فتذكروا -رحمكم الله- حلول ساعة الاحتضار بكم، وحاسبوا أنفسكم: ماذا عملتم فيما مضى؟! وماذا عساكم أن تعملوا فيما بقي؟! وتذكروا: كم ودعتم من إخوة وأحبة وأقربين؟! وكم واريتم في الثرى من أصدقاء وأعزة ومجاورين؟! واعلموا أن الموت الذي تخطاكم إليهم سيتخطى غيركم إليكم، فإلى متى الغفلة...
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، سبحانه وبحمده، أوجد الكون ودبَّره، وخلق الإنسان من نطفة فقدره، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ، ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ، ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ. والشكر لربنا على جميل لطفه، وجزيل ثوابه، وواسع فضله، عَظُم حِلْمُه فستر، واستغفره المذنبون فغفر، وبسط يده بالعطاء فأكثر، قصَدَتْه الخلائق بحاجاتها فأعطاها، وتوجهت إليه القلوب بلهفاتها فهداها.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تكفَّل برزق جميع الخلائق، وتعرَّف إلى خلقه بالدلائل والحقائق، له الحكمة فيما قدَّر وقضى، وإليه وحده تُرفَع الشكوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبدُ الله ورسوله، أرفعُ عباد الله قدراً، وأكثرهم لمولاه شكراً، وأعظمهم لربه ذكراً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، صفوة الله من خلقه، وخيرته من عباده، والتابعين ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فاتقوا الله -رحمكم الله- فتقوى الله طريق النجاة والسلامة، وسبيل الفوز والكرامة، بالتقوى تزداد النعم، وتتنزل البركات، وبها تُصْرَف النقم، وتستدفع الآفات.
أيها الإخوة: مما ينبغي أن يُعلم أن الواجب على كل مؤمن ومؤمنة: التصديق بما أخبر الله به في كتابه، أو على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- من جميع الأمور المتعلقة بالآخرة والحساب والجنة والنار، وفيما يتعلق بالموت والقبر وعذابه ونعيمه، وسائر أمور الغيب مما جاء في القرآن الكريم أو صحت به السنة المطهرة، فعلينا الإيمان والتسليم والتصديق بذلك؛ لأننا نعلم أن ربنا هو الصادق فيما يقوله -سبحانه- وفيما يخبر به -جل وعلا-، لقوله تعالى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) [النساء: 122]، وقوله -سبحانه-: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) [النساء: 87]. ونعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصدق الناس، وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فما ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة، وجب التصديق به وإن لم نعرف حقيقته.
أيها الإخوة: ومما يجب الإيمان به سؤال الميت في قبره، وقد ذكر لنا ربنا -سبحانه- في القرآن العظيم أنه -جل وعلا- يثبت بعض عباده في الحياة الدنيا وفي أول مراحل الآخرة عندما يوضع العبد في قبره ويتولى عنه أهله، فقال تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم: 27].
ويوضح هذا المعنى جليًّا حديث البراء بن عازب -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "(يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) [إبراهيم: 27] نزلت في عذاب القبر"، يقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، ونبي محمد، فذلك قوله- -سبحانه- وتعالى-: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ)" [مسلم (2871)]. نسأل الله أن يثبتنا عند السؤال ويحسن لنا الختام أجمعين.
عباد الله: هذه الأمة تبتلى في القبور، بهذا أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعن أبي سعيد الخدري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا فَلَوْلاَ أَنْ لاَ تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ". ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: "تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ". قَالُوا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ فَقَالَ: "تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ". قَالُوا: "نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ". [مسلم (2867)] وفي رواية للبخاري قال: "إذا أُقعد المؤمن في قبره أُتي ثم شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فذلك قوله: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)" [البخاري(1369)].
وأوضح النبي -صلى الله عليه وسلم- أن هذه الأمة تفتن في قبورها وتُسأل وتحاسب، فعن عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فَأَمَّا فِتْنَةُ الْقَبْرِ فَبِي تُفْتَنُونَ وَعَنِّي تُسْأَلُونَ" [مسند أحمد (25133) وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3557)]. فإذا مات العبد ووضع في قبره سئل عن الإيمان وحوسب على الكفران، وسئل عن النبي -عليه الصلاة والسلام.
أيها الإخوة: استمعوا معي لحديث طويل من درر النبي الأمين -صلى الله عليه وسلم- يوضح فيها أحوال الخلق في القبر بعد الدفن وعند سؤال الملكين وما يصير إليه العبد المؤمن من الرضا والجنة، ويصير قبره روضة، والآخر إذ يعذب ويصير قبره حفرة من حفر النيران، نعوذ بالله تعالى من ذلك.
عن البراء بن عازب-رضي الله عنه- قال: "خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يُلحد، فجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر، مرتين أو ثلاثًا.
ثم قال: إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم إذا ولوا مدبرين، فيأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ قال: فيقول: هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيقولان: وما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، زاد في حديث جرير فذلك قول الله -عز وجل:- (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) [إبراهيم: 27]، الآية.
فينادي مناد من السماء: أن قد صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، وألبسوه من الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، قال: ويفتح له فيها مد بصره". نسأل الله من فضله العظيم وستره الجميل.
وفي المقابل ذكر غير الطائعين، قال: "وإن الكافر فذكر موته، قال: وتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان: من ربك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري: فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السماء: أن كذب، فأفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار، قال: فيأتيه من حرها وسمومها، قال: ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه", زاد في حديث جرير قال: "ثم يقيض له أعمى أبكم معه مرزبة من حديد، لو ضرب بها جبل لصار ترابا، قال: فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين، فيصير ترابا، قال: ثم تعاد فيه الروح" [أبو داود (4753) وصححه الألباني].
وفي رواية للإمام أحمد تزيد الأمر وضوحًا وتزيد القلب خوفًا من أحوال العصاة والمخالفين، يقول: "ثم يقيض له أعمى أصم أبكم في يده مرزبة، لو ضُرب بها جبل كان ترابًا، فيضربه ضربه فيصير تراباً، ثم يعيده الله -عز وجل- كما كان فيضربه ضربه أخرى فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين" قال البراء بن عازب: "ثم يفتح له باب إلى النار ويمهد له من فرش النار" [صحيح, عمدة التفسير لأحمد شاكر(2/22)].
أيها الإخوة: استعيذوا بالله من عذاب القبر، واعلموا أن المقصود من سوق هذه النصوص والآثار أن يحصل العبد الخوف والاعتبار, ويحسن الاستعداد ليوم القدوم على الله الواحد القهار، ويخاف من القدوم على الله مفلسًا.
عباد الله: وفي تصوير دقيق لحال العبد في عند نزع روحه وقبره وسؤال الملكين له يصف لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- تلك المراحل، وكيف يجسد للعبد الصالح عمله في صورة جميلة، وما أمنيته عند ذلك، فعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ، وَلَمَّا يُلْحَدْ قَالَ: فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّ عَلَى رُؤسِنَا الطَّيْرَ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ قَالَ: فَرَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: "اسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ نَزَلَت إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ، وَكَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ مَعَهُمْ حَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، وَكَفَنٌ مِنْ كَفَنِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ قَالَ: فَتَخْرُجُ نَفْسُهُ فَتَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعْهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذَهَا فَيَجْعَلَهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ، وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ رِيحِ مِسْكٍ، وُجِدَتْ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ.
فَلَا يَمُرُّونَ بِمَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذِهِ الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانِ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّذِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُفْتَحُ لَهُ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَيَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: اكْتُبُوا عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى.
فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ، فَيَقُولَانِ: وَمَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ هُوَ رَسُولُ اللهِ، فَيَقُولَانِ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ، قَالَ: فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَافْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا مِنَ الْجَنَّةِ فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ لَهُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ فَهَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ الَّذِي يَأْتِي بِالْخَيْرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي. -اللهم اجعلنا منهم-.
وأما أحوال غير الطائعين، وكيف يدخل عليه الملك وكيف يجسد له عمله في صورة بشعة، وما أمنيته عند ذاك، فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "وَأَمَا الْعَبْدُ الْكَافِرُ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ ومَعَهُمُ الْمُسُوحُ حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَأْتِيَهِ مَلَكُ الْمَوْتِ فَيَجْلِسُ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى سَخَطِ اللهِ وَغَضَبِهِ" . قَالَ: "فَتَفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ فَيَنْتَزِعُهَا، وَمَعَهَا الْعَصْبُ وَالْعُرُوقُ كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ فَيَأْخُذُونَهَا فَيَجْعَلُونَهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ".
قَالَ: "وَيَخْرُجُ مِنْهَا أَنْتَنُ مِنْ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذِهِ الرُّوحُ الْخَبِيثَةُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ فَلَا يُفْتَحُ لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ) [الأعراف: 40] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ قَالَ: فَيَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الْأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى، وَأَعِيدُوه إِلَى الْأَرْضِ فَإِنَّا مِنْهَا خَلَقْنَاهُمْ، وَفِيهَا نُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا نُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى".
قَالَ: "فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ) [الحج: 31] الْآيَةَ، ثُمَّ تُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أنْ كَذَبَ فَافْرِشُوهُ مِنَ النَّارِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا مِنَ النَّارِ فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ".
قَالَ: "وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ", قَالَ: "فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهِ الَّذِي يَجِي بِالشَّرِّ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، فَيَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ". [مسند أحمد (18557) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1676)].
ويزيد النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمر إيضاحًا، ويذكر أحوال الموتى في قبورهم وكيف تسألهم الملائكة وما يقولون، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- - قَالَ: «" الْمَيِّتَ يَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ، فَيُجْلَسُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فِي قَبْرِهِ غَيْرَ فَزِعٍ وَلاَ مَشْعُوفٍ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: فِيمَ كُنْتَ؟ فَيَقُولُ: كُنْتُ فِي الإِسْلاَمِ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَصَدَّقْنَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ رَأَيْتَ اللهَ؟ فَيَقُولُ: مَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَرَى اللهَ.
فَيُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ النَّارِ فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا يَحْطِمُ بَعْضَهَا بَعْضاً، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُر إِلَى مَا وَقَاكَ اللهُ، ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ الْجَنَّةِ، فَيَنْظُرُ إِلَى زُهْرَتِهَا وَمَافِيهَا، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ، وَيُقَالُ لَهُ: عَلَى الْيَقِينِ كُنْتَ وَعَلَيْهِ مُتَّ، وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللهُ.
وَيُجْلَسُ الرَّجُلُ السُّوءُ فِي قِبْرِهِ فَزِعاً مَشْعُوفاً، فَيُقَالُ لَهُ: فِيمَ كُنْتَ؟ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي، فَيُقَالُ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُ: سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ قَوْلاً فَقُلْتُهُ، فَيُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ الْجَنَّةِ، فَيَنْظُرُ إِلَى زُهْرَتِهَا وَمَا فِيْهَا، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُر إِلَى مَا صَرَفَ اللهُ عَنْكَ، ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ النَّارِ فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضاً، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ، عَلَى الشَّكِّ كُنْتَ وَعَلَيْهِ مُتَّ وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى" [ابن ماجه (4268) وصححه الألباني].
فاستحضروا اليقين -إخوة الإسلام- وكونوا على الثقة واليقين برب العالمين، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وحقيق بمن عرف النهاية والقبر والموت والسكرات، أن يحسن الاستعداد لها، نسأل الله حسن الخاتمة، وبرد العيش بعد الموت، ربنا اغفر لنا وارحمنا، وعافانا واعف عنا، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين، وخاتم المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله حق تقواه، واعملوا بطاعته ورضاه. واعتبروا بمن صار تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب.
أيها الإخوة: وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا ما يوصي أصحابه بالاستعداد للموت والقبر والسكرات وحسن الاستعداد لما بعد الموت، وكان كثيرًا ما يذكر سؤال القبر، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر فتاني القبر فقال عمر: أترد إلينا عقولنا يا رسول الله؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نعم كهيئتكم اليوم" فقال عمر: "بفيه الحجر". [ مسند أحمد (6603) وصححه أحمد شاكر في تحقيق المسند (10/106)].
وعن عطاء بن يسار أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعمر بن الخطاب: "يا عمر؛ كيف بك إذا أنت مت فقاسوا لك ثلاثة أذرع وشبر في ذراع وشبر، ثم رجعوا إليك فغسلوك وكفنوك وحنطوك، ثم احتملوك حتى يضعوك فيه، ثم هيلوا عليك التراب، فإذا انصرفوا عنك أتاك فتانا القبر: منكر، ونكير، أصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما مثل البرق الخاطف، فتلتلاك وترتراك وهولاك، فكيف بك عند ذلك يا عمر؟ قال: يا رسول الله، ومعي عقلي؟! قال -صلى الله عليه وسلم-: نعم، قال -رضي الله عنه-: إذًا أكفيكهما" [رواه أبو الشيخ في السنة، وقال ابن حجر في المطالب العالية (5/97): رجاله ثقات مع إرساله].
وقد رُوي عن مجاهد: أن الموتى كانوا يفتنون في قبورهم سبعًا، فكانوا يستحبون أن يطعم عنهم تلك الأيام، وعن عبيد بن عمير قال: "المؤمن يفتن سبعًا، والمنافق أربعين صباحًا".
وأخيرًا -أخي الكريم- يا نائماً في غفلة، إلى كم هذه الغفلة والتوان، أتزعم أن ستترك سدى، وأن لا تحاسب غداً، أم تحسب أن الموت يقبل الرشا، كلا -والله- لن يدفع عنك الموت مال ولا بنون، ولا ينفع أهل القبور إلا العمل المبرور، فطوبى لمن سمع ووعى، وحقق ما ادعى، ونهى النفس عن الهوى، وعلم أن الفائز من ارعوى، (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى) [النجم: 39، 40].
فانتبه من هذه الرقدة، واجعل العمل الصالح لك عدة، ولا تتمن منازل الأبرار، وأنت مقيم على الأوزار، عامل بعمل الفجار، بل أكثر من الأعمال الصالحات، وراقب الله في الخلوات، رب الأرض والسموات، ولا يغرنك الأمل، فتزهد عن العمل، أو ما سمعت الرسول حيث يقول، لما جلس على القبور: "يا إخواني، لمثل هذا فأعدوا" [مسند أحمد (18624) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (4/345)]، أو ما سمعت الذي خلقك فسواك، يقول: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة: 197].
عباد الله: تأملوا في هذه الحياة، مُدْبِرٌ مُقْبِلُها، ومائلٌ مُعْتَدِلُها، كثيرةٌ عللها، إن أضحكت بزخرفها قليلاً، فلقد أبكت بأكدارها طويلاً. تفكروا في حال مَن جَمَعَها ثم مُنِعَها، انتقلت إلى غيره، وحَمَل إثمها ومغرمها، فيا لحسرة من فرّط في جنب الله!, ويا لندامة من اجترأ على محارم الله!, أقوام غافلون جاءتهم المواعظ فاستقلوها، وتوالت عليهم النصائح فرفضوها، توالت عليهم نعم الله فما شكروها، ثم جاءهم ريب المنون، فأصبحوا بأعمالهم مرتهَنين، وعلى ما قدمت أيديهم نادمين: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) [الشعراء: 205-207].
فتذكروا -رحمكم الله- حلول ساعة الاحتضار بكم، وحاسبوا أنفسكم: ماذا عملتم فيما مضى؟! وماذا عساكم أن تعملوا فيما بقي؟! وتذكروا: كم ودعتم من إخوة وأحبة وأقربين؟! وكم واريتم في الثرى من أصدقاء وأعزة ومجاورين؟! واعلموا أن الموت الذي تخطاكم إليهم سيتخطى غيركم إليكم، فإلى متى الغفلة -يا عباد الله-؟! فأكثروا من تذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد له.
أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، وأن يحسن لنا الختام، وألا يتوفانا إلا وهو راضٍ عنا، اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيمًا. اللهم اغفر لنا جميع ما سلف منا من الذنوب، واعصمنا فيما بقي من أعمارنا ووفقنا لعمل صالح ترضى به عنا. اللهم يا سامع كل صوت، ويا بارئ النفوس بعد الموت، يا من لا تشتبه عليه الأصوات، يا عظيم الشأن، يا واضح البرهان، يا من هو كل يوم في شأن، اغفر لنا ذنوبنا إنك أنت الغفور الرحيم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي