المباركون

عمر بن عبد الله المقبل
عناصر الخطبة
  1. سمات الشخص المبارك .
  2. كيف يكون المسلم مباركًا؟ .
  3. جملة من أخبار هؤلاء المباركين في القرآن والسنة .
  4. أعظم الخلق بركة .
  5. اجتماع خصال الخير في بعض السلف .
  6. من أسرار عظمة الشيخ ابن باز رحمه الله .
  7. كيف أكون مباركاً؟ .

اقتباس

من أخبار هؤلاء المباركين: نقرأ في تعريفٍ مختصر بالإمام المبارك عبدالله بن المبارك - رحمه الله - نجد في تعريفه عند الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: "ثقةٌ ثبْت، فقيه عالم، جواد مجاهد، جُمعت فيه خصال الخير!"، ومَن قرأ سيرته أدرك هذا بوضوح. وفي عصرنا إذا ذُكر المباركون برز اسمُ الإمامِ عبدالعزيزِ بن باز - رحمه الله -، وماذا أقول عنه؟ وعمّ أتحدث؟ فإنكم تقرءون وتسمعون شيئاً من أخباره، ولعلي أتحفكم بهذا الموقف الذي سمعتُه قبل ليلتين في مجلس عبق بذكر سيرته - رحمه الله -، موقف يكشف شيئاً من أسرار عظمة هذا الرجل:...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله...، أما بعد:

فحين أنطق اللهُ نبيه عيسى -عليه الصلاة والسلام- في المهد في ردّه على أسئلة بني إسرائيل، كان من جملة ما قال متحدثًا بنعمة الله عليه: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ)[مريم: 31]، قال مجاهد وغيره من السلف: "نفّاعاً، معلمًا للخير حيثما كنت" (تفسير الطبري: 15/ 531).

هذا الوصف العظيم الذي تمدّح به عيسى -عليه السلام- ليس خاصاً به فقط، بل هو وصف يمنّ الله به على من يشاء من عباده، والموفّق من جدّ واجتهد ليكون من أهل هذا الوصف: مباركاً أينما كان، حيثما وقع نفع كالغيث تمامًا..فمن هو المبارك؟ وما صفته؟ وكيف يكون الإنسان كذلك؟

أما من هو؟ وما صفته؟ فقد لخّصته كلمةُ مجاهد - رحمه الله - في هذا المعنى المختصر البليغ: نفّاعاً، معلمًا للخير حيثما كنت، ومعنى نفّاعًا: أي كثير النفع والإحسان للخلق، وكذلك: تعليمُ الخير يدخل فيه: تعليم العلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والقرآن نفسُه ذكر لنا جملةً من أخبار هؤلاء المباركين، الذين صدق فيهم كثرةُ النفع، وتعليمُ الخير للناس، وعلى رأسهم الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام-.. وفي تفاصيل قصص بعضهم ما يجلّي هذا المعنى بوضوح:

هذا نبي الله يوسف -عليه الصلاة والسلام-، يدخل السجنَ ظلماً، وفي دار غربة، وفي قلبِه لوعةٌ وحرقةٌ على فراق أبويه، ومع هذا لم يترك فرصة الدعوة إلى الله -تعالى- حين سأله الفَتَيان عن الرؤيا، بل دعاهم إلى التوحيد وهو في غياهب السجون..لقد كان يوسف مباركاً حيثما كان.

وهذا نبي الله موسى -عليه الصلاة والسلام-، يخرج من مصر خائفاً يترقب العدو، هائماً على وجهه، حتى وصل مدْين، فلم تجعله الحال التي كان عليها من التعب والنصب، والهربِ من عدّو لا يَرحم لم تجعله تاركًا للإحسان في موقف احتاج فيه المحتاج إلى إحسانه..

ها هو يُبصر امرأتين تكفكفان غنمهما أن تَرِد مع غنم أولئك الرعاء؛ لئلا يؤذيا، فلما رآهما موسى -عليه السلام-، رقّ لهما ورحمهما، فقال: (مَا خَطْبُكُمَا)؟ أي: ما خبركما لا تَرِدان مع هؤلاء؟ (قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ) أي: لا يحصل لنا سقي إلا بعد فراغ هؤلاء، وعللتا ذلك بقولهما: (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) [القصص: 23] أي: فهذا الحال الملجِئ لنا إلى ما ترى يا موسى.

قال الله –تعالى، وهنا تأتي البركة-: (فَسَقَى لَهُمَا)[القصص: 24] لكن كيف تمّ ذلك؟ استمع إلى ما حدّث به عمر رضي الله عنه - بسند صحيح كما يقول ابن كثير - وذلك أن موسى -عليه السلام-، لما ورد ماءَ مدين، وجد عليه أمةً من الناس يسقون، فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر، ولا يطيق رفعَها إلا عشرةُ رجال، فإذا هو بامرأتين تذودان، قال: ما خطبكما؟ فحدثتاه، فأتى الحجرَ فرفعه، ثم لم يستق إلا ذَنوبًا واحداً حتى رويت الغنم.( تفسير ابن كثير (6/ 204).

إنه رجلٌ مبارك، نفّاع للخلق، باذل للخير في كل مكان، حتى وهو في هذه الحال التي كان عليها.

وأعظم الخلق بركة: نبينا -صلى الله عليه وسلم-، ومن أراد أن يكون يعرف كيف تكون البركة حيثما كان الإنسان؛ فليقرأ سيرته -عليه الصلاة والسلام-، فلقد وصل إحسانُه ونفعُه إلى البعيد قبل القريب، وإلى العدو قبل الصديق، وإلى المسيء قبل المحسِن، حتى اتفقت كلمةُ أعدائه قبل أصدقائه: أنه الصادق الأمين، بل وصل نفعُه إلى الحيوانات.

وسرت هذه البركةُ في أصحابه -رضي الله عنهم-، بل قد عُرف بعضُهم بكثرة البركة، وعلى رأسهم أبو بكر الصديق وآل بيته -رضي عنهم وعن سائر أصحاب نبينا أجمعين-.

 وأكتفي هنا بتوضيح هذه البركة، بذكر هذا الموقف الذي رواه الشيخان عن عائشة، أنها قالت: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء - أو بذات الجيش - انقطع عِقد لي، «فأقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على التماسه، وأقام الناسُ معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء»،...

 في قصة طويلة، الشاهد منها: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نام والناس ومعه على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم فتيمَّموا" فقال أسيد بن الحضير - وهو أحد نقباء الأنصار وكبارهم -: «ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر» (البخاري ح(334)، مسلم ح(367)..

حتى في مثل هذا الحدَث الذي لم يكن باختيارهم، جعل الله أهلَ هذا البيت سبباً مباركاً في نزول آية التيمم، التي انتفعت بها الأمّةُ وستظل إلى يوم القيامة.

وفي سير أئمةِ السلف نقرأ شيئاً من أخبار هؤلاء المباركين: فحينما نقرأ في  تعريفٍ مختصر بالإمام المبارك عبدالله بن المبارك - رحمه الله - نجد في تعريفه عند الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: "ثقةٌ ثبْت، فقيه عالم، جواد مجاهد، جُمعت فيه خصال الخير!" (تقريب التهذيب (ص: 320) الترجمة رقم (3570)، ومَن قرأ سيرته أدرك هذا بوضوح.

وفي عصرنا إذا ذُكر المباركون برز اسمُ الإمامِ عبدالعزيزِ بن باز - رحمه الله -، وماذا أقول عنه؟ وعمّ أتحدث؟ فإنكم تقرءون وتسمعون شيئاً من أخباره، ولعلي أتحفكم بهذا الموقف الذي سمعتُه قبل ليلتين في مجلس عبق بذكر سيرته - رحمه الله -، موقف يكشف شيئاً من أسرار عظمة هذا الرجل:

أُدْخِلَ أحدُ تجار المخدرات (وهو عربي الأصل) السجن في جمهورية ألمانيا، فلما دخل السجن، قرر التوبة، ولكنه تحيّر في شأن هذه الأموال التي جمعها من هذه التجارة الفاسدة، فكتب مجموعةً من الأسئلة إلى الشيخ ابن باز عن طريق البرنامج الشهير: نور على الدرب، وقال: لا تُعرض هذه الأسئلة إلا على الشيخ ابن باز.

فلما سمع الشيخُ إصرار هذا السائل على ألا تعرض هذه الأسئلةُ إلا عليه، بكى الشيخُ وتأثر كثيرا، ثم عُرضت أسئلتُه، فلما انتهت الحلقةُ بدأت قصةٌ جديدة من قصص جود وبركة هذا الإمام المبارك، حيث بدأ يَسألُ عن عنوانه، ويبحث عن خبره، وإذا ببعض الإخوة المذيعين يكتشف اهتمامَ الشيخ ابن باز بهذا التاجر التائب بعد سنوات من تلك الأسئلة التي عُرضت عليه، من خلال زيارة مذيعٍ عربي الأصل يعمل في الإذاعة الألمانية، حيث أخبرهم أن ابن باز منذ تلك الأسئلة وهو يتعاهد هذا التاجر الذي تاب بشيءٍ من المال، ويَسأل عن أخباره!

إنها البركة.. إنه الرجل النفّاع لعباد الله، لا يكاد يسمع بفرصةٍ فيها نفعٌ إلا بادر إليها.

وقد وقع لي أن زرتُ تنزانيا عام 1421هـ، فالتقيت بداعية هناك، وجرى الحديث في سيرة الشيخ -رحمه الله-ـ، فتأثر الداعية وقال: "لقد كان له فضلٌ كبير عليَّ، حيث قدِمتُ المدينة عام 1402هـ، وكنتُ حديث عهد بزواج، والنظام لا يسمح باستقدام الطالب لزوجته، فطلبت من الشيخ أن يشفع لي فشفع، فاستقدمت زوجتي، وإن أولادي فلان وفلان ولدوا في المدينة، ببركة شفاعة الشيخ".

أيها الأحبة: هذا السرد السريعُ لهذه الأمثلة - وعبر عصور متفاوتة - أردتُ منه أن أؤكد على أن اتصاف الإنسان بهذا الوصف ليس مستحيلاً، وليس خاصاً بالأنبياء والرسل، بل هو متاحٌ للإنسان إذا ما عزم، وجدّ واجتهد، وليس بالضرورة أن تُبرِزك وسائلُ الإعلام! أو تُلتَقط لك الصور! أو تُنقل عنك الأخبار لتكون رجلاً مباركاً! المهم أن تَعيش هذا المعنى؛ فتجتهد في أن تكون مباركاً حيثما كنت، وكيف ذلك؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في الخطبة الثانية إن شاء الله.

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة....

الخطبة الثانية:

الحمد لله...، أما بعد:

فإن البحث عن إجابة هذا السؤال: كيف أكون مباركاً؟ هو بداية السير في الطريق..ولكي تكون مباركاً فعليك بأمور من أهمها وأجلّها:

1 - الإخلاص لله في عملك: فلا يَقبل الله من العمل إلا ما كان خالصاً وابتُغي به وجهه، وأما الذي للناس فيذهب لهم، ولا بركةَ فيه، وحظّه منهم المدح أو السلامة، إن لم ينقلب حامدُهم ذامّاً..فليكن أعلى المقاصد عندك - يا عبد الله - في فعلك وقولك وحالك: أن تبتغي وجهَ الله، وأن يَرضى عنك، وإن لم يَعلم بك أحد.

2 - أبواب الخير كثيرة: فانظر في الباب الذي تُحسنه فالزمه، ولا تَقنط أو تحزن إذا لم يُفتح لك في عدة أبواب،  فإن الله -تعالى- عدّد أبواب الجنة؛ لعلمه -تعالى- بتفاوتِ مراتب الخلق.. المهم ألا تتأخر عن واحدٍ من هذه الأبواب التي تُحسنها.

3- اقرأ في سير الصالحين: وعلى رأسهم الأنبياء والرسل، فلقد قال الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- - ونحن على الأثر -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)[الأنعام: 90]، وتأمل في تلك القصص، وكيف آل أمرُهم إلى العز والرفعة في الدنيا والآخرة..ابحث عن أسرار تميز تلك الشخصيات، فستكون بإذن الله قادرًا على التأسي والتأثر بهم.

4 - تذكر أن سوءَ الأخلاق، وضيق العطن، والبخل والكبرَ، والعبوسَ في وجوه الناس، وعدم احتمال أذاهم؛ لا تكون لإنسان يريد أن يكون مباركاً أينما كان، بل عليه أن يكون حسنَ الخلق، صابراً، بشوشاً ما استطاع، فالذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم، ومراتب الآخرة لا بد أن يسبقها مراتب من الصبر.

5 - سل ربّك دوماً أن يجعلك الله مباركاً أينما كنت: كرر دعوة عيسى -عليه الصلاة والسلام-، فإن هذا من أحسن ما يكون من الدعاء الذي تدعو به لنفسك ولغيرك، وإذا كنتَ مباركاً امتدّ نفعُك في الدنيا والآخرة.

اللهم اجعلنا مباركين أينما كنا..


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي