إن المللَ والفتورَ الذي يصيبُ الناسَ في رمضان سببُه أن الإنسانَ إذا لم يكن مواظباً على هذهِ الأعمالِ الفاضلةِ قبلَ رمضانَ فإنه لن يُوَفّقَ لها في هذا الشهرِ إلا أن يتوبَ إلى اللهِ -تعالى- توبةً صادقةً على ما فَرّطَ في أيامِه الخاليةِ، ويسأله الإعانةَ على استغلالِ هذا الشهر بهذه العباداتِ.
إن الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَ له، ومن يضلل فلا هاديَ له. وأشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183].
عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: أَنْشَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- غَزْوًا، فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ لِي بِالشَّهَادَةِ. قَالَ: "اللَّهُمَّ سَلِّمْهُمْ وَغَنِّمْهُمْ"، فَغَزَوْنَا فَسَلِمْنَا وَغَنِمْنَا، ثُمَّ أَنْشَأَ غَزْوًا آخَرَ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ لِي بِالشَّهَادَةِ. قَالَ: "اللَّهُمَّ سَلِّمْهُمْ وَغَنِّمْهُمْ"، فَغَزَوْنَا فَسَلِمْنَا وَغَنِمْنَا، ثُمَّ أَنْشَأَ غَزْوًا آخَرَ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَيْتُكَ تَتْرَا ثَلاَثاً، أَسْأَلُكَ أَنْ تَدْعُوَ اللَّهَ لِي بِالشَّهَادَةِ، فَقُلْتَ: "اللَّهُمَّ سَلِّمْهُمْ وَغَنِّمْهُمْ"، فَغَزَوْنَا فَسَلِمْنَا وَغَنِمْنَا، فَمُرْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَمْرٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ, قَالَ: "عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لاَ مِثْلَ لَهُ". قَالَ الراوي: "وَكَانَ أَبُو أُمَامَةَ لاَ يَكَادُ يُرَى فِي بَيْتِهِ الدُّخَانُ بِالنَّهَارِ، فَإِذَا رُئِيَ الدُّخَانُ بِالنَّهَارِ عَرَفُوا أَنَّ ضَيْفاً اعْتَرَاهُمْ؛ مِمَّا كَانَ يَصُومُ هُوَ وَأَهْلُهُ".
ما أعظمَها من وصيةٍ من محبٍ ومشفقٍ، وعالمٍ بما يحبُه اللهُ -تعالى- ويرضاه من الأعمالِ الصالحةِ! ويا عجباً من أبي أمامةَ -رضي الله عنه-! كيفَ استفادَ من هذه الوصيةِ العظيمةِ فعمِلَ بها وبلَّغَها حتى وصلت إلينا بعد آلافِ السنينَ!.
عبادَ اللهِ: مَنْ منا جلسَ مع نفسِه في آخرِ يومٍ من رمضانَ الماضي فبدأ يسألُ نفسه: ماذا قَدَّمَ في شهرِه؟ بل بدأ يتذكرُ عندما أقبلَ شهرُ رمضانَ كيف كانَ إصرارُه على استغلالِ كل ساعةٍ من ساعاتِه، بل كل لحظةٍ من لحظاتِه، فلما جاءَ الشهرُ امتلأتِ المساجدُ في أولِه حتى لا تكادُ أن تدركَ الصفَ الأولَ في الجماعةِ لو تأخرتَ قليلاً، القرآنُ يُتلى في البيوتِ والمساجدِ، كثير من الناس يتسابقُونَ على إطعامِ الطعامِ على حبِه مسكيناً ويتيماً وفقيراً.
ثُمَّ ماذا كانَ؟ تلاشى هذا قليلاً قليلاً! حتى إذا جاء آخرُ الشهرِ وجاءت الليالي الفاضلةُ التي فيها ليلةٌ هي خيرٌ من ألفِ شهرٍ هُجِرتِ المساجدُ، وطُويتِ المصاحفُ، وتُرِكَ إطعامُ الطعامِ! فلماذا كلُ هذا؟!.
إن المللَ والفتورَ الذي يصيبُ الناسَ في رمضان سببُه أن الإنسانَ إذا لم يكن مواظباً على هذهِ الأعمالِ الفاضلةِ قبلَ رمضانَ فإنه لن يُوَفّقَ لها في هذا الشهرِ إلا أن يتوبَ إلى اللهِ -تعالى- توبةً صادقةً على ما فَرّطَ في أيامِه الخاليةِ، ويسأله الإعانةَ على استغلالِ هذا الشهر بهذه العباداتِ.
أيها المؤمنُ: إذا علمتَ أن اللهَ -تعالى- اختصَ الصيامَ له كما في حديثِ أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ, يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي"، فلم يُبَيّن -عزَ وجلَ- ما هو الجزاءُ والأجرُ على الصومِ؛ لأنها مفاجأةُ الرحمنِ -تعالى- لعبادِه الصائمينَ يومَ القيامةِ؛ نسأل اللهَ العظيمَ من فضلِه.
وإذا علمتَ أن "لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ"، فأحسسنا بفرحةِ الدنيا عندَ الفطرِ، فما أعظمَها وما أجملَها! فكيفَ بفرحةٍ في يومٍ يخافُ الناسُ فيه؟ (يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ) [غافر:18]، في يومٍ (َتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَـاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج:2]، وأنت قد وُعدتَ بفرحةٍ عظيمةٍ عندَ لقاءِ الله -تعالى-، ولن يُخلفَ اللهُ وعده.
إذا علمتَ أن "خُلُوفَ فمِ الصائمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ"، هذه الرائحةُ المُستَقذرةُ التي تخرجُ من فمِ الصائمِ عندَ اللهِ -تعالى- أطيبُ من ريحِ المسكِ؛ لأنها أثرُ عبادةٍ عظيمةٍ يحبها اللهُ -عزَ وجلَ-.
إذا علمتَ أنه "إِذَا كَانَتْ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، فتّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهنّم، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وينادى مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ"، فتُمحى أسماءٌ من قائمةِ النارِ في كلِ ليلةٍ من رمضانَ، فتحلُ عليهم مغفرةُ الرحمنِ، وتُفتحُ لهم أبوابُ الجِنانِ، فيُّوَفقونَ بعدَ ذلكَ إلى عملِ أهلِ التقوى والإحسانِ.
إذا علمتَ أن "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ, ومَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، صيامُ شهرٍ واحدٍ وقيامُه يغفرُ اللهُ -تعالى- به الذنوبَ ولو عَظُمت، ويتجاوزُ عن السيئاتِ ولو كبُرت، وعن السنين ولو كثُرت.
إذا علمتَ أن "الصِّيَامَ يَشْفَعُ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ! مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: فَيُشَفَّعُ"، ففي اليومِ الذي (يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) [عبس:34-36]، يكونُ معكَ شفيعٌ قريبٌ من الرحمنِ، حبيبٌ إليه، يشفعُ لكَ فتُقبلُ شفاعتُه.
إذا علمتَ كلَ هذا الفضلِ والأجرِ، علمتَ أن سُنةَ اللهِ جَرَتْ أنه لا يُوَفقُ لمثلِ هذا إلا من صَدَقَ اللجوءَ والتضرعَ إلى اللهِ -تعالى- أن يعينَه على صيامِ هذا الشهرِ وقيامِه، وأن يسعى بالأسبابِ المعينةِ على ذلكَ من التوبةِ الصادقةِ، والعزيمةِ الجازمةِ على تركِ الذنوبِ، والاستقامةِ على سنةِ المحبوبِ، عليه الصلاةُ والسلامُ، فعندَ ذلكَ أبشر بالهدايةِ والسدادِ، وذلك فضلُ اللهِ يؤتيه من يشاءُ، واللهُ ذو الفضلِ العظيمِ.
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِ ذنبٍ فاستغفروه؛ إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الحمدُ للهِ ذي الجلالِ والإكرامِ، الحمدُ لله على نعمةِ الإسلامِ، الحمدُ للهِ على نعمةِ الصيامِ. والصلاةُ والسلامُ على نبيِنا محمدٍ وعلى آلهِ وأصحابِه والتابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
أما بعد: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَقِيَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: "آمِينَ، آمِينَ، آمِينَ"، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كُنْتَ تَصْنَعُ هَذَا؟ فَقَالَ: "قَالَ لِي جِبْرِيلُ: رَغِمَ أَنْفُ عَبْدٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَقُلْتُ: آمِينَ".
عبادَ اللهِ: قد أقبلَ رمضانُ، فأروا اللهَ -تعالى- من أنفسِكم خيراً، وإياكُم والمفسدين الذين قد استعدوا لإفسادِ رمضانَ على الصائمين بما أعدوه لهم من الإعلامِ الفاسدِ، والبرامجِ الهابطةِ في الليلِ والنهارِ، حتى صَدق على بعضِهم قول النبيِ -صلى اللهُ عليه وسلم-: "رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ".
رمضانُ أقبلَ يا أُولي الألبابِ *** فاستَقْبلوهُ بعدَ طولِ غيابِ
عامٌ مضى من عمْرِنا في غفْلةٍ *** فَتَنَبَّهوا فالعمرُ ظلُّ سَحابِ
وتَهيّؤوا لِتَصَبُّرٍ ومشقَّةٍ *** فأجورُ من صَبَروا بغير حسابِ
لا يَدخلُ الريَّانَ إلا صائمٌ *** أَكْرِمْ ببابِ الصْومِ في الأبوابِ
وَوَقاهم المَولى بحرِّ نَهارِهم *** ريحَ السَّمومِ وشرَّ كلِّ عذابِ
وسُقوا رحيقَ السَّلْسبيلِ مزاجُهُ *** مِنْ زنجبيلٍ فاقَ كلَّ شَرابِ
هذا جزاءُ الصائمينَ لربِّهم *** سَعِدوا بخيرِ كرامةٍ وجَنابِ
اللهم يا ربَ السمواتِ السبعِ ورب العرشِ العظيمِ, يا من تسمعُ كلامَنا وترى مكانَنا وتعلمُ سرَنا وجهرَنا، اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان، اللهم أعنا على صيامِه وقيامِه، اللهم اجعلنا من عتقائِك من النارِ، اللهم اجعلنا ممن يصومُ رمضانَ إيماناً واحتساباً.
اللهم إنا نسألُك الأمنَ في البلادِ، والصلاحِ للعبادِ، اللهم إنا نسألُك الأمنَ في الأوطانِ والدورِ، وارشد الأئمةَ وولاةَ الأمورِ، وارحمنا يا رحيمُ يا غفورُ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي