ارفعوا رصيدكم في رمضان، وأنفقوا العفو والتسامح.. فربكم يعفو في رمضان ويسامح ويتوب على عباده وله عتقاء من النار وذلك كل ليلة.. فأين عفوكم على بعضكم البعض في البيوت والأسر والأعمال ومع الجيران والإخوان والأصحاب والأرحام.. صفُّوا قلوبكم من الحقد والغل والحسد فهذه أمراض تفتك بصاحبها أولاً، وبها تفسد حياة الأفراد والأسر والمجتمعات؛ فصيام رمضان إيماناً واحتساباً يغفر ما تقدم من الذنوب والمعاصي.. فكيف تنال مغفرة ربك ولم تطهر قلبك من هذه الأمراض..
الحمد لله شهدت بوجوده آياته الباهرة, ودلت على كرم جوده نعمه الباطنة والظاهرة، وسبَّحت بحمده الأفلاك الدائرة، والرياح السائرة، والسحب الماطرة، هو الأول فله الخلق والأمر، والأخر فإليه الرجوع يوم الحشر، هو الظاهر فله الحكم والقهر، هو الباطن فله السر والجهر.
وأشهد أن لا إله إلا الله, وحده لا شريك له, له الملك, وله الحمد, وهو علي كل شيء قدير.. وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبدُ الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين ونحن معهم يا أرحم الراحمين.
أما بعد: عباد الله: إن أفضل ما تعمر به الأوقات وتمضي به الساعات في حياتنا بعد الإيمان برب الأرض والسموات هو العمل الصالح كما قال المولى جل في علاه: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا) [الكهف:107]، فلا قيمة لإيمان بلا عمل، ولا عمل بلا إيمان، ويقول سبحانه: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [سورة العصر].
فأهل الإيمان والعمل الصالح فازوا بالجنة؛ لأنهم أبعد الناس عن الخسارة؛ ولأنهم تاجروا مع من لا يخيب ولا يخسر من اتجر معه وهو المولى سبحانه وتعالى القائل (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر: 29-30]..
وفي شهر الصوم شهر رمضان المبارك يتضاعف الأجر والثواب لجميع الأعمال الصالحة؛ من صيام وصلاة، وصدقة وذكر، وقراءة للقرآن، وقيام الليل، وبر الوالدين وصلة الأرحام، وبذل المعروف وتقديم النفع، والجهاد في سبيل الله، وكف الأذى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الطاعة وحسن المعاملة وحسن الخلق وإفطار الصائمين وإصلاح ذات البين، وغير ذلك من الأعمال، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلّم- قال: "كل عمل ابن آدم له؛ الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي. للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه. ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" (رواه البخاري ومسلم).
فرمضان عبارة عن بورصة تجارية وكل عمل من هذه الأعمال عبارة عن رصيد وسهم في حسابك، ومدة المرابحة هي شهر رمضان 30 يوماً.. وانظروا إلى جنون العالم أفراداً وشركات ومؤسسات وهي تتعامل مع البورصات المالية وبيع الأسهم وإجراء الصفقات وأثر التقلبات المالية والخسارة والربح والظروف والأحوال والكوارث على نفوس كثير من البشر وتعاملاتهم المالية..
هذا وهم يتعاملون بها من أجل دنيا فانية.. فهل فكرت وأنت في بورصة إيمانية لا خسارة فيها إلا من ذات نفسك ولا تتأثر بالأحوال والظروف ولا تنقص فيها قيمة الأسهم بل تزداد وتتضاعف.. هل أنت فيها من الرابحين؟ وهل يرتفع رصيدك؟ وهل تزداد أسهمك؟ وهل أدركت أهمية القيمة التجارية لكل سهم حتى يزداد اهتمامك به فتعمل على إتقانه وإجادته؟ وهل استشعرت نفاد الوقت وإغلاق البورصة أبوابها وقد لا تدرك دورتها الجديدة القادمة؟..
قال داود الطائي: "إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة، حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زادًا لما بين يديك فافعل؛ فإن انقطاع السفر عن قريب هو، والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك، واقض ما أنت قاض من أمرك".
أيها المؤمنون/ عباد الله: أكثروا من الأعمال الصالحة في هذا الشهر المبارك، واستغلوا أوقاته، وقدموا لأنفسكم بين يديه خيراً تجدونه بعد مماتكم ويكون سبباً لسعادتكم في دنياكم وآخرتكم، واحذروا من التسويف والتفريط وأحسنوا العمل..
حافظوا على الصلوات واقرءوا القرآن بتدبر وعمل وقوموا بين يديه سبحانه في ما تبقى من ليالي رمضان وارفعوا الأكف بالدعوات لرب الأرض والسماوات وأطعموا الطعام.. كان حماد بن أبي سليمان -رحمه الله تعالى-: يفَطِّرُ كل ليلة في رمضان خمسين إنسانًا فإذا كان ليلة الفطر كساهم ثوبًا ثوبًا..
وصِلُوا الأرحام وأكثروا من ذكر الملك العلام واسألوا الله القبول.. قال الإمام علي -رضي الله عنه-: " كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل، ألم تسمعوا إلى قول الحق عز وجل: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة: 27]، وكان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان: " يا ليت شعري من هذا المقبول منَّا فنهنيه، ومن هذا المحروم فنعزيه، ثم ينادي: أيها المقبول هنيئاً لك، أيها المردود جبر الله مصيبتك".
وكان أبو الدرداء -رضي الله عنه- يقول: "لو أن أحدكم أراد سفرًا، أليس يتخذ من الزاد ما يصلحه؟ قالوا: بلى.. قال: سفر يوم القيامة أبعد، فخذوا ما يصلحكم: صلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور.. وصوموا يومًا شديد حرُّه لحر يوم النشور.. وحجوا لعظائم الأمور.. وتصدقوا بالسر، ليوم قد عسر"..
ارفعوا رصيدكم وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه قليلاً كان أو كثيرًا.. قال الله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [البقرة: 215]، وبيَّن الله -عز وجل- فضل الإنفاق فقال سبحانه: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 261]..
وعن عبد الله بن مسعود قال: "لما نزلت (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) [الحديد: 11]، قال أبو الدحداح يا رسول الله أو إن الله يريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح، قال: أرني يدك قال فناوله، قال: فإني أقرضت الله حائطًا فيه ستمائة نخلة، ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه وعياله، فناداها يا أم الدحداح، قالت: لبيك. قال: اخرجي، فقد أقرضت ربي -عز وجل- حائطًا فيه ستمائة نخلة"، لم تقل له: لقد ضيعتنا وأفقرتنا كيف سنعيش ماذا تركت لأولادك؟ كلا.. بل قالت:
بشرك الله بخير وفرح *** مثلك أدى ما لديه ونصح
قد متع الله عيالي ومنح *** بالعجوة السوداء والزهو البلح
والعبد يسعى وله ما قد كدح *** طول الليالي وعليه ما اجترح
وتحسسوا الفقراء والأيتام والمساكين والغارمين وأصحاب الديون والمرضى، وابذلوا المعروف لمن عرفتم ومن لا تعرفون، قال تعالى عن موسى عليه السلام وهو في أرض مدين وقد وجدا فتاتين ضعيفتين (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص: 24].
وانظروا إلى الأدب ونحن نقدم المعروف، فإذا أحسنت لأحدهم فابتعد عنه، لا تحرج ضعفه، ولا تلزمه شكرك، واصرف عنه وجهك لئلا ترى حياءه عارياً أمام عينيك: "فسقى لهما ثم تولى" لم يقل سبحانه ثم "ذهب"! بل تولى بكامل ما فيه.. افعل المعروف وتول بكل ما أوتيت حتى ذلك القلب الذي ينبض بداخلك ? تجعله يتمنى الشكر والجزاء يكفيك أن يجازيك الكريم.. ارفع رصيدك قبل نفاذ الأسهم، وتذكر أنها تجارة مع الله الكريم المنان...
عباد الله: أصلحوا ذات بينكم؛ فالشيطان مصفَّد، واحذروا شياطين الإنس، وقوموا بواجباتكم تجاه أنفسكم وأهليكم وأعمالكم، ووظائفكم ومجتمعاتكم وأوطانكم، وكونوا عباد الله إخوانًا.. ارفعوا رصيدكم واحذروا الفرقة والخلاف واعصموا دماءكم وأموالكم وأعراضكم ولا تركنوا إلى أعدائكم..
ارفعوا رصيدكم في رمضان، وأنفقوا العفو والتسامح.. فربكم يعفو في رمضان ويسامح ويتوب على عباده وله عتقاء من النار وذلك كل ليلة.. فأين عفوكم على بعضكم البعض في البيوت والأسر والأعمال ومع الجيران والإخوان والأصحاب والأرحام.. قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) [البقرة:219]..
صفُّوا قلوبكم من الحقد والغل والحسد فهذه أمراض تفتك بصاحبها أولاً، وبها تفسد حياة الأفراد والأسر والمجتمعات؛ فصيام رمضان إيماناً واحتساباً يغفر ما تقدم من الذنوب والمعاصي.. فكيف تنال مغفرة ربك ولم تطهر قلبك من هذه الأمراض.. ولذلك عندما سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: أي الناس أفضل؟ قال: "كل مخموم القلب صدوق اللسان"، قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: "هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد" (صحيح ابن ماجه للألباني: 3416)..
يا لروعة هذه القلوب كيف جعلت من أصحابها أفضل الخلق عند الله وعند رسوله بل وعند الناس جميعاً... لقد كان أعظم هذه القلوب صفاءً وأوسعها رحمة وليناً ورفقاً وحلماً هو قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي قال فيه ربه (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران:159].
فاللهم وفقنا لعبادتك واستعملنا في طاعتك..
قلت قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..
عباد الله: فلنستغل هذا الشهر الكريم بتوبة نصوح وعمل صالح، ولنحذر من التقصير والتفريط فنكون من المحرومين ولنحذر من خسارة العمل الصالح في رمضان وغير رمضان، وأحسنوا العمل، وأحسنوا الظن بربكم، وأكثروا من الدعوات في الصلوات وعند الإفطار وفي صلاة التراويح والقيام، واسألوا الله من فضله والخير لأمتكم وأوطانكم ..
وكونوا ممن وصفهم الله بقوله: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة: 112]..
فاللهم يا سامع الدعوات، ويا مقيل العثرات، ويا غافر الزلات: اعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا وأزواجنا وأولادنا من النار، ولا تردنا عن بابك مطرودين واجعلنا من الرابحين، واغفر ذنوبنا أجمعين..
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56]..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي