هل يعافون؟ (المجاهرة بالمعاصي)

صالح بن عبد الرحمن الخضيري
عناصر الخطبة
  1. تفاوت إثم الذنوب والمعاصي .
  2. خطر المجاهرة بالمعاصي .
  3. بعض صور المجاهرة بالمعاصي .
  4. مفاسد المجاهرة بالمعاصي .
  5. التحذير من المجاهرة بالمعاصي لا يعني التساهل بها سرا .
  6. الحث على التوبة .

اقتباس

معاشر المسلمين: الإنسان في هذه الحياة الدنيا معرض لمعصية الله -تعالى-، ولكن المعصية يختلف إثمها وجرمها بحسب الجهر والإخفاء، فمعصية يستتر بها صاحبها أخف جرما من معصية يعلنها إذ الذي يعلن معصيته ويجاهر بها غير معافى، بل هو...

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله الأمين، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى- وخافوه واخشوه: (فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ) [التوبة: 13].

معاشر المسلمين: الإنسان في هذه الحياة الدنيا معرض لمعصية الله -تعالى-، ولكن المعصية يختلف إثمها وجرمها بحسب الجهر والإخفاء، فمعصية يستتر بها صاحبها أخف جرما من معصية يعلنها إذ الذي يعلن معصيته ويجاهر بها غير معافى، بل هو متعرض للبلاء، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ".

وإن من المجاهرة: أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله عليه ثم يقول: يا فلان علمت البارحة كذا وكذا، وقد بات ربه يستره، ويصبح يكشف ستر الله عنه [رواه البخاري ومسلم].

والمجاهر هو الذي يظهر عمل السوء ولا يبالي باستنكار الناس عليه.

ومجاهرته بعمل السوء، أو قول السوء، دليل على محبته له، وانشراح صدره به، وأنه يتمنى أن ينتشر ذلك، ويشيع بين الناس، ليتجرأ على الوقوع فيه، ولا يتحرج من ارتكابه، وذلك من أجل أن يمارس هو العمل السيء مجاهرة من دون إنكار عليه.

أيها المسلمون: إن المجاهرة بالمعصية ذنب عظيم، والمجاهر إنسان لا يبالي بما يترتب على مجاهرته من عقوبة، إذ هو غير معافى، وإذا كان كذلك فهو على خطر عظيم.

أما غير المجاهر، والذي يحاول التستر بقدر الإمكان إذا ابتلي بشيء من الذنوب، فإن إخفاءه وتستره، دليل على بقية خوف من الله -تعالى-، ولربما دعاه ذلك إلى التقليل من فعل الذنب، أو الإقلاع عنه بالكلية.

ولا شك أن الجهر بالمعصية وإعلان المعصية بأي وسيلة كانت استخفاف بحق الله -جل ثناؤه-، وبحق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبصالح المؤمنين، وفيه نوع من العناد لهم، وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف؛ لأن المعاصي تذل أهلها، وفي ذلك السلامة من إقامة الحد عليه إن كان فيه حد، ومن التعزير إن لم يوجب حدا، وإذا تمحض حق الله، فربنا أكرم الأكرمين، ورحمته سبقت غضبه، فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة، والذي يجاهر يفوته جميع ذلك، يقول: عملت البارحة كذا وكذا، يحدث إخوان السوء من أصدقائه أو من متابعيه، بأنه فعل المعصية الفلانية، ينشر ذلك عبر وسائل وتغريدات -نعوذ بالله من نشر الفساد، ودعوة الناس إليه-: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النور: 19].

إذن، لا يجوز للمسلم أن يجاهر بأي ذنب كان سواء كان هذا الذنب قام هو بعمله أو سمع ورآه، إذ التحدث بهذا الذنب يعتبر إشاعة له، وهو من المجاهرة، قال بعض السلف: "من سمع ببدعة فلا يحكيها لجلسائه لئلا يلقها في قلوبهم".

أيها المسلمون: لنتأمل في واقعنا ومصائبنا لنرى عجائب، ألم يوجد في الناس من يجاهر بإلحاده، ونبذه لشريعة الله، وتركه للصلاة، واتباعه للشهوات؟! ألم تكثر في الأمة الأمراض والبلايا، وفي كل يوم لها قتيل، وفي كل مكان بها علة ومرض، قتل متعمد، وخطف جماعي، ودماء تسيل، وفي كل يوم تحمل الأخبار عن مصيبة وبلية، وفي أرض الشام والرافدين يتضح المشهد، وفي أرض الإسراء والمعراج غير بعيد، انتهاكات ومآس، ومشاهد مغيبة، ولا ندري بماذا نفاجئ غدا من هؤلاء الأعداء، وإذا كان استهداف المدنيين هناك على قدم وثاق، فالحفريات تحت المسجد الأقصى من مشاريع الفساد، ومن الأمور التي باتت تهدد خطر هذا المكان المقدس؟ هذا فضلا عن محاولات للتطبيع، وما تحمله من مشاريع الفساد المقنن، فإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونسأل الله أن يقمع الفساد والمفسدين في كل مكان.

يا إخوة الإسلام: والفساد في الأرض قديم يتجدد، والصراع بين الحق والباطل سنة ربانية ماضية تتكرر، ولكن المصيبة حين يجاهر بالعصيان والشر، وحين يلوذ الأعداء بالقوة، ويستضعف أهل الإسلام، وفي زمن لا يعرف إلا القوة، وحين يتجبر المجرمون في فرض الباطل والمنكر، ويضعف المسلمون عن قول المعروف، وإظهار الحق، إذا كثر الخبث، وخفت صوت الحق، فهنا تكون المصيبة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ، أَوْ يُبْغِضُ الْفَاحِشَ وَالْمُتَفَحِّشَ"، "لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والتفاحش، وقطيعة الرحم، وسوء المجاورة" وحتى يؤتمن الخائن، ويخون الأمين.

وقال: "أَلَا إِنَّ مَوْعِدَكُمْ حَوْضِي، عَرْضُهُ وَطُولُهُ وَاحِدٌ، وَهُوَ كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَمَكَّةَ، وَهُوَ مَسِيرَةُ شَهْرٍ، فِيهِ مِثْلُ النُّجُومِ أَبَارِيقُ، شَرَابُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الْفِضَّةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ مَشْرَبًا، لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا" [رواه الإمام أحمد في مسنده].

وفي الحديث الآخر: إخبار عما يقع في آخر هذه الأمة، وتوصيف للداء، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: "يكون في آخر هذه الأمة خسف ومسخ وقذف" فقالت أم المؤمنين عائشة: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم إذا ظهر الخبث" [رواه الترمذي].

أيها المسلمون: إن من الخطورة أن يفرض الفساد ويجاهر بالمنكر، وفي كتاب الله: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال: 25] وهل يعذب العامة بعمل الخاصة؟

قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "كان يقال إن الله -تبارك وتعالى- لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عُمل المنكر جهارا استحقوا العقوبة كلهم".

ألا وإن من المجاهرة بالفسوق والمعاصي: الاستخفاف بحق الله، والدعوة إلى المعاصي، قال النووي: "من جاهر بفسقه أو بدعته، جاز ذكره بما جاهر به دون ما لم يجاهر به".

أيها المسلمون: لا تحلوا بأنفسكم عقاب الله، وفي الحديث: "لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه" ثم قال: "ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله".

يا قوم: لا تبدلوا نعم الله كفرا، ولا تغتروا بحلم الله، فإن أخذه أليم شديد، مروا بالمعروف وافعلوه، وانهوا عن المنكر واتركوه، وابدؤوا بمن يليكم.

أيها المسلمون: أي حمق أن يستر الله العبد فيفضح نفسه بالمجاهرة؟ وقد سبق قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين" كيف الحال إذا بلغت المجاهرة بالمعاصي والفسوق حد الانتشار والذيوع والعرض على شاشات القنوات والإذاعات، وأعمدة الصحف والمجلات والحسابات، وكاميرات الجوالات، وتقنيات حدثت وما زالت في تزايد وتجدد؟

إنها طوام ومصائب، نبرأ إلى الله منها، ونعوذ بالله العظيم من شرها، أضعفت الإيمان، وجرأت على الفساد والفسوق.

يا قوم يا من تأكلون نعم الله: إياكم أن تستعينوا بما أعطاكم الله من مال وتقنية على معصية الله العظيم.

يا من تسكنون أرض الله: إياكم والإفساد في ملكه.

يا من تقعون تحت سمعه وبصره ومراقبته وعدله: إياكم وخائنة الأعين وما تخفي الصدور، وإياكم والظلم فإن الظلم ظلمات.

يا من لا تعجزون الله في الأرض ولا في السماء: إياكم والتطاول على شرع الله أو انتهاك محرماته، فإن الله -جل ثناؤه- يمهل ولا يهمل، ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، إن أخذه أليم شديد.

وهو الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو يغار وغيرته أن يأتي المؤمن ما حرم عليه.

يا من تخافون عقوبة الدنيا: ألا وإن عقوبة الآخرة أشد وأنكى، ويا من تخشون الفضيحة في الدنيا، فهناك الفضيحة على الملأ من أقطار الأرض والسماء: (لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) [النساء: 148].

اللهم استرنا بسترك الجميل، اللهم لا تفضحنا بين خلقك لا في الدنيا ولا في الآخرة.

اللهم يا حي يا قيوم حبب الأيمان إلى قلوبنا، اللهم كره إلينا الفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدا كثيرا كما أمر، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبيه عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله العلي العظيم ومراقبته جل وعلا.

أيها المسلمون: الإصرار على المعصية، والافتخار بالسيئة، واحتقار الخطيئة علامات على فساد القلب بذهاب الحياء، وانتكاس الفطرة، وعمى البصيرة، ولذا تجد من هذه حاله غالبا لا يفكر في التوبة، ولا يخشى عاقبة الخطيئة، وربما خطرت له التوبة، ولكن يبتلى بالتسويف حتى يفاجئه الموت على حين غرة، فلا تقبل منه توبة عند العاقبة، قال عز وجل: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [النساء: 17 -18].

أيها المسلمون: ولا يعني قبح المجاهرة وسوئها: التساهل بالمعصية سرا، فسوف يحاسب الإنسان عن جميع أعماله قليلها وكثيرها، سرها وعلانيتها، وسيقام عليه الشهود فيما عمل، حتى وإن كان عمله سرا، فهناك جوارحه تشهد عليه: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النور: 24].

وقال جل وعز: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يس: 65].

وقال سبحانه: (وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ) [فصلت: 22].

تستخفون من أنفسكم حذرا من شهادة الجوارح عليكم؛ لأن الإنسان لا يمكنه أن يخفي من نفسه ما يعمله، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَضَحِكَ, فَقَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مِمَّا أَضْحَكُ؟" قَالَ: قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ, يَقُولُ: يَا رَبِّ, أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ قَالَ: يَقُولُ: بَلَى, قَالَ: فَيَقُولُ: فَإِنِّي لا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلا شَاهِدًا مِنِّي، قَالَ: فَيَقُولُ: فَكَفَى بِنَفْسِكَ عَلَيْكَ شَهِيدًا, وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا، قَالَ: فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، وَيُقَالُ لأَرْكَانِهِ: انْطِقِي, قَالَ: تَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ, ثُمَّ قَالَ: يُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلامِ, قَالَ: فَيَقُولُ: بُعْدًا وَسُحْقًا فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ" [رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي النَّضْرِ].

أيها المسلمون: إلى التوبة الصادقة.

العمر ينقص والذنوب تزيد *** وتقال عثرات الفتى فيعود

هل يستطيع جحود ذنب واحد *** رجل جوارحه عليه شهود

والمرء يُسألُ عن سِنِيه فيشتَهِي *** تقلِيلَها وعن المماتِ يحيدُ

اللهم يا من لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، نسألك اللهم أن تعفو عنا وأن تعافينا في ديننا ودنيانا وآخرتنا...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي