يا مَن طالت غيبته عنا قد قربت أيام اللقاء الصالحة.. فحيا هلاً بك.. حبيبًا جئت على ولَهٍ منا وطولِ انتظار، جئت بعد غياب عامٍ مات فيه أقوامٌ ووُلِدَ آخرون، واغتنى قومٌ وافتقر آخرون، وسَعِدَ قومٌ وشقيَ آخرون، واهتدى قومٌ وضلَّ آخرون. ويا من كَثُرَ تفريطه قد أقبلت أيام التجارة الرابحة.. اتجر بِجدٍ واجتهاد وهنيئاً لك ربحك.. فمن لم يربح في هذا الشهر ففي أي وقت يربح؟! من لم يتقَرَّب فيه من مولاه قل لي متى يفلح؟! وطُوبَى لِمَنْ تَرَك شَهْوَةً حَاضِرِةً لِمَوْعِدِ غُيِّبٍ لَمْ يَرَهُ..
الحمد لله..
أما بعد أيها الإخوة: هذه الجمعة آخر جمعة من شهر شعبان.. وبعدها سنستقبل -إن شاء الله- شهرًا عظيمًا، وضيفًا كريمًا، ضيفٌ تزدان به الدنيا وتشرقُ أنوارها... وتهبُ رياح الإيمان وتنسابُ بين أرجائها...
شهر رمضان: شهرٌ كان يبشر بمقدمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه -رضي الله عنهم- فيقول لَمَّا حَضَرَ رَمَضَانُ: "قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا، فَقَدْ حُرِمَ" (رواه أحمد والنسائي بسند صحيح).
أحبتي: كيف لا يبشَّر المؤمن بفتح أبواب الجنان..! كيف لا يبشَّر المذنب بغلق أبواب النيران..! كيف لا يبشَّر العاقل بوقت يغلّ فيه كلُّ شيطان.. من أين يشبه هذا الزمانُ زمان؟!
أجل: جاء شهر الصيام بالبركات فأكرم به من زائر هو آتٍ.. كان السلف يدعون الله -تعالى- أن يبلِّغهم رمضان.. وكان من دعائهم: "اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلاً".
أيها الأحبة: ادعوا الله أن يبلغكم شهرَ رمضان، وأن يمنَّ عليكم بصيامه؛ فتلك والله نعمة عظيمة على من وفَّقه الله وأقدره عليها.. يدل على ذلك، ما رواه أَبو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: جَاءَ رَجُلاَنِ مِنْ بَلِيٍّ مِنْ قُضَاعَةَ، فَأَسْلَمَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَاسْتُشْهِدَ أَحَدُهُمَا وَأَخَّرَ الآخَرُ بَعْدَهُ سَنَةً، قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: فَرَأَيْتُ كَأَنِّي أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ، فَرَأَيْتُ الْمُؤَخَّرَ مِنْهُمَا دَخَلَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الشَّهِيدِ، فَعَجِبْتُ مِنْ ذَلِكَ، فَأَصْبَحَت فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: "أَلَيْسَ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ، وَصَلَّى بَعْدَهُ كَذَا وَكَذَا رَكْعَةٍ صَلاَةَ السُّنَّةِ" (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وقالَ الألباني: حَسَنٌ صحيح).
بل إن طول العمر إذا وُفِّق العبد فيه لطاعة الله –تعالى- أياً كانت الطاعة دليل على خير فقد سُئِلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَنْ خَيْرُ النَّاسِ؟ قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ».
وفي حديث الثلاثة الذين أسلموا واستشهد اثنان منهم وبقي بعدهم الثالث دليل على ذلك؛ فقد رُئيَ الثالثُ بمنزلةٍ أعلى منهما فاستنكر ذلك من رآه، فقال رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَمَا أَنْكَرْتَ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ أَحَدٌ أَفْضَلَ عِنْدَ اللهِ مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَمَّرُ فِي الْإِسْلامِ لِتَسْبِيحِهِ وَتَكْبِيرِهِ وَتَهْلِيلِهِ" (رواه أحمد، وقال أحمد شاكر: حسنٌ لغيره).
وقد دلَّ هذا الحديث العظيم على عِظم فضلِ من طال عمرُه وحسُن عملُه، ولم يزل لسانُه رَطْباً بذكر الله -عز وجل-.
أحبتي: في هذه السنة يتوفر لأكثر المجتمع نعمتان الصحة والفراغ، وقد قَالَ عَنْهُمَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ؛ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ" (رواه البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا).
وقال قال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لرجل وهو يَعِظُه : "اغتنم خمساً قبلَ خمسٍ"، وذكر منها: "وفراغَكَ قبل شغلك".
وقال غنيم بن قيس: كنا نتواعظُ في أوَّل الإسلام: ابنَ آدم، اعمل في فراغك قبل شُغلك، وفي شبابِك لكبرِك، وفي صحتِك لمرضِك، وفي دنياك لآخرتِك، وفي حياتِك لموتِك.
أخي الحبيب: يا مَن منَّ الله عليه بإدراك شهر رمضان وأنت في إجازة وصحة وعافية وأمن وأمان.. ماذا تنتظر قد لا تتكرر لك هذه الظروف مرة أخرى اجتهد فمن رُحم في رمضان فهو المرحوم.. ومن حُرم خَيره فهو المحروم.. ومن لم يتزود لمعاده فيه فهو ملوم.. دلنا الله جميعاً على رشده..
أتى رمضانُ مزرعةُ العبادِ *** لتطهيرِ القلوبِ من الفسادِ
فأدِّ حقوقَه قولاً وفعلاً *** وزادَكَ فاتخذْه للمعادِ
فمن زرعَ الحبوبَ وما سقاهَا *** تأوَّه نادماً يومَ الحصادِ
أيها الإخوة: لما لا نسعد وتتطلع نفوسنا ونبتهج لقرب حلول الشهر الكريم الذي قَالَ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي" "لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ" (رواه مسلم).
ومعنى "إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي" أي: أن الصوم يختصه الله -سبحانه وتعالى- له من بين سائر الأعمال، لأنه أعظم العبادات إطلاقاً؛ فهو سرٌ بين الإنسانِ وربه ولا يعلمه أحد، لأن نيته باطنة.. وليست مما يظهر فتكتبها الحفظة كما قال بعض العلماء.
ثم إن الذي يعمل عملاً ظاهراً قد يناله بسببه ثناء من الناس؛ لأنه فعل ظاهر.. بخلاف الصوم فإنه ترك خفي لكن الله يعلمه، لذلك كان أعظم الأعمال إخلاصا فاختصه الله تعالى لنفسه من بين سائر الأعمال.. ويجازي به على ما شاء من التضعيف.
واعلموا -وفقني الله وإياكم- أن كل عمل له أجر محدود إلا الصوم فأجره بدون حساب.. قال ابن رجب -رحمه الله-: "الصيام لا يعلم منتهى مضاعفته إلا الله -عز وجل-، وكلما قوي الإخلاص فيه وإخفاؤه وتنزيهه من المحرمات والمكروهات كثرت مضاعفته.. ولما سئل سفيان بن عينية عن قول الله –تعالى- في الحديث القدسي: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ" قال: إذا كان يوم القيامة يحاسب الله -عز وجل- عبده، ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله حتى لا يبقى إلا الصوم، فيتحملُ اللهُ ما بقي عليه من المظالمِ، ويدخلُه بالصومِ الجنةَ..
أما قوله: "يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي" قال القرطبي: "تنبيه على الجهة التي بها يستحق الصوم أن يكون كذلك وهو الإخلاص الخاص به".ا هـ.
ثم إن ترك الإنسان لشهوتَه عبادة مقصودة يثاب عليها.. وهو مُرَبٍّ للضمائر، وثمرته التقوى، كما قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183].
فيا من طالت غيبته عنا قد قربت أيام اللقاء الصالحة.. فحيا هلاً بك.. حبيبًا جئت على ولَهٍ منا وطولِ انتظار، جئت بعد غياب عامٍ مات فيه أقوامٌ ووُلِدَ آخرون، واغتنى قومٌ وافتقر آخرون، وسَعِدَ قومٌ وشقيَ آخرون، واهتدى قومٌ وضلَّ آخرون.
ويا من كَثُرَ تفريطه قد أقبلت أيام التجارة الرابحة.. اتجر بِجدٍ واجتهاد وهنيئاً لك ربحك.. فمن لم يربح في هذا الشهر ففي أي وقت يربح؟! من لم يتقَرَّب فيه من مولاه قل لي متى يفلح؟! وطُوبَى لِمَنْ تَرَك شَهْوَةً حَاضِرِةً لِمَوْعِدِ غُيِّبٍ لَمْ يَرَهُ..
إذا رمضانُ أتى مقبلاً *** فأقبلْ فبالخيرِ يستقبلُ
لعلك تخطِئْهُ قابِلاً *** وتأتِي بعذرٍ فلا يُـقْبَلُ
كم ممن أمَّل أن يصوم هذا الشهر فخانه أمله فصار قبله إلى ظلمة القبر! وكم من مستقبل يوما لا يستكمله! ومؤملٍ غداً لا يدركه! إنكم لو أبصرتم الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره!
خطب عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- آخر خطبة خطبها فقال فيها:
"إنكم لم تخلقوا عبثًا.. ولن تُتركوا سدى.. وإن لكم معادًا ينزل الله فيه للفصل بين عباده.. فقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء.. وحُرمَ جنةً عرضها السموات والأرض.. ألا ترون إنكم في أسلابِ الهالكين.. وسيرثُها بعدَكم الباقون كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين.. وفي كل يوم تشيعون غاديًا ورائحًا إلى الله.. قد قضى نحبه وانقضى أجله فتودعونه وتدعونه في صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد.. قد خلع الأسباب وفارق الأحباب وسكن التراب، وواجه الحساب غنيًّا عما خلَّف فقيرًا إلى ما أسلف، فاتقوا الله عباد الله قبل نزول الموت وانقضاء مواقيته.. وإني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحدٍ من الذنوب أكثرَ مما أعلم عندي، ولكن أستغفر الله وأتوب إليه ثم رفع طرف ردائه وبكى حتى شهق"، ثم نزل فما عاد إلى المنبر بعدها حتى مات رحمة الله عليه...
وأنا أستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم..
أيها الإخوة: حين يمنّ الله –تعالى- على المسلم فيعيش أيام هذا الشهر الكريم ولياليه؛ فإنه يجد شعوراً عجيباً يخالج قلبه، ويفيض على مشاعره بروحانية خاصة لا يجدها إلا في هذا الشهر الكريم، ويجد المسلم بردَها وجمالَها ولطائفَها في جوانب حياته كلِها، وهذه الروحانية تصحبه طوالَ هذا الشهر، وتلازم أيامَه كلَها.
ولذلك لَمَّا حَضَرَ رَمَضَانُ: قال -صلى الله عليه وسلم-: "قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا، فَقَدْ حُرِمَ" (رواه أحمد والنسائي بسند صحيح).
قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضًا بشهر رمضان..
أيها الأحبة: دأب الناس على تبادل التهاني فيه بغبطة وسرور، ويزجي بعضهم بعضاً الدعوات المباركات يرجون قبولها وانتفاعَهم بها. ولذلك؛ لما سئل الشيخ السعدي -رحمه الله- عن التهاني بشهر رمضان وغيره، أجاب بجواب طويل مؤصل ومفصل، مفاده: جواز الابتداء بالتهنئة، وبوجوب الإجابة على من بُدِئ بها بالجواب المناسب؛ لأنها من العدل، ولأن ترك الإجابة يوغر الصدور، ويشوش الخواطر.
وحينما أرسل له تلميذه الشيخ عبدالله بن عقيل -رحمهما الله- خطاباً في أوائل شهر رمضان، وضمَّنه التهنئة بالشهر الكريم، رد عليه الشيخ عبد الرحمن -رحمه الله- الجواب فقال: "وصلني كتابك فتَلَوْتُهُ مسروراً بما فيه من التهنئة بهذا الشهر، نرجو الله أن يجعل لنا ولكم من خيره أوفر الحظ والنصيب، وأن يعيده عليكم أعواماً عديدة مصحوبة بكل خير من الله وصلاح". اهـ. وهذا تأكيدٌ لفتواه.
اللَّهُمَّ أَهِلَّ عَلَيْنَا شَهْرَ رَمَضَانَ بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ، وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ، وَالتَّوْفِيقِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وأن وتجعله هلال خير وبركة...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي