الدنيا (1)

زيد بن مسفر البحري
عناصر الخطبة
  1. تهافت الناس على الدنيا .
  2. بيان أن الدنيا خدّاعة .
  3. أمثلة لزوال الدنيا وحقارتها .

اقتباس

مالك بن دينار -رحمه الله- ماذا قال؟ قال: "اتقوا السّحّارة -يعني: الدنيا- فإنها تسحر قلوب العلماء". وصفها بأنها سحّارة، فهي تعطف القلوب إليها، وتصرف القلوب إليها، وتسحر من؟ تسحر حتى العلماء، فما ظنكم بغيرهم؟.

الخطبة الأولى:

أما بعد: فيا عباد الله، ما الدنيا؟ ما حقيقتها؟ ما طبيعتها؟ ما شأنها؟ ما حالنا عليها؟ هذا هو حديثي إليكم في هذا اليوم، وهذا الحديث متمم للحديث السابق الذي سلف في جمعتين سابقتين، تحدثنا فيهما عن المال.

عباد الله: في هذا الزمن قلّ أن تجد تاجرا صدوقا، وأقول: "قلّ"؛ حتى لا أُلام ولا أعاتب على التعميم، فإن هناك من التجار من هو التاجر الصدوق النصوح الذي يراقب الله -جل وعلا- في تجارته والذي يراقب الله -عز وجل- في تعاملاته مع الناس، فقلّ أن تجد تاجرا صدوقا في هذا الزمن، سواء كان على مستوى الأفراد أو على مستوى الشركات، فأما الأفراد فحدث ولا حرج، وأما الشركات فهناك الكذب الصراح الذي يحصل من غالبية الشركات.

فإذا كانت هذه الشركة تتعامل في معدات أو أجهزة أو سيارات فإنها تتعامل بالغش، حيث إن هذا الضمان الذي يُعطاه المشتري نتيجة شرائه لجهاز أو سيارة أو نحو ذلك فإنه في الأصل غير موجود ولا اعتبار له، فيقل في هذا الزمن التاجر الصدوق.

ويقل في هذا الزمن -أيضاً- العامل النصوح، فإن العامل إذا كلفته بعمل، ثم غبت عنه طرفة عين، يتوانى في عمله، كل ذلك ناتج من أن الغالبية العظمى جعلت الدنيا مصبّ اهتماماتها، ومحط أنظارها، فالغالبية العظمى لا تنظر إلا إلى الـمادة.

البعــض -وللأسف!- يجعل هذه المادة نصب عينيه، المال هو المُقدّم، لهذه الدنيا يعطي ويمنع، من أجلها يرضى، من أجلها يغضب، من أجلــــها يقاطع، من أجلها يحارب، من أجلها يغش، يكذب، يخادع.

وهناك صنف آخر، أصبحت المناظر هي محط أنظارهم، فالبعض لا يتشوف إلا إلى المناصب المرموقة؛ لأنّ الرئيس إذا كان في دائرة ما أو الموظف إذا كان في دائرة ما، فإنه يتشوّف إلى المنصب الذي يعلوه حتى ولو كان ذلك على حساب دينه، البعض قد يضحي بدينه من أجل عرض من أعراض الدنيا، ونسوا -أو تناسوا- حياتهم الأخروية: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت:64]، الحيوان: الحياة الحقيقية، وحينها يقول المرء: (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) [الفجر:24].

مالك بن دينار -رحمه الله- ماذا قال؟ قال: "اتقوا السّحّارة -يعني: الدنيا- فإنها تسحر قلوب العلماء". وصفها بأنها سحّارة، فهي تعطف القلوب إليها، وتصرف القلوب إليها، وتسحر من؟ تسحر حتى العلماء، فما ظنكم بغيرهم؟.

ولذا فإنه قد يُخشى على العالم من هذه الدنيا، كما يُخشى على غيره من سائر الناس، ولا أدل من قول الله -جل وعلا- عن ذلك الرجل الذي منحه الله أعظم منحة، وهي العلم، ولكنه ترك، وأعرض: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث) [الأعراف:175-176].

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا)، آتاه الله -عز وجل- هذه الآيات التي بها يرتفع في دنياه وفي آخراه، (فَانسَلَخَ مِنْهَا)، انظر إلى هذا التعبير! لم يقل: تركها، وإنما قال: انسلخ منها، كما يُسلخ الجلدُ من على ظهر الشاة، وإذا سُلخَ الجلد فإنه ليس بالإمكان أن يُعاد الجلد على ظهرها. ما النتيجة؟ ما الخبر؟ ما الأمر؟ (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ)، لا تظن أنك إذا تركتَ الدين، أو تركتَ شيئا من هذا الدين أنّ الشيطان عنك بمعزلٍ، أو مغفل، لا، ومن حين أن ترك الآيات قال -جلا وعلا-: (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا)، ولكن؛ ما الذي طمحت إليه نفسه الدنيّة؟ قال -جلا وعلا-: (وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ)، ما هكذا ينبغي أن يخلدَ إلى الأرض، وأن يتبعَ الهوى، وصفه -جل وعلا- بأقبح صفة، وبأخس الحيوانات، بالكلب، (إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث).

"اتقوا السّحّارةَ؛ فإنها تسحر قلوب العلماء"، فمن هو هذا العاقل الحصيف الذي يطمئن إليها أو يركن إليها؟.

ثم إنّ العبد إذا انغمس في هذه الدنيا فإنّ الأعداء يتربصون به، كما قال الشاعر:

إني ابتُليتُ بأربـعٍ ما سُــلطـوا *** إلا لشـدة شــقـوتـي وعنائي

إبليس والدنيا ونفسي والهوى *** كيف الخلاص، فكلهم أعدائي

الدنيا تزيّنت للبعض، فأعمت أبصارهم، وأصمّت آذانهم، وأغلقت قلوبهم، فاجتنوا منها ماذا؟ اجتنوا منها حسرة، بل حسرات تتقطع منها الأكباد؛ ولذا قال بعض الحكماء: "الدنيا إذا حلتْ أوحلت"، أي: إذا استحلاها المرء أوقعته في الوحل، وهو الطين المتسرب فيه الماء، يقول: "إذا حلت أوحلت، وإذا كست أوكست... وإذا جلت -يعني: ظهرت- أوجلت".

النبي -عليه الصلاة والسلام-  كما في السنن مرّ على جديٍ قد ارتفع قدمه، وهو ميت من شدة انتفاخ بطنه، فأمسك به -عليه الصلاة والسـلام- وقال للصحابة: "أتظنون أنّ هذا قد هان على أهله؟"، قالوا: يا رسول الله، إنّ من هوانه أنهم ألقوه. فقال -عليه الصلاة والسلام-: "لَلدنيا أهون عند الله من هذا عند أهله".

يقول بعض الحكماء: "الدنيا دار من لا دار له، ولها يجمع من لا عقل له، من سلم فيها هرم -لو سلمتَ من الأمراض مآلك إلى الهرم، إلى أن تكون مخرفا- من افتقر فيها حزن، من استغني فيها فُتِن، حلالها حساب، وحرامها عقاب، ومتشابهها عتاب، من سعى إليها فاتته، ومن قعد عنها أتته، لا الخير فيها يدوم، ولا الشر فيها يبقى".

"حلالها حساب"، ولذا قال -عليه الصلاة والسلام- كما في السنن: "يدخل الجنة الفقراء قبل الأغنياء بنصف يوم، بخمسمائة سنة".

يقول الشاعر:

عليك بتــقـوى الله واقنـع برزقـه *** فـخير عباد الله مَـــن هـو قــانعُ

ولا تلهك الدنيـا ولا طمـع بها *** فقد تهلك المغرورَ فيها المطامعُ

وقال آخر: زخارف الدنيا أساس الألمْ.

نعم! ولذا قال -عز وجل- عن المنافقين: (فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة:55].

زخارف الدنـيـا أسـاس الألمْ *** وطالب الدنيا نديم الندمْ

فكن خلي البال من أمرهـا *** فكل ما فيها شقــاءٌ وهمّْ

عبادَ الله: هذه المقدمة، تتناسب مع حديثٍ يحدثنا به ذلك العالم الجليل، المُلَقب بـ "شمس الدين"، والمُكنى بـ "أبي عبد الله"، محمد بن أبي بكر الزُرعي ، التلميذ الأوحد لشيخ الإسلام رحمة الله عليه، الذي انتفع منه انتفاعا كثيرا، وهو ابن القيم الجوزية.

هذا الإمام إذا تحدث فإنه يتحدث من واقع تجربة، قد أجرى الله -عز وجل- على لسانه وعلى قلمه النورَ والخير، وإنني في هذا المقام أنصح كلَّ مسلم -فضلاً عن طالب علم- أن يكثر من قراءة كتب هذا العالم الجليل، فبقراءة كتبه يزداد الإيمان ويرتفع ويتعالى.

ذكر -رحمه الله- في كتابه "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين"، ذكر حقارة الدنيا، وضرب لذلك اثنين وعشرين مثالا.

ولا يعني في هذا المقام أننا نقلل من شأن الدنيا، وأننا لا نعبأ بها ولا يُسعى لها، كلا! الإسلام لا يدعو إلى هذا، وإنما التحذير يُوَجَّه إلى من جعل قلبه وقالبه لهذه الدنيا، وسيكون لهذه الفقرة مزيد حديث إن شاء الله -تعالى-.

فذكر -رحمه الله- اثنين وعشرين مثالا، أذكر أجملها وأخصرها، وأُصيغ أسلوبه الرصين بأسلوبي الضعيف، حتى يُفهَم كلامه، لأنّ كلامه كلام بليغ رصين.

يقول -رحمه الله-: شهوات الدنيا في القلب كشهوات الأطعمة، الطعام كلما كان أحلى طعما، وألذّ أكلا، فانظر إلى رجيعه، انظر إلى نهايته، فإنه يكون أنتن وأخبث ما يكون، فكذلك الدنيا.

يقول -رحمه الله-: "كل شهوة في الدنيا كانت في قلب العبد، فإنه سيجد نتانةً وخبثا أشد من نتانة الطعام الذي تخرج منه فضلاته، ودليل ذلك ما جاء في مسند الإمام أحمد أنّ النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: "إن مطعم ابن آدم ضرب مثلا للدنيا، وإن قزَّحه وملّحه فانظر إلى ماذا يصير"! الطعام لو قزَّحته، يعني تبّلته، وملحته وأصبح لذيذا، فانظر إلى عاقبته، فكذلك الدنيا وشهواتها.

المثال الثاني: ما مثّل به النبي -عليه الصلاة والسلام- كما في سنن الترمذي وابن ماجة أن الدنيا كشجرة، قال: "ما لي وللدنيا! إنما مثلي ومثل الدنيا كرَجُلٍ استظلّ تحت ظلِّ شجرة ثم راح وتركها".

انظر إلى حسن هذا المثال، شبه النبي -عليه الصلاة والسلام- الدنيا بالشجرة، الشجرة خضرة، نضرة، وكذلك الدنيا، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن الدنيا خضرة نضرة"، فهي نضرة خضرة، لكن؛ هل هذه الخضرة، هل هذا النعيم يبقى؟ لا! ولذا شبه انقضاءها بالظل، فالظل يتقلص شيئا فشيئا حتى يزول كله، ونحن في هذه الدنيا بمثابة المسافرين، ليست هذه الدار -والله- دار قرار لنا، وإنما هي دار ممرّ، فالعبد مسافر إلى الله -عز وجل-.

تصور لو أن أحدنا سافر من الرياض إلى مكة، ثم في حر الظهيرة رأى شجرة لها ظلٌّ ظليل، فوقف عندها وبنى بيتا واشتغل في هذا المكان، ماذا يُعدُ؟ سيُعدُ من المجانين.

ولذا؛ فالعاقل هو الذي إذا أتى إلى مثل هذه الشجرة، يبقى فيها قدر حاجته، فإنه متى ما بقي فيها انقطع عن رفاقه، وانقطع عن الخير.

مثال آخر: ما مثّلها به النبي -عليه الصلاة والسلام- كما جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب بهم، فقال: "لا والله ما أخشى عليكم إلا ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا"، فقال رجل: يا رسول الله، أو يأتي الخير بالشر؟ فصمت -عليه الصلاة والسلام-، ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: "ماذا قلتَ؟"، قال: أو يأتي الخير بالشر؟ فقال -عليه الصلاة والسلام-: "إن الخير لا يأتي إلا بخير، وإن مما يُنبت الربيع مما يقتل حبْطاً أو يلم -يعني: يقارب- إلا آكلة الخضر، أكلت حتى إذا امتلأت خاصرتاها –وهما جانبا البطن- استقبلت الشمس فثلطت -يعني رجّعت- وبالت ثم اجتّرت ثم قامت فأكلت، فمن أخذ مالا بحقه بورك له فيه، ومن أخذ مالا بغير حقه كان كمن يأكل ولا يشبع".

انظر إلى حسن هذا المثال، النبي -عليه الصلاة والسلام- سمّى الدنيا أو شبّه الدنيا بأنها زهرة، الزهرة يروق للناظر ألوانها، ويروق للشامّ رائحتها، لكن؛ أيبقى الزهر أم يفنى؟ مآله إلى الفناء، وكذلك هذه الدنيا، ولذا قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن مما ينبت الربيع، مما يقتل حبطا أو يلُم"، ما معنى هذا الكلام؟ معنى هذا الكلام: الربيع تزدان به الأرض خضرةً، وإذا رأته المواشي راقَ لها فجعلت تأكل مع فمها بعينها، فتقبل على هذا الربيع شَرَهاً، حتى ينتفخ بطنها، وهذا هو الحبط الذي به تهلك المواشي أو يلم، يعني تكاد أن تُقتل من كثرة أكلها لهذا الربيع.

فكذلك طالب المال الذي يقبل عليه بشَرَه، يقتله أو يكاد أن يقتله. وهذا مُشاهَدٌ ملحوظ. انظر إلى من أشغف قلبه بهذه الدنيا، ما الذي ألمّ به من الأمراض؟ الضغط، السكر، القلق، التوتر، أمراض القلب بشتى أنواعها.

ثمّ استثنى -عليه الصلاة والسلام- آكلة الخضر، وهي الشاة التي تأكل الخضر من الربيع، حتى إذا امتلأت خاصرتاها أغفلت ما يضرها، وهو الأكل والزيادة في الأكل، وأقبلت على ما ينفعها، وهو استقبال الشمس، فثلطت، وبالت، ثم اجترّت حتى أخرجت ما في بطنها من هذه الفضلات التي لو أدخلت عليها عشبا آخر لقتلها، فلما اجترت وبالت واستقبلت الشمس قامت فأكلت، وهكذا، سلمت، وكذلك طالب المال إذا لم يخرج هذا المال في حقه، كما أخرجت هذه الشاة هذه الفضلات يكون القتل والموت إليها سريعا.

مثال آخر: إنّ هذه الدنيا كإناءٍ مملوءٍ عسلا بما فيه من اللذة والحلاوة، قال: فأتى الذباب، فبعض الذباب اقتصر على حافة الإناء فأخذ من هذا العسل بقدر حاجته فسلم، وكثير منهم زاده شرهه إلى أن وقع في الإناء فما لبث أن مات فيه، وكذلك طالب الدنيا. وما أحسن هذا المثال الذي مثّل به -رحمه الله-.

مثال آخر: مثال حَبٍّ نُثَر على وجه الأرض، وجُعل على وجه الأرض فخاخ، وجُعل حول الفخاخ حَبّ، وجُعل داخل الفخاخ حبٌ كثير، فجاءت الطير، فبعض الطيور اكتفت بما هو حول هذه الفخاخ، فجعلت تأكل بقدر حاجتها ثم طارت، لكنّ البعضَ من هذه الطيور دخل إلى هذه الفخاخ، دفعه شرهه إلى أن يقتحم الفخاخ، فما لبث أن استتمّ هالكا.

مثال آخر، قال -رحمه الله-: كمثل رَجُلٍ أوقد نارا فجعل الفراش وهذه الطيور يقعن فيها، أما من له علم وبصيرة بهذه النار فإنه ينتفع منها فيستدفئ ويستنير بها بقدر حاجته.

قد أشار النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى ذلك كما في الصحيحين من حديث أبي موسى -رضي الله عنه- أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: "إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الطيور التي يقعن في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهنّ ويغلبنه، فكذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحُجزكم عن النار، هلمّوا عن النار! هلمّوا عن النار! فتقتحمون فيها وتغلبُونني".

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنّ ربي كان غفورا رحيما.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن ّمحمدا عبده ورسوله إمام المهتدين المقتدين، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا عبادَ الله، مثال آخر، عن هذه الدنيا وعن حالها: مثالها كقوم خرجوا مسافرين، ومعهم أموالهم وأولادهم حتى أتوا إلى وادٍ معشب كثير المياه، فاستوطنوا في هذا الوادي، فبنوا فيه الدور والقصور، فبينما هم على هذه الحال وقد استتمّ حالهم أتاهم آتٍ، يعرفون نصحه وأمانته، فقال: يا قوم، إني رأيتُ الجيشَ بعينيّ خلف هذا الوادي، فاتبعوني أسلك بكم طريقا تنجون به من هذا الجيش، فاتّبعته طائفة قليلة، فصاح بهم: يا قوم، النجاةَ النجاةَ! النجاة النجاة! فإني رأيت الجيش خلف هذا الوادي، وصاح السامعون الذين اتبعوه بأهليهم: يا قوم النجاة النجاة! فلم يعبؤوا بهم، وقالوا: كيف لنا أن ندعَ هذا الوادي وفيه أموالنا، وفيه دورنا وقصورنا، وقد استوطنّاه؟! فقال لهم هذا الناصح: انجوا بأنفسكم، وإلا فكل واحد مأخوذ، وماله مجتاح، فثقُل على أصحاب الأموال مفارقة هذا الوادي المعشب، كثير المياه، وثقل عليهم مفارقة هذا النعيم، فصبَّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم.

وقد مثل النبي -عليه الصلاة والسلام- بهذا كما جاء في الصحيحين من حديث أبي موسى -رضي الله عنه- أنّ النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: "إنما مثل ما بعثني الله -عز وجل- به كرجل أتى إلى قومه، فقال: يا قوم، إني رأيت الجيش بعينيّ هاتين، وأنا النذير العريان، فالنجاةَ النجاة! فأطاعته طائفة من قومه فأدلجوا -يعني: ساروا من أول الليل- فأدلجوا فانطلقوا على مهلهم، وكذّبته طائفة فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم، فكذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئتُ به، ومثل من عصاني وكذّب ما جئتُ به من الحق".

 وللحديث تتمة إن شاء الله -تعالى- في الجمعة القادمة.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي