في شرح حديث أبي ذر وهو الحديث القدسي

صالح بن فوزان الفوزان
عناصر الخطبة
  1. منزلة حديث : ( يا عبادي إني حرمت الظلم ) .
  2. من المعاني الجليلة التي يتضمنها الحديث .

اقتباس

.. فهو -سبحانه- مع غناه عن عباده يحب منهم أن يطيعوه؛ ليثيبهم، وأن يستغفروه من ذنوبهم؛ ليغفر لهم تفضلاً منه وإحساناً، والعباد مع فقرهم إلى الله وحاجتهم إليه يبتعدون عنه ويبارزونه بالمعاصي ويضرون أنفسهم، وهذا من جهلهم وغرورهم، ثم أكد -سبحانه- وقرر غناه عن طاعات عباده، وعظيم سلطانه الذي لا يصل إليه الضرر بحال من الأحوال، وأن ملكه تام لا تزيده طاعة المطيع، ولا تنقصه معصية العاصي ..

 

 

 

الحمد لله رب العالمين، خلق الجن والإنس ليعبدوه، وبين لهم طريق الخير ليسلكوه، وطريق الشر ليجتنبوه، وجعل لهم مدارك وحواس يعرفون بها الضار والنافع والخير والشر، (إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان 1: 3] أحمده على نعمه التي لا تحصى وأجلها نعمة الإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القدوس السلام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أزكى من صلى وصام، وسعى بين الصفا والمروة ووقف بالمشاعر وطاف بالبيت الحرام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى ومصابيح الظلام، وسلم تسليماً كثيراً على الدوام.

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله، وتأملوا ما في كلام الله وكلام رسوله من الحكم والأحكام؛ فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وأنا أسمعكم حديثاً من كلام ربكم عز وجل رواه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم، يخاطبكم فيه ربكم ويأمركم وينهاكم؛ فعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهديكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم. يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" رواه مسلم.

عباد الله: لقد كان السلف يعظمون هذا الحديث غاية التعظيم.

كان الإمام أحمد يقول: هو أشرف حديث لأهل الشام. وكان أبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثى على ركبتيه، وذلك لأن هذا الحديث خطاب من الرب جل وعلا لعباده يتضمن معاني جليلة:

أولها: تنزيه الله سبحانه عن الظلم، ونهي العباد أن يظلم بعضهم بعضاً. وقد فسر كثير من العلماء الظلم بأنه وضع الشيء في غير موضعه، وفي "الصحيحين" عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الظلم ظلمات يوم القيامة" وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلل منها فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه".

وثاني هذه التوجيهات الربانية: بيان افتقار العباد إلى الله عز وجل في هدايتهم من الضلالة، وإطعامهم من الجوع، وكسوتهم من العري، ومغفرة ذنوبهم، وأمرهم بطلب هذه الأمور منه وحده، وقد استدل إبراهيم الخليل -عليه السلام- بتفرد الله بهذه الأمور على وجوب إفراده بالعبادة؛ فقال لقومه: (قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء 75: 82] فإن من تفرد بخلق العبد وهدايته ورزقه وإحيائه وإماتته ومغفرة ذنوبه في الآخرة مستحق أن يفرد بالعبادة والسؤال والتضرع.

وثالث هذه التوجيهات الربانية: بيان أن العباد لا يقدرون أن يوصلوا إلى الله نفعاً ولا ضراً؛ فإن الله تعالى غني حميد لا حاجة له بطاعات العباد ولا يعود نفعها إليه، وإنما يعود نفعها إليهم هم، ولا يتضرر بمعاصيهم وإنما هم يتضررون بها؛ قال تعالى: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر :7] فهو -سبحانه- مع غناه عن عباده يحب منهم أن يطيعوه؛ ليثيبهم، وأن يستغفروه من ذنوبهم؛ ليغفر لهم تفضلاً منه وإحساناً، والعباد مع فقرهم إلى الله وحاجتهم إليه يبتعدون عنه ويبارزونه بالمعاصي ويضرون أنفسهم، وهذا من جهلهم وغرورهم، ثم أكد -سبحانه- وقرر غناه عن طاعات عباده، وعظيم سلطانه الذي لا يصل إليه الضرر بحال من الأحوال، وأن ملكه تام لا تزيده طاعة المطيع، ولا تنقصه معصية العاصي، وأن خزائنه لا تنقص مع كثرة الإنفاق؛ فلو أن كل الخلق كانوا تقاة ما زاد ذلك في ملكه، ولو كانوا كلهم فجرة ما نقص ذلك مُلْكَه، ولو سألوه كلهم فأعطى كل سائل حاجته ما نقص ذلك ما عنده، فدل ذلك على أن ملكه كامل على أي وجه لا يؤثر فيه شيء، وأن خزائنه لا تنفد ولا تنقص بالعطاء ولو أعطى الأولين والآخرين والجن والإنس جميع ما سألوه في مقام واحد، وفي ذلك حث الخلق على طلب حوائجهم منه سبحانه.

وآخر هذه التوجيهات الربانية: بين أنه سبحانه يحصي أعمال عباده خيرها وشرها ثم يجازيهم عليها؛ فالشر يجازي عليه بمثله من غير زيادة إلا أن يعفو عنه، والخير يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة لا يعلم قدرها إلا الله، تفضلاً منه وإحساناً.

ثم بين -سبحانه- أن الخير كله فضل من الله على عبده من غير وجوب استحقاق له عليه؛ فيجب أن يُحمد الله عليه، وأن الشر كله من عند ابن آدم قدر عليه؛ بسبب اتباع هوى نفسه؛ كما قال تعالى: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء: 79] وهذا هو الذي يقع في يوم القيامة فأهل الخير يقولون: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) [الأعراف:43] وأهل الشر: (يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ) [غافر:10] وذلك حين (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) [الزمر:56]

فاتقوا الله -عباد الله-، وبادروا بالأعمال الصالحة، وتوبوا من الأعمال السيئة ما دمتم في زمن الإمكان.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) [فاطر 15: 18]

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
 

 

 

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي