التوبة وأنواعها وأمثلة للتائبين

خالد بن عبدالله الشايع
عناصر الخطبة
  1. المؤمن معرض للخطأ .
  2. قبول التوبة وعدم ردها .
  3. الحث على التوبة وفضلها .
  4. المقصود بالتوبة وأنواعها .
  5. بعض قصص التائبين .
  6. الاستعداد للموت .

اقتباس

التوبة هي حقيقة دين الإسلام، والدين كله داخل في مسمى التوبة، وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله، ف(إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة: 222]. وإنما يحب الله من فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله...

أما بعد:

فيا عباد الله: إن المؤمن في هذه الدنيا معرض للفتن، مستهدف من أعداء كثيرين أولهم نفسه التي بين جنبيه، ولهذا كان لزاماً أن من كانت هذه صفته أنه يقع ويخطئ ويظلم نفسه، أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم".

ومن رحمة الله: أن جعل لعباده طريقا للرجوع إليه، وجعله من أسهل الطرق، هذا الطريق هو طريق التوبة، وجعل له بابا لا يغلق أبدا حتى تطلع الشمس من مغربها، أو تبلغ الروح الحلقوم، أخرج البخاري ومسلم من حديث عن أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت من مغربها، ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل".

وأخرج الترمذي من حديث عبد الله بن عمر قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغر غر".

معاشر المسلمين: لقد حث الله الناس جميعا على التوبة، بل علق الفلاح عليها، فقال: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31].

قال ابن القيم: "فكل تائب مفلح، ولا يكون مفلحا إلا من فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه".

وقال تعالى: (وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات: 11].

وتارك المأمور ظالم كما أن فاعل المحظور ظالم، وزوال اسم الظلم عنه إنما يكون بالتوبة الجامعة للأمرين، فالناس قسمان: تائب وظالم ليس إلا، ف(التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ) [التوبة: 112] فحفظ حدود الله جزء التوبة، والتوبة هي مجموع هذه الأمور، وإنما سمي تائبا لرجوعه إلى أمر الله من نهيه، وإلى طاعته من معصيته" أ. ه.

أيها المؤمنون: من الصعب أن يفعل المسلم شيئا لا يعرفه أو لا يرى له أهمية، فبعض الناس يسمع بالتوبة، ولا يعرف معناها، أو لا يعرف الطريق المؤدي إليها، فما هي التوبة؟

التوبة هي حقيقة دين الإسلام، والدين كله داخل في مسمى التوبة، وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله،

قال ابن القيم: " ف(إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة: 222]. وإنما يحب الله من فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه.

فإذًا، التوبة هي الرجوع مما يكرهه الله ظاهرا وباطنا إلى ما يحبه ظاهرا وباطنا، ويدخل في مسماها الإسلام والإيمان والإحسان، وتتناول جميع المقامات، ولهذا كانت غاية كل مؤمن وبداية الأمر وخاتمته كما تقدم، وهي الغاية التي وجد لأجلها الخلق والأمر والتوحيد جزء منها، بل هو جزؤها الأعظم الذي عليه بناؤها، وأكثر الناس لا يعرفون قدر التوبة ولا حقيقتها، فضلا عن القيام بها علما وعملا وحالا" أ. ه.

معاشر المؤمنين: كما أن للتوبة أنواعا، فمنها: التوبة الصحيحة، وهي أنه إذا اقترف العبد ذنبا تاب عنه بصدق في الحال.

ومنها: التوبة الأصح، وهي التوبة النصوح وهي توثيق العزم على ألا يعود لمثله، وقيل: هي ألا يُبقي التائب على عمله أثرا من المعصية سرا وجهرا.

وقيل: تنزيه القلب، وعلاماتها أن يكره العبد المعصية ويستقبحها فلا تخطر له على بال ولا ترد في خاطره أصلا.

ومنها: التوبة الفاسدة، هي التوبة باللسان مع بقاء لذة المعصية في الخاطر.

أيها المؤمنون: إن ذنوب العبد كثيرة ولربما لا يحصيها، بل يفعلها ومع الزمن ينساها، ولكنها قد سجلت عليه وحفظت ليجزى بها يوم القيامة: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المجادلة: 6]. فمثل هذا يجب عليها أن يتدارك نفسه بالتوبة العامة.

قال ابن تيمية: "فمن تاب توبة عامة كانت هذه التوبة مقتضية لغفران الذنوب كلها، وإن لم يستحضر أعيان الذنوب، إلا أن يعارض هذا العام معارض يوجب التخصيص، مثل أن يكون بعض الذنوب لو استحضره لم يتب منه لقوة إرادته إياه، أو لاعتقاده أنه حسن ليس بقبيح فما كان لو استحضره لم يتب منه لم يدخل فى التوبة، وأما ما كان لو حضر بعينه لكان مما يتوب منه، فإن التوبة العامة شاملته،... وقال: وكثير من الناس لا يستحضر عند التوبة إلا بعض المتصفات بالفاحشة، أو مقدماتها، أو بعض الظلم باللسان أو اليد، وقد يكون ما تركه من المأمور الذي يجب له عليه في باطنه وظاهره من شعب الإيمان وحقائقه أعظم ضررا عليه مما فعله من بعض الفواحش، فإن ما أمر الله به من حقائق الإيمان التى بها يصير العبد من المؤمنين حقا أعظم نفعا من نفع ترك بعض الذنوب الظاهرة كحب الله ورسوله، فإن هذا أعظم الحسنات الفعلية حتى ثبت فى الصحيح: أنه كان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل يدعى حمارا، وكان يشرب الخمر، وكان كلما أوتي به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- جلده الحد، فلما كثر ذلك منه أتى به مرة فأمر بجلده، فلعنه رجل، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله".

فنهى عن لعنه مع إصراره على الشرب، لكونه يحب الله ورسوله، مع أنه صلى الله عليه وسلم "لعن في الخمر عشرة: لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها، وشاربها وساقيها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها ومبتاعها، وآكل ثمنها" ولكن لعن المطلق لا يستلزم لعن المعين الذى قام به ما يمنع لحوق اللعنة له" أ. ه.

اللهم أعنا على التوبة النصوح، وتقبل منا يا كريم.

أقول قولي...

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين...

أما بعد:

فيا أيها الناس: اتقوا الله وتوبوا إليه، فلقد أفلح التائبون، وخسر البطالون، هذا ولقد كان سلف الأمة من أنصح الأمة توبةً، وأسرعهم حوبة، ولنعرض لأمثلة.

من ذلك: أخرج مسلم في صحيحه من حديث بريدة قال: جاء ماعز بن مالك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله طهرني؟ فقال: ويحك ارجع فاستغفر الله، وتب إليه، قال: فرجع غير بعيد، ثم جاء فقال: يا رسول الله طهرني؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ويحك ارجع فاستغفر الله، وتب إليه، قال: فرجع غير بعيد، ثم جاء فقال: يا رسول الله طهرني؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة، قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فيم أطهرك؟ فقال: من الزنى، فسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبه جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون، فقال: أشرب خمرا؟ فقام رجل فاستنكهه، فلم يجد منه ريح خمر، قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أزنيت؟ فقال: نعم، فأمر به فرجم، فكان الناس فيه فرقتين، قائل يقول لقد هلك، لقد أحاطت به خطيئته، وقائل يقول ما توبة أفضل من توبة ماعز، أنه جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فوضع يده في يده، ثم قال: اقتلني بالحجارة؟ قال: فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة، ثم جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم جلوس، فسلم ثم جلس، فقال: استغفروا لماعز بن مالك، قال: فقالوا غفر الله لماعز بن مالك، قال فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم، قال: ثم جاءته امرأة من غامد من الأزد، فقالت: يا رسول الله طهرني؟ فقال: ويحك ارجعي فاستغفري الله، وتوبي إليه، فقالت: أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك؟ قال: وما ذاك؟ قالت: إنها حبلى من الزنى، فقال: آنت، قالت: نعم، فقال لها: حتى تضعي ما في بطنك، قال: فكفلها رجل من الأنصار، حتى وضعت قال: فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: قد وضعت الغامدية، فقال: إذا لا نرجمها، وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه، فقام رجل من الأنصار فقال: إلي رضاعه يا نبي الله؟ قال: فرجمها.

ومن ذلك: ما أخرج البخاري ومسلم واللفظ للبخاري من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا، ثم خرج يسأل فأتى راهبا فسأله، فقال له: هل من توبة؟ قال: لا، فقتله فجعل يسأل، فقال له رجل: ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت، فناء بصدره نحوها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى هذه أن تقربي، وأوحى الله إلى هذه أن تباعدي، وقال: قيسوا ما بينهما فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له".

ومن ذلك: قصة توبة إبراهيم بن أدهم، ذكر الذهبي في السير: أن إبراهيم بن أدهم كان من الأشراف، وكان أبوه كثير المال والخدم المراكب والجنائب والبزاة، فبينا إبراهيم في الصيد على فرسه يركضه إذا هو بصوت من فوقه يا إبراهيم ما هذا العبث: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا) [المؤمنون: 115].

اتق الله عليك بالزاد ليوم الفاقة، فنزل عن دابته، ورفض الدنيا.

ومنها: كذلك توبة الإمام الفضيل بن عياض فقد كان الفضيل بن عياض شاطرا يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس، وكان سبب توبته أنه عشق جارية فبينا هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع تاليا يتلو: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ) [الحديد: 16] فلما سمعها قال: بلى يا رب قد آن، فرجع فآواه الليل إلى خربة فإذا فيها سابلة، فقال بعضهم: نرحل، وقال بعضهم: حتى نصبح، فإن فضيلا على الطريق يقطع علينا، قال: ففكرت وقلت: أنا أسعى بالليل في المعاصي، وقوم من المسلمين ها هنا يخافوني، وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام".

ومن ذلك: أنه دخل على مالك بن دينار لص فما وجد ما يأخذ فناداه مالك لم تجد شيئا من الدنيا، فترغب في شيء من الآخرة، قال: نعم، قال: توضأ وصل ركعتين، ففعل، ثم جلس وخرج إلى المسجد فسئل من ذا؟ قال: جاء ليسرقنا فسرقناه، ولزم حلقة مالك.

قال الشاعر:

قدم لنفسك توبة مرجوة *** قبل الممات وقبل حبس الألسن

بادر بها غلق النفوس فإنها *** ذخر وغنم للمنيب المحسن

عباد الله: ما منا إلا مذنب خطاء، ولولا ستر الله لفضحنا.

فيا من بلغ الستين: ماذا تنتظر؟ فإن أعمار الأمة بين الستين والسبعين؟ ويا من دون الستين: لا تأمن الموت.

فالموت يأتي فجأة *** والقبر صندوق العمل

فهل تحصي من مات ممن هو في سن الزهور وقد غدت به الأماني والغرور؟

معاشر المسلمين: من أيقن بما سمع فليستعد لما أمامه بعمل الطاعات، والهروب من المعاصي والزلات، وليستعد ليوم التغابن عندما يتغابن الناس بالأعمال الصالحات.

أترضى أن تكون رفيق قوم *** لهم زاد وأنت بغير زاد

كان أبو عبيدة يسير في العسكر، فيقول: ألا رب مبيض لثيابه مدنس لدينه؟ ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين؟ بادروا السيئات القديمات بالحسنات الحديثات.

أيها المؤمنون: ألا فليقعد كل منا مع نفسه قعدة صادق وليحاسبها، وليأخذ بها إلى طريق النجاة قبل فوات الأوان قبل ساعة الندم ولات حين مندم.

قال قتادة: "ابن آدم والله إن عليك لشهودا غير متهمة من بدنك فراقبهم، واتق الله في سرك وعلانيتك، فإنه لا يخفى عليه خافية، والظلمة عنده ضوء، والسر عنده علانية، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن فليفعل ولا قوة إلا بالله.

اللهم أيقظنا من الرقدات، وأعذنا من الغفلات، واغفر لنا الذنوب والسيئات.

اللهم أعنا على تدارك مافات من الأوقات والأعمار يا رب العالمين.

اللهم وفق الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.

اللهم أنج المستضعفين من...

ربنا ظلمنا أنفسنا...

ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين...

سبحان ربك رب...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي