بين عدد كثير من آيات الجهاد التي نزلت في غزوة أحد في سورة آل عمران إيماء إلى أن من أسباب قبول الأعمال، وحصول النصر؛ تطهير الأموال التي تنفق في العبادات التي من أفضلها الجهاد في سبيل الله، وتطهير الأبدان التي تصدر منها تلكم العبادات؛ أن تتغذى بما يمنع قبول ونفع الأعمال ..
أيها الأخوة المؤمنون: إن المؤمن الذي أنعم الله عليه أن جعله من أهل القرآن؛ ليعلم أنه لا تتم له هذه النعمة ولا يكمل له شكرها؛ ما لم يعمق الإيمان بالقرآن في نفسه تعميقاً؛ تظهر به آثاره عليه من تحليل حلاله وتحريم حرامه، والوقوف عند حدوده، وإلا فذلكم منه؛ مجرد خداع ومماكرة لمن لا يخادع ولا يماكر.
ولقد جاء هذا القرآن -الواجب التصديق والإيمان الإيقاني بمضموناته وإخباراته- بالنهي عن أمر عظيم، والتحذير والإنذار من خطر جسيم؛ أمر عظيم ووعيد جسيم يلاحق تأويله المتعرض له في دنياه وأخراه، يلاحقه في أدوار حياته الثلاثة -الدنيا والبرزخ والمعاد- يلاحقه بألفاظ وعيدية شديدة؛ تتجاوز في بعض نصوصها الألفاظ التي توعد بها أهل الكبائر.
ذلكم ما تضمنه قوله سبحانه: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ..) إلى قوله: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ..) الآية [البقرة: 275-279]، وهذا من آخر ما نزل في الأحكام، وآخر ما نزل في الربا.
وقول رسوله -صلى الله عليه وسلم-: "اجتنبوا السبع الموبقات" -أي المهلكات- متفق عليه. وقوله: "لعن الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه" وقال: "هم سواء" رواه مسلم.
وقوله: "رأيت الليلة رجلين أتياني؛ فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم، وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل في فيه بحجر فرده حيث كان؛ فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: من هذا الذي رأيته في النهر؟ قال: آكل الربا" رواه البخاري.
وهذه النصوص القرآنية الكريمة، وهذه الأحاديث النبوية الجليلة، وفي معنى ذلكم من كتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ تبين بوضوح وجلاء، شناعة وقباحة وفظاعة سوء أثر الربا على أهله في معاشهم ومعادهم.
ولقد كان لقباحته وشناعته ومضارته؛ لما يطلب من بين المسلمين من تقارض وتفريج كُرب قربة لله؛ محرماً في جميع الأديان السابقة.
ومطلوب من علماء كل دين إبان اعتباره؛ أن ينهوا عنه، ويناصح القادرين على بمحاربته يقول سبحانه: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) [النساء:161] ويقول: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) [المائدة:42] ويقول: (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [المائدة:63].
وهو في هذا الدين الشامل الكامل الصالح لكل زمان ومكان، ولكل جنس ولون عربي أو أعجمي - محرماً تحريماً مغلظاً بالكتاب والسنة والإجماع على ما استقر عليه الأمر بعد عند الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- في ربا الفضل الوارد في حديث عبادة وحديث أبي سعيد وغيرهما -رضي الله عنهم-.
وحسب أمة القرآن المناداة بقول الله -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة:278] المنذرة بقوله -سبحانه-: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة:279] وقوله: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) [البقرة:275] المتعاملة والمتقاضية فيما بينها بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم؛ عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا" متفق عليه.
حسبها أن تتذكر جيداً أن من قال هذا في ذلكم الموقف هو القائل فيه: "كل رباً من ربا الجاهلية؛ فهو موضوع بين قدمي هاتين، وأول رباً أضعه ربا عمي العباس" رواه مسلم.
وأن الآية التي يقاضى عليها من أخاف طريقاً أو عبث بأمن -جزى الله من يقاضيه عليها خيراً- هي قوله -سبحانه-: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً) الآية [المائدة:33].
تشمل جاحد الربا، وفاعله على بصيرة بدون جحود؛ ففي آية المحاربة (يُحَارِبُونَ) وفي آية الربا (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ)، كما نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى المجلد 28 ص467.
ومعلوم ما في الربا من إفساد الصلات والمكاسب والمطاعم والمشارب؛ الذي قد يؤدي إلى عدم نفع الأعمال، وقبول الدعاء، وحصول التأييد، والنصر المنشود على الأعداء، وبهذا علل وجود أول آية نزلت فيه التي هي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً) [آل عمران:130].
بين عدد كثير من آيات الجهاد التي نزلت في غزوة أحد في سورة آل عمران إيماء إلى أن من أسباب قبول الأعمال، وحصول النصر؛ تطهير الأموال التي تنفق في العبادات التي من أفضلها الجهاد في سبيل الله، وتطهير الأبدان التي تصدر منها تلكم العبادات؛ أن تتغذى بما يمنع قبول ونفع الأعمال.
وأوردوا في هذا أحاديث منها قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً) [المؤمنون:51] وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة:172]
ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك" رواه مسلم. وقوله: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول" رواه مسلم.
هذا -أيها الأخوة- حكم الربا الذي نهى الله عنه، حكم قائم ثابت ما دامت السماوات والأرض، لا يتغير ولا يباح بارتكاب حاكم له أو محكوم، فرد أو جماعة، مؤسسة: بنك أو غيره، من اتقاه وحذره؛ فله وعد صادق الوعد في قوله سبحانه: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ) [البقرة:275].
ومن ارتكبه؛ فوراءه وعيده القاصم الظهر في قوله: (وَمَنْ عَادَ -أي فعل الربا- فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة:275] يقول: (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [يونس:30].
وأستغفر الله لي ولكم.
في
أيها الأخوة في الله: عوداً على ما بدأت به من ضرورة الإيمان بالقرآن إيماناً إيقانياً؛ تظهر آثاره في تحليل حلاله وتحريم حرامه، والوقوف عند حدوده، -أعود لأذكر مرتكب الربا أي الذي قال: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) الآية [المائدة:3] وقال: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) الآية [النساء:23] هو الذي حرم الربا بقوله: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) [البقرة:275].
فليتقوا الله وليحذروا ما هم فيه، ليحذروا أن يهون ويخف احترام المحرمات في نفوسهم فيضلوا -في مناكحهم، وتعاملهم، ومآكلهم ومشاربهم- ضلالاً يجعلهم وقوداً للنار التي وجهوا بها، وعنوا بالخطاب فيها في قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) [آل عمران:130-131].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي