امتحان الدنيا وامتحان الآخرة (4)

أحمد شريف النعسان
عناصر الخطبة
  1. شتان بين امتحان الدنيا وامتحان الآخرة .
  2. حتمية الرحيل من الدنيا والاستقرار في الآخرة .
  3. فداحة الرسوب في امتحان الآخرة .
  4. بعض الرسوب في امتحان الآخرة .
  5. استحضار الآخرة عند كل قول وعمل .

اقتباس

خَسَارَةُ الدُّنيَا إذا قُورِنَت بِخَسَارَةِ الآخِرَةِ فإنَّهَا لا شَيءَ, وإخفَاقُ العَبدِ في امتِحَانِ الدُّنيَا إذا قُورِنَ بِإخفَاقِهِ في الآخِرَةِ فإنَّهُ لا شَيءَ. الإخفَاقُ في الآخِرَةِ والرُّسُوبُ فِيهَا خَسَارَةُ الأَبَدِ, وحَسْرَةُ السَّرمَدِ, وأَلَمٌ لا يَنفَدُ, ونَدَمٌ لا يَنقَطِعُ, وعَذَابٌ لا يَنتَهِي, وعِقَابٌ لا يَنقَضِي. إنَّ الرُّسُوبَ في امتِحَانِ الآخِرَةِ مُصِيبَةُ المَصَائِبِ, تَصَوَّرُوا حَالَ العَبدِ الذي...

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيَا عِبَادَ اللهِ: إنَّ الإنسَانَ المُؤمِنَ العَاقِلَ يَتَذَكَّرُ بامتِحَانِ الدُّنيَا, امتِحَانَ الآخِرَةِ, وشَتَّانَ مَا بَينَ الامتِحَانَينِ, فامتِحَانُ الدُّنيَا يُمكِنُكَ أن تُعِيدَهُ مَرَّةً ومَرَّتَينِ إذا رَسِبتَ فِيهِ, أمَّا امتِحَانُ الآخِرَةِ إذا رَسِبَ فِيهِ العَبدُ فَقَد خَسِرَ خَسَارَةً عَظِيمَةً؛ إنَّهَا خَسَارَةُ النَّفسِ والأَهلِ، قال تعالى: (إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الزمر: 15].

يَا عِبَادَ اللهِ: مَهمَا طَالَ البَقَاءُ في هذهِ الحَيَاةِ الدُّنيَا فَلا بُدَّ من الفَنَاءِ, الزَّرعُ لا بُدَّ لَهُ من حَصَادٍ, والشَّمسُ لا بُدَّ لَهَا من غُرُوبٍ, والبَدرُ لا بُدَّ لَهُ من أُفُولٍ, والإنسَانُ لا بُدَّ لَهُ من مُفَارَقَةِ هذهِ الحَيَاةِ الدُّنيَا, بِحَيثُ يُصبِحُ جُثَّةً هَامِدَةً, ثمَّ لا بُدَّ من الحَشْرِ والنَّشْرِ والوُقُوفِ بَينَ يَدَيِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- لِيَفْصِلَ اللهُ -تعالى- بَينَهُ وبَينَ الآخَرِينَ, ثمَّ يَكُونَ مَثْوَاهُ إمَّا إلى جَنَّةٍ وإمَّا إلى نَارٍ, فَأَينَ المَفَرُّ؟

قال تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ * فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) [القيامة: 15 - ].

هَل سَمِعَ هذهِ الآيَةَ الكَرِيمَةَ سَافِكُ الدِّمَاءِ؟ هَل سَمِعَ هذهِ الآيَةَ الكَرِيمَةَ سَالِبُ الأَموَالِ؟ هَل سَمِعَ هذهِ الآيَةَ الكَرِيمَةَ مُرَوِّعُ الآمِنِينَ؟ هَل سَمِعَ هذهِ الآيَةَ الكَرِيمَةَ ظَالِمُ العِبَادِ؟ هَل سَمِعَ هذهِ الآيَةَ الكَرِيمَةَ العُصَاةُ؟ سَوفَ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ من هؤلاءِ: (أَيْنَ الْمَفَرُّ) [القيامة: 10]؟

وسَوفَ يُنَبَّأُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنهُم بِمَا قَدَّمَ وأَخَّرَ: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ) [آل عمران: 30].

يَا عِبَادَ اللهِ: إنَّ الإخفَاقَ في امتِحَانِ الدُّنيَا هَيِّنٌ وسَهْلٌ, فَهُوَ خَسَارَةٌ لِدَرَجَةٍ أو لِمَرحَلَةٍ أو لِمَرتَبَةٍ من دُنيَا لا تُسَاوِي عِندَ اللهِ -تعالى- جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، روى ابن ماجة عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- بِذِي الْحُلَيْفَةِ, فَإِذَا هُوَ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ, شَائِلَةٍ بِرِجْلِهَا -أي: رَافِعَةٍ رِجْلَهَا مِن الِانْتِفَاخِ- فَقَالَ: "أَتُرَوْنَ هَذِهِ هَيِّنَةً عَلَى صَاحِبِهَا, فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ عَلَى صَاحِبِهَا, وَلَوْ كَانَت الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِراً مِنْهَا قَطْرَةً أَبَداً".

نَعَم -يَا عِبَادَ اللهِ-، خَسَارَةُ الدُّنيَا إذا قُورِنَت بِخَسَارَةِ الآخِرَةِ فإنَّهَا لا شَيءَ, وإخفَاقُ العَبدِ في امتِحَانِ الدُّنيَا إذا قُورِنَ بِإخفَاقِهِ في الآخِرَةِ فإنَّهُ لا شَيءَ.

الإخفَاقُ في الآخِرَةِ والرُّسُوبُ فِيهَا خَسَارَةُ الأَبَدِ, وحَسْرَةُ السَّرمَدِ, وأَلَمٌ لا يَنفَدُ, ونَدَمٌ لا يَنقَطِعُ, وعَذَابٌ لا يَنتَهِي, وعِقَابٌ لا يَنقَضِي.

يَا عِبَادَ اللهِ: إنَّ الرُّسُوبَ في امتِحَانِ الآخِرَةِ مُصِيبَةُ المَصَائِبِ, تَصَوَّرُوا حَالَ العَبدِ الذي أَخفَقَ في امتِحَانِ الآخِرَةِ في بَعضِ المَشَاهِدِ.

أولاً: عِندَ تَطَايُرِ الصُّحُفِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: أيُّ خَسَارَةٍ أَكبَرُ وأَعظَمُ عِندَمَا يَرَى العَبدُ غَيرَهُ أَخَذَ كِتَابَهُ عِندَ تَطَايُرِ الصُّحُفِ بِيَمِينِهِ, وهوَ أَخَذَهُ بِشِمَالِهِ, تَصَوَّرُوا كَم هوَ الفَارِقُ كَبِيرٌ بَينَ العَبدَينِ؟ قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) [الحاقة: 19 - 32].

ثانياً: عِندَ سَوقِ العِبَادِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: أَيُّ خَسَارَةٍ أَكبَرُ وأَعظَمُ عِندَمَا يَرَى العَبدُ غَيرَهُ يُسَاقُ إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ والأَرضُ, لِيَنعَمَ بِمَا تَلَذُّ بِه الأَعيُنُ, ومَا تَشتَهِيهِ الأَنفُسُ, ويَسعَدُ بِهِ القَلبُ, ثمَّ يُسَاقُ هوَ في ذِلَّةٍ وصَغَارٍ ومَهَانَةٍ وانكِسَارٍ إلى نَارٍ وَقُودُهَا النَّاسُ والحِجَارَةُ، حَيث العِقَابُ والعَذَابُ، والبَلاءُ والشَّقَاءُ, والنَّكَالُ والأغلالُ, مِمَّا لا يَخطُرُ على بَالٍ؟ قال تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ * وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [الزمر: 71 - 74].

ثالثاً: حِرمَانُ النَّظَرِ إلى وَجْهِ اللهِ -تعالى- الكَرِيمِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: أَيُّ خَسَارَةٍ أَكبَرُ وأَعظَمُ من أن يُحرَمَ العَبدُ من لَذَّةِ النَّظَرِ إلى وَجْهِ اللهِ الكَرِيمِ, في جَنَّةِ الخُلْدِ مَعَ الذينَ أَنعَمَ اللهُ عَلَيهِم, وهوَ يَعلَمُ أنَّ غَيرَهُ يَنظُرُ إلى وَجْهِ رَبِّهِ؟

قال تعالى: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ) [المطففين: - 15- 16].

وغَيرُهُ قَالَ تعالى فِيهِ: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة: 22 - 23].

يَا عِبَادَ اللهِ, يَا أَهلَ هذا البَلَدِ الحَبِيبِ, وأَنتُم تَعِيشُونَ هذهِ الأَزمَةَ, قَبلَ كُلِّ قَولٍ, وقَبلَ كُلِّ عَمَلٍ, اِستَحضِرُوا الآخِرَةَ, واستَحضِرُوا مَصِيرَ العِبَادِ من خِلالِ قَولِهِ تعالى: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى: 7].

يَا عِبَادَ اللهِ: سَنُرَدُّ جَمِيعَاً إلى اللهِ -تعالى-, قال تعالى: (ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) [الأنعام: 62 ].

فَلا تَكُونُوا مِمَّن يَقُولُ عِندَ سَكَرَاتِ المَوتِ: (رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) [المؤمنون: 100].

ولا تَكُونُوا مِمَّن يَقُولُ في أَرضِ المَحشَرِ: (رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ) [السجدة: 12].

ولا تَكُونُوا مِمَّن يَقُولُ وهوَ في النَّارِ: (رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ) [غافر: 11].

ويَقُولُ: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [فاطر 37].

يَا عِبَادَ اللهِ: كُونُوا على يَقِينٍ بِأَنَّا سَنُسأَلُ عَمَّا قُلنَا, وعَمَّا فَعَلنَا يَومَ القِيَامَةِ, وخَاصَّةً في حَقِّ هذا البَلَدِ, وفي حَقِّ أَهلِ هذا البَلَدِ.

اللَّهُمَّ لا تُسَوِّدْ وجُوهَنَا يَومَ القِيَامَةِ، آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ, وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم, فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي