فقه الاغتسال

محمد بن عبدالله السحيم
عناصر الخطبة
  1. الاستعانة على العبادة بإدراك بعض غاياتها .
  2. منزلةُ غسلِ الجنابة .
  3. فضله .
  4. الأسباب الموجبة له .
  5. محظورات الجنابة .
  6. مسنوناتها .
  7. صفة الغسل .
  8. آدابه وسننه .
  9. حكم غسل الجمعة .
  10. فضله .

اقتباس

هذا، وإن من أعظم العبادات التي تنمّ عن قوة الإيمان، واستشعار مطالعة الرب، وعمارة القلب بالخوف منه: الاغتسالَ من الجنابة.

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي شرع ديناً قويماً، وهدى من أحب صراطاً مستقيماً، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ إجلالاً وتعظيماً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

أما بعد، فاتقوا - عباد الله -، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ).

أيها المؤمنون: العبادات شرعت لغايات وحكم، ينظم عقدَها تحقيقُ العبودية لله -سبحانه-، والانقيادُ لأمره، والتطهر من وضر الخطيئة، كما قال -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56]، وقال -سبحانه-: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة:6].

وإدراك تلك الغايات من أعظم ما يعين على القيام بالعبادة واستتمامها، سيما ما تكرر حصوله منها، وكثر فعله.

هذا، وإن من أعظم العبادات التي تنمّ عن قوة الإيمان، واستشعار مطالعة الرب، وعمارة القلب بالخوف منه: الاغتسالَ من الجنابة. قَالَ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خمسٌ من جَاءَ بِهن مَعَ إِيمَان دخل الْجنَّة: من حَافظ على الصَّلَوَات الْخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن، وَصَامَ رَمَضَان، وَحج الْبَيْت إِن اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا، وَآتى الزَّكَاة طيبَة بهَا نَفسه، وَأدّى الْأَمَانَة"، قيل: يَا رَسُول الله، وَمَا أَدَاء الْأَمَانَة؟ قَالَ: "الْغسْل من الْجَنَابَة؛ إِن الله لم يَأْمَن ابْن آدم على شَيْء من دينه غَيرهَا" رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد جيد كما قال المنذري.

غسل الجنابة في الرقاب أمانة *** فأداؤها من أكمل الإيمانِ

وذلك الاغتسال من أعظم ما تُكفّر به الذنوب، كما قال الله -سبحانه- إثر الأمر به: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) [المائدة:6].

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ -أَوِ الْمُؤْمِنُ- فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ -أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ-، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ -أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ-، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ -أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ- حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ" رواه مسلم. هذا في الوضوء الذي تختص به بعض الأعضاء؛ فكيف بالغسل الذي يعمّ البدن؟!.

أيها المسلمون: وفقه الاغتسال من ألزم ما ينبغي للعبد علمه، وذلك من خلال معرفة أسبابه، ومحظوراته، وصفته، وآدابه؛ ليؤدي تلك الأمانة كاملة كما شرع الله ورضي.

فالاغتسال عبادة تجب بالمعاشرة الزوجية ولو لم يكن هناك إنزال؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ ثُمَّ جَهَدَهَا، فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ، وإن لم يُنزل" رواه مسلم.

وهكذا يجب الاغتسال بخروج المني حال النوم مطلقاً، وكذا حال اليقظة إن كان خروجه بشهوة؛ فقد جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ -رضي الله عنها- إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ، فَهَلْ عَلَى المَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا رَأَتِ المَاءَ" أي: المني. رواه البخاري ومسلم، وقال: " إِذَا رَأَيْتَ الْمَذْيَ فَاغْسِلْ ذَكَرَكَ، وَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، فَإِذَا فَضَخْتَ الْمَاءَ فَاغْتَسِلْ" رواه أبو داود وصححه ابن حبان.

وعلامة المني أن يكون كثيراً لزجاً ثخيناً، وذاك ما يميزه عن غيره. وإن شك في الخارج: هل هو مني أو لا؟ فالأصل عدم المني؛ فلا يلزمه الغسل، وإنما يلزمه غسل ذكره والوضوء إن أراد الصلاة ونحوها.

وانقطاع دم الحيض والنفاس للمرأة مما يجب به الغُسل؛ لقوله -تعالى-: (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) [البقرة:222].

ومن أصابه حدث أكبر فإنه يُمنع من العبادات التي تشترط لها الطهارة حتى يغتسل، وتلك العبادات هي: الصلاة، والطواف، وتلاوة القرآن، ومس المصحف، والمكث في المسجد، غير أنه لم يثبت الدليل في منع الحائض والنفساء من تلاوة القرآن ومس المصحف من وراء حائل، سيما إن احتاجت إلى ذلك، كمراجعة حفظ ودراسة وتدريس فيباح لها ذلك؛ لعدم المانع، كما اختار ذلك شيخ الإسلام.

وما عدا هذه العبادات فإن مَن عليه حدث أكبر لا يمنع منه، كالأذكار، والأدعية، والاستغفار، ورد السلام، وتشميت العاطس.

وإن لم يجد الجنب الماء, أو كان عاجزاً عن استعماله حقيقة أو حكماً؛ فإنه يعدل إلى التيمم، فهو في مقام الماء، كما أخبر الله -جل شأنه-، ومتى ما وجد الماء أو قدر عليه؛ فليتق الله وليمسه بشرته.

أيها المؤمنون: والاغتسال على نوعين، تحصل الطهارة بأيهما، وهكذا ارتفاع الحدث، قالت عائشة -رضي الله عنها-: "كان النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- لَا يتَوَضَّأ بعد الْغسْل" رَوَاهُ النَّسَائِيّ والترمذي وقال حسن صحيح.

النوع الأول: الاغتسال المجزئ؛ وذلك بأن يفيض الماء على بدنه فيعمَّه، فقد أَعْطَى النبي صلى الله عليه وسلم- الَّذِي أَصَابَتْهُ الجَنَابَةُ إِنَاءً مِنْ مَاءٍ، قَالَ: "اذْهَبْ فَأَفْرِغْهُ عَلَيْكَ" رواه البخاري، وهذا هو القدر الواجب في الغسل.

والنوع الثاني: الاغتسال الكامل؛ وذلك بأن يغسل يديه ثلاثاً، ثم يغسل فرجه وما أصابه المني، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يحثو على رأسه ثلاث حثوات من الماء تروي أصولَ شعره، ثم يفيض الماء على بدنه مبتدئاً بشقه الأيمن، وذاك ما كان يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم- ، كما وصف ذلك زوجتاه عائشة وميمونة -رضي الله عنهما- فيما روى البخاري ومسلم. وإن مست يده فرجه أثناء اغتساله انتقضت طهارته، ولزمه الوضوء.

ولا يجب المبادرة بالاغتسال إلا عند حضور عبادة يشترط لها الطهارة. ويحرم الإسراف في استعمال الماء ولو في الاغتسال؛ فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع، كما روى أنس -رضي الله عنه- في الصحيحين.

ويُنبّه إلى عناية المغتسل بالمغابن، كالإبط، وما بين الإليتين، وما يبعد وصول الماء إليه، مثل ما يكون تحت الشعر، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعْرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يَغْسِلْهَا فُعِلَ بِهَا كَذَا وَكَذَا مِنَ النَّارِ" رواه أبو داود وسكت عنه [فهو صالحٌ] وصححه ابن حجر والقرطبي. ولا يبلغ به ذلك حدَّ الوسواس، وإنما هو التعاهد بما يغلب على الظن.

ومن أصبح صائماً وهو جنب صح صومه، ولا يفسد الصوم إلا بجماع، أو نزول مني بشهوة.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

وبعد: فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله...

أيها المؤمنون: ومن سنن الغُسل المستحبة الاغتسال يوم الجمعة، فإن استحبابه متأكد، بل قال بعضهم بوجوبه؛ أخذاً بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم" رواه البخاري ومسلم.

وفي فضله يقول: "مَنِ اغْتَسَلَ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ، فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ، ثُمَّ أَنْصَتَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَفَضْلُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ" رواه مسلم.

ويسن للجنب الوضوء عند إرادته الطعام والشراب والنوم، تقول عائشة -رضي الله عنها -: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إِذا أراد أن يأكل، أو ينام، وهو جُنُبٌ، توضَّأ وضوءه للصَّلاة" رواه مسلم.

وهكذا يسن له الوضوء إن أراد معاودة معاشرة أهله قبل أن يغتسل، يقول رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ؛ فَلْيَتَوَضَّأْ" رواه مسلم.

وبعدُ، إخوة الإيمان: هكذا يصبغ دين الإسلام حياة أهله بالعبودية الشاملة لله -تعالى- حتى فيما يمارسونه وفق شهوتهم التي أباحها، ورأينا كيف ينقِّلهم في مدارج الإيمان برعاية ما استأمنهم عليه، وكيف كانت تلك الشعائر مطهرة لذنوبهم كما كانت مطهرة لقلوبهم وذنوبهم؛ فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

وشريعة الإسلام أفضل شرعة *** دين النبي الصادق العدنانٍ

هو دين رب العالمين وشرعه *** وهو القديم وسيد الأديان

هو دين آدم والملائك قبله *** هو دين نوح صاحب الطوفان

وكمال دينِ الله شرعُ محمد *** صلى عليه منزِّلُ القرآن


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي