هذه صورة مصغرة للحياة التي نعيش فيها، فالعمر كالعام الدراسي له بداية وله نهاية مؤكدة، كلنا يؤمن بها، نؤمن بأننا سنرحل من دار الغرور، إلى دار السرور، أو إلى دار الويل والثبور؛ (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران:185]، فما من حي -إلا الله- إلا سيموت، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن:26-27].
الحمد لله، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا) [الكهف:1]، هو الإله الحق، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله تفرد بالبقاء، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى.
الجذع حنّ إليك يا خير الورى *** كيف النفوس إليك لا تشتاقُ
صلى عليك الله ما لاحت لنا *** شمسٌ وما اهتزت هنا أوراقُ
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه تسليما كثيرا.
أما بعد: فيا عباد الله، أيها المسلمون، بعد غدٍ يدخل الطلاب والطالبات قاعات الاختبارات بعد أن أمضوا عاما دراسيا كاملا، في هذا العام تركوا يفعلون ما يشاؤون، من أراد أن يجتهد اجتهد، ومن أراد أن يفرط فرط, فكلهم يعلمون أنهم سوف يختبرون، وأن العام الدراسي لا بد له من نهاية يحاسب فيها الطلاب، ويأخذون نتيجة ما عملوا.
ومع هذا نجد أن أكثر الطلاب والطالبات لا يهتمون ولا يجتهدون؛ لكنهم إذا كبروا ورأوا من سبقهم من أقرانهم وما أصبحوا فيه من وضع مادي أو اجتماعي ندموا على التفريط، وتمنوا لو أنهم اجتهدوا في هذه السنين، بل منهم من صار يدرس ويتعلم فانتسب إلى جامعة أو التحق بدورة أو غيرها لعله يلحق بأولئك الذين سبقوا.
عباد الله: هذه صورة مصغرة للحياة التي نعيش فيها، فالعمر كالعام الدراسي له بداية وله نهاية مؤكدة، كلنا يؤمن بها، نؤمن بأننا سنرحل من دار الغرور، إلى دار السرور، أو إلى دار الويل والثبور؛ (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران:185]، فما من حي -إلا الله- إلا سيموت، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن:26-27].
لكن العام الدراسي معلوم متى ينتهي، والطالب أمامه فرصة للتعويض ولو في ليلة الامتحان، أما العمر فلا ندري متى ينتهي، لا يعلم وقت رحيلك إلا الله! (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لقمان:34].
وهذه هي المصيبة، لو كان الإنسان يدري متى يموت تاب قبل الموت بأيام؛ لكنه لا يدري متى يموت, وهذا هو الذي قطع قلوب العابدين، وأسهر ليل الصالحين؛ لذا، لا بد أن نكون مستعدين للرحيل بزاد من التقى.
تزود من التقوى فإنك لا تدري *** إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجرِ
لنستعد لتلك اللحظة التي يفارق فيها الحبيب حبيبه، والخليل خليله، تلك اللحظة التي نقبل فيها على عالم جديد، وحياة جديدة؛ تلك اللحظة التي نصبح فيها في عالم الموتى، تلك اللحظة التي نصبح فيها بين ثنايا التراب.
استعدوا -أحبتي في الله- بعمل صالح يكون أنيسا لكم في القبر، فغدا لا أنيس ولا جليس إلا ما قدمتم من عمل، إن كان العمل صالحا كان نعم الجليس، وإن كان سيئا كان بئس الجليس.
من عمل صالحا يأتيه عمله الصالح على صورة شاب حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يأتي الخير، فيقول: أنا عملك الصالح، أنا الصلاة، أنا الصيام، أنا القيام، أنا القرآن، أنا الليالي والأيام التي قضيتها في طاعة الله، وصبرت فيها على ما يرضي الله.
ومن عمل السيئات يأتيه عمله الخبيث على صورة شاب قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يأتي بالشر؛ فيقول: أنا عملك الخبيث، أنا الصلاة التي ضيعت، أنا الغناء الذي سمعت، أنا الزنا الذي قارفت، أنا الخيانة التي خنت على مواقع التواصل، أنا الليالي والأيام التي قضيتها في معصية الله، وتمتعت فيها بما حرم الله.
قال -عليه الصلاة والسلام-: "يتبع الميت ثلاثة: أهله، وماله، وعمله؛ فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله ويبقى عمله" رواه مسلم عن أنس -رضي الله عنه-.
الطالب في الامتحان يجرد من كل شيء، فلا كتاب و لا أوراق ولا غيرها، ليس معه إلا ما تحصل في ذهنه من مذاكرته؛ والعبد في قبره يجرد من كل شيء، من ماله وأهله ولباسه, وليس معه إلا ما عمل؛ لكن قاعة الامتحان واسعة؛ أما القبر فضيق إلا من وسعه الله عليه، قاعة الامتحان مضاءة، أما القبر فمظلم إلا من نوره الله عليه، في قاعة الامتحان الأسئلة من بشر، والمراقبون بشر، أما في القبر فيأتيه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر والآخر النكير، في قاعة الامتحان الأسئلة مجهولة لكن الإجابة سهلة، أما في القبر فالأسئلة معلومة لكن الإجابة صعبة إلا على من ثبته الله، (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) [إبراهيم:27].
الطالب ترك يفعل ما يشاء، فقد أنذر وخوف بالنتيجة في آخر العام, والعبد في هذه الحياة ترك يفعل ما يشاء، قال الله -تعالى-: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) [فصلت:40]، والمعنى: اعملوا ما شئتم فإن لكم موعدا تجازون فيه بما عملتم، فلا تغتر عبد الله وأنت تعصي الله بالليل والنهار ولا ترى عقابا من الله، فقد خلق الله الخلق وتركهم يفعلون ما يشاؤون، وأنذرهم يوما رهيبا تشيب له النواصي، وتندك الجبال الرواسي.
أنذرهم يوما يأتي فيه للقضاء بين عباده، أنذرهم يوما ينتقم فيه الجبار ممن عصاه، ممن تعدى حدوده، ممن جعله أهون الناظرين إليه، قال الله -جل وعلا-: (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) [الفجر:21-26].
إنه اليوم الذي يبطش فيه الجبار بطشته الكبرى، قال ربنا -جل وعلا-: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر:3]، سوف يعلمون إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه أن الله لم يكن غافلا عما يعملون.
يوم القيامة يغضب الجبار على من عصوه؛ لأنه تركهم يفعلون ما يشاؤون، وحذرهم يوما يجازون فيه على ما عملوا.
لذا؛ لما يطلب الناس من آدم -عليه السلام- أن يشفع لهم عند الله لفصل القضاء يعتذر ويقول: "إن الجبار قد غضب غضبا ما غضب قبله بعده، ولن يغضب بعده مثله".
عباد الله: الطلاب يعلمون أن العام الدراسي له نهاية يحاسبون فيها، لكن أكثرهم لا يجتهدون؛ والناس يعلمون أن العمر له نهاية يحاسبون بعدها، لكن أكثرهم غرتهم الحياة الدنيا وغرهم بالله الغرور، وفرطوا في جنب الله، وتسابقوا لمعصيته.
وكما أن الطالب المفرط سيندم على تفريطه، فالعبد المفرط سيندم على تفريطه، مع الفارق العظيم بين الفريقين؛ فالطالب سيعيش وإن لم يتعلم، أما العبد المفرط فلن يعيش إلا في شقاء يتبعه شقاء؛ لأنه بين أطباق النار، فحياة في النار ليست حياة، الموت خير منها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ) [فاطر:36-37].
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة:2-4]. وصلى الله وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا معاشر المسلمين، أيام الاختبارات تحمل شرا كثيرا على الطلاب والأسر والمجتمع؛ لذا -أيها الآباء- اقتربوا من الأبناء والبنات في أيام الاختبارات، قفوا معهم، ساعدوهم، انصحوهم، وجهوهم، حذروهم قرناء السوء، ومن أذية الناس في بيوتهم أو أسواقهم أو شوارعهم.
واحرصوا على تواجدهم في المنزل أيام الامتحان، ففي هذه الأيام ينشط شياطين الإنس. تعاونوا مع المدرسة واعرفوا وقت خروج أبنائكم من قاعة الامتحان، ثم تواصلوا معهم واعرفوا أين يذهبون.
أيام الاختبارات ينشط فيها تجار المخدرات، يغرون فيها الأولاد والبنات، ويوهمونهم أنها تساعد على المذاكرة والتفوق؛ حتى يوقعوهم فيها، ثم يأخذوا أموالهم، وربما وصلوا إلى أعراضهم؛ فاحرصوا على توعية أبنائكم، وحذروهم من هؤلاء الأشرار.
كما أن أيام الاختبارات ينشط فيها أهل الفواحش وتجار الجنس، فنبهوا الأولاد والبنات، وحذروهم من الفاسدين، ومن الركوب مع أحد في سيارته إلا من تعرفونه وتثقون فيه.
أيها الطلاب والطالبات: أسأل الله لكم المعونة والتوفيق، وأوصيكم أن تعتمدوا على الله لا على أنفسكم؛ فمن توكل على الله كفاه، ومن استعان بالله أعانه.
ثم احذروا من رمْي الكتاب في الممرات والطرقات، ففيها اسم الله، وكلام الله، وكلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أيها الشباب: إننا نرى كل عام من بعض شبابنا أفعالا تدل على ضعف في التربية وتقدير المسؤولية واحترام الآخرين، نرى شبابا يفحطون ويغنون ويدخنون ويؤذون الناس في طرقاتهم وأسواقهم لا يعرفون لكبير ولا لصغير ولا لامرأة حقا، فابتعدوا عن هذه التصرفات، وقدموا للمجتمع صورة حسنة عنكم وعن أسركم؛ فأنتم لا تمثلون أنفسكم، بل تمثلون أهلكم ومجتمعكم.
عباد الله: لنتعاون جميعا للقضاء على الظواهر السيئة التي نراها في الامتحانات، ولنقف صفا واحدا أمام كل عابث ومستهتر.
أيها الآباء: إن حرصنا على دنيا أبنائنا يجب أن يصاحبه حرص على دينهم، فلن تنفع الدنيا إذا ضاع الدين.
وكل كسر لعل الله جابره *** وما لكسر قناة الدين جبران
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6].
هذا وصلوا وسلموا على رسول الله؛ امتثالا لأمره -جل وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابعي التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي