذا الذي يجرؤ للشهادة عليهم؟ وإذا بهم يفاجؤون بختم أفواههم، واستنطاق جوارحهم، (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يس:65].
هذا هو الشاهد الخامس من شهود يوم القيامة، فهؤلاء تشهد عليهم أسماعهم وأبصارهم وجلودهم، وهنا تكون المفاجأة لهم.
يقول الله -تبارك وتعالى-: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) [فصلت:19-24].
فالنار في ذلك اليوم تُذيب القلوبَ التي لم تليِّنها آياتُ القرآن، يُساقون إلى النار في ذلة ومهانة واحتقار؛ لأنهم استهانوا بأوامر الله -عز وجل- في الدنيا.
في هذه الحال سيضطرب ولن يستطيع الكلام لهول المنظر الذي يراه ولا يكاد يصدقه، وعندها لا يستطيع إجابةَ جوارحه إلا بالعتاب الذي لا ينفع.
عباد الله: إن تلك الجوارح التي تحت تصرفنا اليوم، سنفقد السيطرة عليها يوم القيامة، فإما أن تكون شاهدةً لنا بالخير، أو شاهدةً علينا بسيئ أعمالنا.
عبد الله: كم من نظرة محرمة أطلقتها في شاشة ستنطق عيناك بها! وكم من خطوة مشيتها لمعصية الله ستنطق رجلاك بها! وكم قبضة قبضت يداك مما لا يحل لك ستنطق بها يداك! كم من الأموال دخلت بطونَ أناسٍ ظلماً وعدواناً وجوراً واحتيالاً ستنطق أعضاؤهم بها!.
أيها المسلمون: وبعد هذه السلسلة من الشهود، التي لا مفر للعبد منها، حينئذ لا يملك العصاة إلا أن يشهدوا على أنفسهم، وهذا هو الشاهد السادس من شهود يوم القيامة، وهو شهادة الإنسان على نفسه. قال الله -تعالى-: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) [الأنعام:130]، وقال -عز وجل-: (حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) [الأعراف:37]، فهل هناك ذلة وخزي بعد هذا، أن يشهد الإنسان على نفسه؟!.
اللهم إنا نسألك العزيمة على الرشد، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، ونسألك اللهم سترك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: صلوا على البشير النذير، والسراج المنير...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي