مصادر الكسب الحرام متنوعة كثيرة، يصعب حصرها، ويطول تعدادها، خصوصا في هذا الزمن. غير أن من يريد النجاة لنفسه لا ينظر إلى ما عليه أكثر الناس اليوم من التساهل بأمر الكسب، والتحايل على الربا، ومنع الزكاة، والوقوع في البيوع الفاسدة، فهذا مما جاء به الخبر عن سيد البشر، حيث قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليأتينّ على الناس زمانٌ لا يبالي المرء بما أخذ المالَ أمن الحلال أم من الحرام" رواه البخاري.
الحمد لله خلق فسوى، وقدر فهدى، إليه المنتهى، هو أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، لا إله إلا هو العلي الأعلى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق الأرض والسماوات العلى، (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى) [طه:5-8].
وأشهد أن نبينا عبده المصطفى، وخليله المجتبى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين زادهم الله هدى، وعلى من تبعهم بإحسان واقتفى.
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، وتزودوا للدار الباقية، ولا تغرنكم هذه الحياة بلهوها؛ فما هي إلا متاع زائل، وظل حائل، لا بقاء فيها، ولا قرار لها، كتب الله -جل ثناؤه- عليها وعلى أهلها الفناء: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن:26-27]، (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران:185].
أين من شيدوا فيها وأحكموا وأبرموا ونقضوا وأكلوا وشربوا وركبوا ولبسوا وأمروا ونهوا وتمتعوا وجمعوا؟ لقد أخرجوا من المساكن والبناء إلى التراب والفناء، فهذه قصورهم وتلك قبورهم، فمنهم شقي وسعيد.
قال رجل لداود الطائي -رحمه الله-: أوصني، فقال: "عسكر الموتى ينتظرونك". وقال له آخر: أوصني؛ فبكى ثم قال: "يا أخي، إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة، حتى ينتهي بهم آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زادا لما بين يديك فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب، والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك، فكأنك بالموت وقد نزل بك، إنما الدنيا وإن سرّتْ قليلٌ من قليل، إنما العيش جوار الله في ظل ظليل، حين لا تسمع ما يؤذيك من قال وقيل".
أيها المسلمون: إن من ضعف اليقين ونقص الإيمان عند الإنسان أن يبالغ في حب الدنيا ويؤثرها على الآخرة، فهو جَموع منوع حريص ممسك، همه وعلاقاته وأفكاره وصدقاته وأعماله واهتماماته للدنيا وجمع الحطام، حتى لو دخل في الكسب الحرام، يتعلق بالشبه الواهية في تحصيل المال بأي وجه كان، ناسيا أو متناسيا أن كل جسد نبت على سحت فالنار أولى به.
أيها المسلمون: أمر الله المؤمنين بالأكل من الطيبات، والبعد عن المكاسب الخبيثة، والمعاملات المشتبهة، فقال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ) [البقرة:172]، "ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه".
ثم فليعلم الإنسان المتساهل بالكسب بأن رزق الله لا يجلبه حرص حريص، ولا يرده كراهية كارهه، وأن جبال الدنيا لو صارت معه ذهبا فما قيمة مال حرام يعقبه الموت؟ وكان يكفيه قليل من الحلال ليلقى ربه غدا سالما من التبعات.
ألا وإن شر المكاسب وأخبث المال ما جمع من الربا، فهو سحت ومَحْقٌ في الدنيا، وعذاب يوم القيامة، قال الله -جل جلاله-: (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا) [البقرة:276].
المرابي يوم القيامة يقوم من قبره كالمجنون، قال -سبحانه-: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) [البقرة:275].
المرابي قد ارتكب كبيرةً، وباء بلعنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
المرابي محاربٌ لله، قال ابن عباس عند قوله -تعالى-: (وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة:278-279]، قال: "يُقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب".
وأخرج الطبري وابن أبي حاتم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "فمن كان مقيما على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه؛ فإن نزع، وإلا ضرب عنقه".
أيها المسلمون: تأملوا في قول الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ) [البقرة:278-279]. إنه وعيد شديد، وتهديد أكيد، لكل من تعاطى الربا بجميع صوره وأشكاله.
هذا وعيد الآخرة، أما في الدنيا، فمن ذلك: القلة والإفلاس، يقول -سبحانه-: (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) [البقرة:276].
وفي سنن ابن ماجه عن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة"، وروى الإمام أحمد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لعن الله آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه"، وقال: "ما ظهر في قومٍ الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله عز وجل"، وفي صحيح مسلم عن جابر -رضي الله عنه- قال: "لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء".
ألا فتبّاً للمرابي! فماذا بعد هذا الوعيد الشديد؟ محارب لله، معلون على لسان رسول الله، عاقبة أمره إلى قلة، وإثمه مضاعف، آكل للمال بالباطل، دعاؤه مردود، وباب الخير في وجهه مسدود، وسوء الخاتمة ينتظره.
وفي حديث أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- "ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذّي بالحرام؛ فأنى يستجاب لذلك؟!" رواه مسلم.
أيها المسلمون: مصادر الكسب الحرام متنوعة كثيرة، يصعب حصرها، ويطول تعدادها، خصوصا في هذا الزمن. غير أن من يريد النجاة لنفسه لا ينظر إلى ما عليه أكثر الناس اليوم من التساهل بأمر الكسب، والتحايل على الربا، ومنع الزكاة، والوقوع في البيوع الفاسدة، فهذا مما جاء به الخبر عن سيد البشر، حيث قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليأتينّ على الناس زمانٌ لا يبالي المرء بما أخذ المالَ أمن الحلال أم من الحرام" رواه البخاري.
بل على الإنسان أن يتأنى ويدع الربا والريبة، و"لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها"، ورزق الله يطلُب العبد كما يطلبه أجله، وقد كتب رزقه وهو في بطن أمه، والحرص والجشع والطمع زيادة عناء وهموم وأكدار، تؤثّر على صحة الإنسان، وما وجد من أجله في هذه الحياة، إنما وجد من أجل عبادة الله -عز وجل-، فعليه أن ينصب للعبادة، وأن يفعل الأسباب المباحة.
وفق الله الجميع لما يرضيه، وأغنانا من فضله، ويسر أرزاقنا وأرزاق المسلمين؛ إنه هو الرزاق الكريم.
استغفروا ربكم وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله. اللهم لك الحمد وأنت للحمد أهل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فالإسلام حث على الكسب والسعي لطلب الرزق، وحرّض على العمل المباح، قال -سبحانه-: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك:15].
ووصل الله وقت العبادة بوقت الاكتساب، فقال -سبحانه-: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الجمعة:10].
لكن حذر من أن يكون المال أو الولد سببا مشغلا عن عبادة الله، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المنافقون:9].
والإنسان إذا أصابه تعب في سبيل طلب معيشته فهو مأجور ما دام لم يقتحم الكسب الحرام، وما دام لم يتعامل بالبيوع الفاسدة، فقد قال الله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:155-157].
أيها المسلمون: وهناك صورٌ معاصرةٌ كثيرةٌ جدا من البيوع المحرمة أشير إلى شيء منها:
فمن ذلك بيع منح الأراضي بمعرفة رقمها قبل استلامها، وهذا لا يجوز؛ بل هو بيع غرض، حتى يحوزها الإنسان ويعرفها، ثم بعد ذلك إن بدا له أن يبيعها باعها.
وكذلك من الصور: بيع بطاقات التخفيض، بحيث يحصل حاملها على بعض الفحوصات المجانية خلال السنة، أو بعض التخفيض المالي إذا اشترى من محلات معينة؛ وهذا لا يجوز، لما فيه من الجهالة والمقامرة والغرر الكثير.
ومن ذلك بيع المجلات والصحف التي تشتمل على نشر صور النساء، أو الدعوة إلى الفاحشة، أو شرب المسكرات، وكذلك بيع ما فيه غناء من أشرطة أو "سيديهات" وأجهزة أو غير ذلك.
وكذلك مما يحرم بيعه الصحف والمجلات التي تسخر من الإسلام، وتسب العلم والعلماء، أو تنشر الإلحاد والفساد بين الناس.
وإن مما يحرم -كذلك- تأجير المحلات لفعل المحرمات، كمحلات حلق اللحى، أو بيع الدخان، أو بيع وتصنيع الخمور، أو غير ذلك.
وكذلك، من علم أن هذه السلعة قد سرقت أو غلب على ظنه ذلك حرم عليه شراؤها، ويجب الإنكار على السارق، ونصحه بأن يردها على صاحبها.
أيها الناس: يلاحظ أن بعض الناس يبيع ثمرة النخل في هذه الأيام وهو أخضر تماما لم يبدُ صلاحه، وهذا العمل محرم، ولربما تحايل بعضهم بتأجير استراحته أو مزرعته مع نخيلها الذي لم يبد الصلاح في ثمره، والمقصود إنما هو بيع ثمرة النخل لا الاستراحة ولا المزرعة، وهذه حيلة باطلة وعمل محرم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمشتري.
وجميع بيوع الغرض والجهالة والخداع والربا محرمة لا تجوز.
أيها الناس: اتقوا الله -عز وجل-، واحذروا الكسب الخبيث، سواء كان من الربا أو الرشوة أو السرقة أو البيوع الفاسدة أو الغش أو غير ذلك؛ فإن هذه تفسد القلب، وتكون سبباً في رد الدعاء، ونزع البركة من المال، وحصول الأزمات الاقتصادية المتعددة، مع ما يدخر لصاحبها -إن لم يتب- من الوعيد الشديد في الآخرة.
والمال غادٍ ورائحٌ، والدنيا لا تغني عن الآخرة، والمردُّ إلى علّام الغيوب، فمهما طال عمر الإنسان فسوف يحاسب على عمله. (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) [الانشقاق:6].
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي