إنه شهر التوبة

خالد القرعاوي
عناصر الخطبة
  1. المعاصي أذية لله .
  2. حقيقة التوبة .
  3. التوبة بابها مفتوح .
  4. فضل التوبة وثوابها .
  5. شروط التوبة .
  6. إحداث التوبة بعد الذنب .

اقتباس

اغتَنِمُوا شَهرَ رَمَضَانَ بِكَثرَةِ العِبَادَةِ والصَّلاةِ والقِرَاءَةِ والإِحسَانِ على الخَلْقِ بِالمَالِ والبَدَنِ والعَفوِ عَنْهُم، واستَكثِرُوا فِيهِ مِنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ اثْنَتَانِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ، واثْنَتَانِ لا غِنَى لَكُم عَنهُما، فَأَمَّا الَّلتَانَ تُرضُونَ بِهِمَا رَبَّكُم، فَشَهَادَةُ ألاَّ إلهَ إلَّا اللهُ والاستِغْفَارُ، وأَمَّا الَّلتَانِ لا غِنَى لَكُم عَنْهُما، فَتَسأَلُونَ اللهَ الجَنَّةَ، وَتَستَعِيذُونَ بِهِ مِن النَّارِ

الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ وَسِعَتْ رَحمتُهُ ذُنُوبَ المُسرِفِينَ، يُحبُّ التَّوابِينَ، وَيغفِرُ لِلمُخْطِئينَ المُستَغفِرِينَ، عَظُمَ حِلمُهُ فَسَتَرَ، وَبَسطَ يَدَهُ بِالعَطَاءِ فَأَكثَرَ، نَشهدُ ألاَّ إله إلاَّ اللهَ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَفَضَّلَ بِالنِّعَمِ، وَرَضِي مِنْ عِبادِهِ بِالشُّكرِ، وَغَفَرَ بِالنَّدَمِ كَبِيرَ الزَّلَلِ، ونَشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنا مُحمَّداً عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، أَرسَلَهُ اللهُ إِلَينَا هُدَىً وَرَحْمَةً وَأمْنَاً وَأَمَانَاً، صلى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَليه وعلى آلِهِ الطَّيِّبِينَ، وَأَصحَابِهِ الغُرِّ المَيَامِينِ، والتَّابِعينَ لَهُم وَمَنْ تَبِعَهم بِإحسَانٍ وإيمانٍ إلى يَومِ الدِّينِ.

أمَّا بعدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آلعمران:102].

يا كثيرَ العفوِ عمَّن كَثُرَ الذَّنبُّ لَدَيهِ

جاءَك الْمُذنِبُ يَرجو الصَّفحَ عن جُرمٍ لَدَيهِ

أَنَا ضَيْفٌ وَجَزَاءُ الضَيفِ إِحسَانٌ إِليهِ

أيُّها الصَّائِمونَ: مَضى ثُلُثُ رَمَضَانَ والثُّلُثُ كَثيرٌ! واللهُ تَعالى يُريدُ مِنَّا أنَّ نُحَقِّقَ التَّقوى لَهُ، يُريدُ مِنَّا أنَّ نَتُوبَ إليهِ فَهل حَقَّقنا ذلِكَ وَسَعينا إليهِ؟!

نَحنُ في شَهْرِ التَّوبَةِ إن لَم نُحقِّقها الآنَ فَمتى إذاً؟ حَقَّا: "مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، يَدَّعُونَ لَهُ الْوَلَدَ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ" رواه البخاريُّ.

يا مُسلِمُونَ: مَا نَفْعَلُهُ مِنْ المَعَاصِي أَذِيَّةٌ لِلهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، قالَ اللهُ في الحدِيثِ القُدْسِيِّ: "يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ". ومَعَ ذَلِكَ اللهُ تَعَالَى يَصْبِرُ عَلَينَا. بَلْ ويُحسِنُ إِلينَا بِالصِّحَةِ فِي أَبْدَانِنَا، والأمْنِ في أوطَانِنَا، والرَّخَاءِ في أرزَاقِنا! فَو اللهِ -يَا صَائِمونَ- لَيسَ بَعدَ ذَلِكَ إلَّا التَّوبَةُ الصَّادِقَةُ النَّصُوحُ.

أيُّها الصَّائِمونَ: التَّوبةُ خُضُوعٌ وانكسَارٌ، وَتَذلُّلٌ واستِغفَارٌ، وافتِقَارٌ واعتِذارٌ، وابتِعادٌ عن دَواعِي المَعصيةِ ونَوازِعِ الشرِّ وَمَجالِسِ الفِتنةِ وسُبُلِ الفَسَادِ.

التَّوبةُ يا صَّائِمونَ: صَفَاءٌ وَنَقَاءٌ، وَخشيَةٌ وَبُكَاءٌ، وَتَضَرُّعٌ وَدُعَاءٌ، وخَوفٌ وَحَيَاءٌ. (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ) [التوبة:74].

التَّوبةُ بَابُها مَفتُوحٌ وخَيرُها مَمنُوحٌ مَا لَمْ تُغرغِرُ الرُّوحَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لو أَخطَأتُم حَتى تَبْلُغَ خَطَايَاكُم السَّمَاءَ ثُمَّ تُبتُم لَتَابَ اللهُ عَليكُم" أخرجه ابن ماجه. وقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "قَالَ اللهُ تَعَالَى: يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ".

أيُّها الصَّائِمونَ: تَأمَّلوا هذا التَّوَدُّدَ العظِيمَ، مِن الودُودِ الرَّءوفِ الحَلِيمِ: "يَقُولُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطِيئَةً لاَ يُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً".

فَيا لَهُ مِن فَضْلٍ عَظِيمٍ، وَعَطَاءٍ جَسِيمٍ مِنْ رَبٍّ كَريمٍ، أَكرَمَنا بِعفْوِهِ، وَغشَّانَا بحِلمِهِ، وَجَلَّلنَا بِسِترِهِ، وَفَتَحَ لَنَا بَابَ تَوبَتِهِ. يَعفُو وَيصفَحُ، وَيَتَلطَّفُ وَيسمَحُ، وَبِتَوبةِ عَبدِهِ يَفْرَحْ: (يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ) [الشورى:25]. "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا".

فَأكثِرُوا -عِبَادَ اللهِ- مِن التَّوبةِ والاستِغفَارِ بألسِنَتِكُم، وقُلُوبِكُم، وَجَوَارِحِكُم. فَقد كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُكثِرُ مِنْها في كُلِّ وَقْتٍ وَحينٍ، يَقُولُ أبو هُريرةَ -رَضِي اللهُ عنه-: "مَا رَأيتُ أَكثرَ استِغْفَارًا مِنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-". وَنَبِيُّنا -صلى الله عليه وسلم- يُحَدِّثُ عن نَفْسِهِ فَيَقُولُ: "وَاللَّهِ إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً".

عبادَ اللهِ: رُكنُ التَّوبةِ الأَعظَمُ وَشَرطُها المُقدَّمُ هُو الإقلاعُ عن المَعصِيَةِ، والعَزْمُ على عَدَمِ العَودَةِ، ولا تَوبَةَ إلاَّ بِفعلِ المَأمُورِ واجتِنَابِ المَحظُورِ والتَّخَلُّصِ مِنْ المَظَالِمِ وإِبرَاءِ الذِّمَّةِ مِن حُقوقِ الآخَرِينَ. وَمَنْ شَاءَ لِنَفسِهِ الخَيرَ فَلْيزَمْ بَابَ التَّوبَةِ وَطَريقَ الإِيمَانِ، وَلْيَتَخَلَّصْ مِنْ كُلِّ غَدْرَةٍ، وَليُقلِع عَنْ كُلِّ فَجْرَةٍ، (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات:11].

فَاتَّقُوا اللهَ -يا صَائِمُونَ- وَتُوبُوا إلى رَبِّكم تَوبَةً نًصُوحَاً فَإنَّ اللهَ تَعَالى يَقُولُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) [التحريم:8].

قَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: "والنُّصحُ فِي التَّوبَةِ يَتَضَمَّنُ ثَلاثَةَ أُمُورٍ: الأَوَّلُ: تَعْمِيمُ جَمِيعِ الذُّنُوبِ بِحيثُ لا يَدَعُ ذَنْبَّاً إلاَّ تَنَاوَلَتْهُ. الثَّانِي: إِجْمَاعُ العَزْمِ والصِّدقِ بِحيثُ لا يَبْقَى تَرَدُّدٌ ولا تَلَوُّمٌ ولا انْتِظَارٌ. الثَّالثُ: تَخلِيصُ التَّوبَةِ مِن الشَّوَائِبِ والعِلَلِ القَادِحَةِ، فِي إِخْلاصِهَا بل تَكُونُ التَّوبَةُ خَوْفَاً وَخَشْيَةً لِلهِ، وَرَغْبَةً فِيمَا لَدَيهِ، وَرَهْبَةً مِمَّا عِندَهُ، لا كَمَنْ يَتُوبُ لِحِفْظِ جَاهِهِ وَمَنْصِبِهِ وَرِيَاسَتِهِ، أو لأَجْلِ حَمْدِ النَّاسِ".

فاللهمَّ كَما وَفَّقتَنا لإدْرَاكِ رَمَضَانَ فَوفَّقنا لِلتَّوبَةِ الصَّادِقَةِ النَّصُوحِ.

أقولُ ما سَمَعْتُمْ، وأستغفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِلمُسلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍّ وَخَطِيئَةٍ، فَاستَغْفِرُوه إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخطبة الثانية:

الحَمدُ للهِ لا تَخفَى عليه خَافِيةٌ، استوَى فِي عِلمِهِ السِّرُّ والعَلانِيةُ، نَشهَدُ ألاَّ إله إلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، بَشَّر المُؤمِن بِأَنْ يَقُول: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ، وَأنَّ الظَّالِمَ يَقُولُ: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ، ونَشهَدُ أنَّ نَبِيَّنا مُحمَّدًا عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ بَعَثَهُ اللهُ رَحمَةً لِلعَالِمِينَ، وَحُجَّةً على الخَلقِ أجمعينَ، اللَّهمّ َصَلِّ وسَلِّم عَليهِ وَعلى آلِهِ وَأَصحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإحسَانٍ وإيمَانٍ إلى يومِ الدِّينِ.

أمَّا بعدُ:

أَيُّها المُسْلِمُونَ: اتَّقوا اللهَ تَعالَى، واشكُرُوه على مَا أَنَعَمَ بِه عَلينا مِن مَوَاسِمِ الخَيرَاتِ، وَمَا حَبَانَا بِهِ مِنْ الكَرَاماتِ، ولْنَعرِفْ قَدْرَ هَذِهِ المَواسِمِ بِعِمَارَتِها بِالطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الآثامِ والمُحَرَّمَاتِ.

ومِمَّا قَالَهُ الشَّيخُ الجَليلُ ابنُ العُثَيمِينِ -رَحِمَهُ اللهُ- في إحدى خُطَبِهِ: عِبَادَ اللهِ: اغتَنِمُوا شَهرَ رَمَضَانَ بِكَثرَةِ العِبَادَةِ والصَّلاةِ والقِرَاءَةِ والإِحسَانِ على الخَلْقِ بِالمَالِ والبَدَنِ والعَفوِ عَنْهُم، واستَكثِرُوا فِيهِ مِنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ اثْنَتَانِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ، واثْنَتَانِ لا غِنَى لَكُم عَنهُما، فَأَمَّا الَّلتَانَ تُرضُونَ بِهِمَا رَبَّكُم، فَشَهَادَةُ ألاَّ إلهَ إلَّا اللهُ والاستِغْفَارُ، وأَمَّا الَّلتَانِ لا غِنَى لَكُم عَنْهُما، فَتَسأَلُونَ اللهَ الجَنَّةَ، وَتَستَعِيذُونَ بِهِ مِن النَّارِ. انتهى.

أيُّها التَّائِبُونَ الأبرَارُ: إنَّ أَبْوابَ الجَنَّةِ قَد فُتِحتْ لَكُم أَلا تُحبُّونَ أنْ يَغفِرَ اللهُ لَكُم؟ فَلِمَا هَذا الجَفَاءُ لِمنْ يُقابِلُكُم بِالإحسَانِ؟ ولِمَا الإِعرَاضُ لِمَنْ يُقابِلُكُمْ بِالغُفْرَانِ؟ فَاترُكْ عَنْكَ الأَمَانِي الكَاذِبَةَ وأَخْلِصْ إلى رَبِّك بِتَوبَةٍ صَادِقَةٍ؛ فَرَمَضَانُ غُرَّةٌ بَينَ الشُّهُورِ! فَوا أسَفَاً عليَّ وَعَلَيكَ إنْ خَرَجَ رَمَضَانُ وَلَمْ يُغَيِّرْ حَالَنا! وَلَمْ تُرْفَعْ تَوبَتُنا: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الذاريات:50].

أيُّها الصَّائِمُ الَّلبِيبُ: إنْ كُنتَ مِمَّن ابتُلِيَ بِأَكْلِ الرِّبَا وأَخْذِ الرَّشَاوِي فَاكْتَفِ بِالحَلالِ عن الحَرامِ.

فَنَقِّ مَالَكَ وَلا تَخْشَ مِنْ ذِي العَرْشِ إِقْلالاً!

إِنْ كُنْتَ مِمَّن ابتُلِيَ بِالخَمْرِ والمُخَدِّرِ فَاعْلَمِ أنَّ عَشَرَةً مَلعُونِينَ فِيها، فَاهْجُرْهَا وَفَارِقْ أهلَها لا كَثَّرَهُمُ اللهُ..

إِنْ كُنتَ مُتَهَاوِناً فِي الصَّلاةِ فَعَاهِدْ رَبَّكَ، وَرَبِّ نَفْسَكَ على المَسَاجِدِ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ.

إن كُنتَ مِمَّن أطْلَقَ لِنَفْسِهِ العَنانَ يَنظُرُ مَا شَاءَ ويَستَمِعُ مَا يَشَاءُ ويُقَلِّبُ مِن الأجْهِزَةِ والقَنَواتِ ما شَاءَ فاتَّقِ اللهَ في أعضَائِكَ فَعنها سَوفَ تُسألُ وَتُحَاسَبُ: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون:115].

حَاشَاكَ أنْ تَكُونَ مِمَّن عَقَّ وَالِدَيْهِ وَهَجَرَ أَقَارِبَهُ! فَرَمَضَانُ فُرصَةٌ لِتَّوَدُّدِ والمَحَبَّةِ والصَّفاءِ.

فَيأيُّها الصَّائِمُونَ: هَذهِ التَّوبَةُ قَد شُرِعَتْ أَبوابُها وَحَلَّ زَمَانُهَا وآنَ أَوَانُها، فَهُبُّوا قَبْلَ فَواتِ الأوانِ، وحَاذِروا غَوَائِلَ الشَّيطَانِ، وَبَصِّروا أَنفُسَكُم بِفَواجِعِ الدُّنيا وَتَقَلُّبِ الَّليَالِ والأَيامِ.

كَمْ كُنتَ تَعرِفُ مِمَّن صَامَ فِي سَلَفٍ *** مِنْ بَينَ أَهْلٍ وَجِيرَانٍ وإِخوَانِ

أَفْنَاهُمُ المَوتُ واستَبْقَاكَ بَعْدَهُمُو *** حَيَّاً فَمَا أَقْرَبَ القَاصِي مِنْ الدَّانِي

أيُّها المُسلِمُ: أَحْدِث لِكُلِّ ذَنْبٍ تَوبَةً وَلَو تَكَرَّرَتِ المَعَاصِي فأنتَ تَتَعامَلُ مَعَ ربٍّ كَريمٍ رَحيمٍ! قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنه: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا، فَقَالَ رَبِّ أَذْنَبْتُ، فَاغْفِرْ لِي فَقَالَ رَبُّهُ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي. ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا، فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ آخَرَ فَاغْفِرْ لِي. فَقَالَ أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي. ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا، قَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي. فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، غَفَرْتُ لِعَبْدِي، غَفَرْتُ لِعَبْدِي فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ". متفق عليه.

اللهُ أكبرُ: ما أكرمَكَ يا اللهُ ما أحلَمكَ على مَنْ عَصَاكَ. فالحمدُ للهِ الذي هَدَانَا لِلإسلامِ، وَجَعَلنا مِنْ خَيرِ الأنامِ!

أيُّها المُؤمِنُ: استَمع بِقلبِكَ إلى هذا الفتحِ المُبينِ من الرِّبِّ الرَّحمَانِ الرَّحيمِ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِذَلِكَ الذَّنْبِ، إِلاَّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ"ثُمَّ تَلَا: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) [آل عمران:135]. وَقَولَهُ: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء:110].

قَدِّم لِنَفْسِكَ تَوبةً مَرْجُوَّةً *** قَبْلَ المَمَاتِ وَقَبْلَ حَبْسِ الأَلسُنِ

بَادِر بِها غَلقَ النُّفُوسِ فَإِنَّهَا *** ذُخْرٌ وغُنْمٌ لِلمُنِيبِ المُحسِنِ

صَعَدَ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- الْمِنْبَرَ فَقَالَ: "آمِينَ، آمِينَ، آمِينَ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَقَالَ: مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَدَخَلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، وَمَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ، أَوْ أَحَدَهُمَا، فَلَمْ يَبَرَّهُمَا، فَمَاتَ، فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، وَمَنْ ذُكِرْتَ عَنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ".

فاللهم ارْزُقنا الإنَابَةَ إليكَ، والتَّوبَةَ مِن مَعَاصِيكَ، اللهمَّ تُبْ على التَّائِبِينَ، واغْفِر ذُنُوبَ المُذنِبِينِ، وارْحَمْ مَنْ جَاءوكَ مُعتَرِفِينَ مُنْكَسِرِينَ يَا أَكْرَمَ الأَكرَمِينَ. اللهمَّ أَلْهِمْنَا رُشْدَنَا وَقِنَا شُرورَ أنفُسَنَا. اللهمَّ إنَّا نَسأَلُكَ بِعزِّك وذُلِّنا إلاَّ رَحْمَتَنا، نَسأَلُكَ بِقُوتِكَ وَضَعْفِنا إلاَّ غَفَرْتَ لنا. اللهم اغفر زلَّاتِنا، وأمِّن روعاتِنا، واستر عوراتِنا، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائِلنا ومن فوقنا، ونعوذ بك اللهم أن نُغتالَ من تحتنا، اللهم تقبَّلنا في التَّائِبينَ، اللهم جازِنا بالإحسانِ إحسانا، وبالإساءة عفوًا وغفرانا.

اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشِّرك والمشركينَ، ودمِّر أعداءَك أعداءَ الدِّينِ.

اللهم وفِّق ولاةَ أمورنا لِمَا تُحبُّ وترضى وأعنهم على البرِّ والتقوى.

اللهم أَعِنْ إخوَانَنَا في سُوريا واليمن والفَلُّوجَةِ ولا تُعِنْ عَلَيهم، وانصُرهم ولا تَنْصُرْ عَلَيهم، وامكُرْ لهم ولا تَمْكُرْ عَلَيهم، وأهدهم ويَسِّر الهُدَى لهم، وانصرهم على من بَغَى عَلَيهم.

اللهم انصُرْ جُنُودَنا واحفظ حُدُودَنا والمُسلِمِينَ أجمَعينَ.

اللَّهُمَّ اهْزِمِ طواغيتَ العصرِ وجُنْدَهم، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ يا ربَّ العالمين.

اغفر لنا ولِوالِدينا والمُسلمينَ أجمعينَ.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). (وَلَذِكرُ اللهِ أَكبَرُ وَاللهُ يَعلمُ مَا تَصْنَعونُ).


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي