لو اختلف اثنان منكم وتنازعا، فقال أحدهما: إن الاحتفال بيوم ولادة النبي -صلى الله عليه وسلم- مباح، بل أمر طيب حسن. وقال الآخر: بل الاحتفال بيوم ولادة النبي -صلى الله عليه وسلم- غير مشروع، وهو بدعة في الدين محرمة. فلا ريب أن المصيب المنصور بأدلة القرآن والسنة النبوية الثابتة، وأقوال وأفعال الصحابة، هو...
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا نعمته، ورضي لنا الإسلام ديناً، ونصب الأدلة على صحته، وبينها لنا وجلَّاها، وأعان من أراد هدايته من خلقه على لزوم وحيه وشرعه، وكفى به هادياً ومعيناً.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، جاء بشريعة واضحة نقية، وحنيفية غراء سوية بهية، ورفع الله ذكره، وجعله أفضل خلقه، وأحب وأثنى على من سار على سنته، واقتفى أثره في القول والعمل، والفعل والترك، ورضي عن آل بيته الميامين، وأصحابه الحاملين لراية السنة علماً وعملاً ودعوةً، وحباً وتعظيماً وانقياداً، وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خيراً.
أما بعد:
فيا أمة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-: لو اختلف اثنان منكم وتنازعا، فقال أحدهما: إن الاحتفال بيوم ولادة النبي -صلى الله عليه وسلم- مباح، بل أمر طيب حسن.
وقال الآخر: بل الاحتفال بيوم ولادة النبي -صلى الله عليه وسلم- غير مشروع، وهو بدعة في الدين محرمة.
فلا ريب أن المصيب المنصور بأدلة القرآن والسنة النبوية الثابتة، وأقوال وأفعال الصحابة، هو الثاني، الذي حرَّم هذا الاحتفال، ولم يحتفل، وحذَّر إخوانه المسلمين من الاحتفال.
وكيف لا يكون مصيباً، وبالحق نطق، وله اتبع، وعليه سار، والله -جل وعلا- قد قال آمراً له ولجميع العباد: (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء) [الأعراف: 3].
والله -سبحانه- قد أنزل علينا وإلينا القرآن والسنة النبوية، وتارك الاحتفال والناهي عنه قد نظر فيهما فلم يجد ذكراً للاحتفال بالمولد، لا أمراً، ولا ترغيباً، فاتَّبَع ما فيهما، ولم يتَّبِع ما قاله وفعله غيرهما، فلم يكن من أهل هذا الاحتفال، ولا أعان عليه، ولا دعا إليه.
وقد قال الفقيه الفاكهاني المالكي -رحمه الله- في رسالته "المورد في عمل المولد"(ص:20): "لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة، ولا يُنقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين المتمسكون بآثار المتقدمين" ا. هـ.
كيف لا يكون مصيباً، وبالحق نطق، وله اتبع، وعليه سار، وهذا الاحتفال لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا أصحابه، ولا من بعدهم من سلف الأمة الصالح الذين هم خير الناس، وأعلمهم بنصوص الشرع، وأشدهم عملاً بها، وأكثرهم متابعة لها، وهو قد تابعهم فلم يحتفل، ولا دعا إلى هذا الاحتفال، ولا أعان عليه؟
وقد قال علامة بلاد اليمن محمد بن علي الشوكاني -رحمه الله- عن الاحتفال بالمولد النبوي في "فتاويه"(2/ 1087): "أجمع المسلمون أنه لم يوجد في عصر خير القرون، ولا الذين يلونهم، ولا الذين يلونهم" ا. هـ.
وصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ".
فهنيئاً لمن اتبع هؤلاء القوم الذين هم خير الناس في ترك الاحتفال بالمولد، ولم يخالفهم فيتَّبِع ويُتابع غيرهم.
كيف لا يكون مصيباً، وبالحق نطق، وله اتبع، وعليه سار، حين لم يتقرب إلى الله -تعالى- بالاحتفال بالمولد؛ لأن الصحابة -رضي الله عنهم- لم يتعبدوا الله ويتقربوا إليه بهذا الاحتفال؟
وقد قال حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-: "كُلُّ عِبَادَةٍ لَمْ يَتَعَبَّدْهَا أَصْحَابُ رَسُولِ الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَا تعبَّدوها، فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَدَعْ لِلْآخِرِ مَقَالًا".
ولا ريب أن متابع أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما فعلوه وتركوه على حق وهدى، وطريق سديد، ومخالفهم على باطل وفي ضلال يسير.
كيف لا يكون مصيباً، وبالحق نطق، وله اتبع، وعليه سار، وهو متشبه بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وباقي سلف الأمة الصالح، وأئمة أهل العلم؛ كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وأهل زمانهم في ترك الاحتفال بالمولد، ومُخَالفه الذي يحتفل بالمولد متشبه بأعداء الله وأعداء دينه ورسوله، وأعداء الصحابة من الشيعة الرافضة العُبيدية الباطنية الفاطمية، فقد نص كثير من المؤرخين على: "أن أول من أحدث الاحتفال بالمولد النبوي هم ملوك الدولة العبيدية الرافضية الباطنية الخارجية"؟
وممن ذكر هذا وأشار إليه؛ مؤرخ مصر تقي الدين المقريزي الشافعي في كتابه: "المواعظ والاعتبار بذكر الخِطَط والآثار"(1/ 490)، وأديب عصر المماليك أبو العباس القلقشندي في كتابه: "صبح الأعشى في صناعة الإنشاء"(3/ 498-499)، وعلي محفوظ الأزهري في كتابه: "الإبداع في مضار الابتداع"(ص:126)، والأستاذ علي فكري في كتابه: "المحاضرات الفكرية"(ص:84)، بل قال الشيخ محمد بخيت المطيعى الحنفي مفتي الديار المصرية -رحمه الله- في كتابه: "أحسن الكلام"(ص:44-45): "مما أُحْدِث وكثر السؤال عنه المولد، فنقول: إن أول من أحدثها بالقاهرة الخلفاء الفاطميون، وأولهم المعز لدين الله، توجه من المغرب إلى مصر في شوال سنة إحدى وستين وثلاث مائة، ودخل القاهرة لسبع خلون من شهر رمضان في تلك السنة، فابتدعوا ستة موالد: المولد النبوي، ومولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ومولد السيدة فاطمة الزهراء، ومولد الحسن، ومولد الحسين، ومولد الخليفة الحاضر، وبقيت هذه الموالد على رُسومها إلى أن أبطلها الأفضل بن أمير الجيوش". ا. هـ.
وهؤلاء العبيدية الباطنية الرافضية الفاطمية الذين أحدثوا الاحتفال بالمولد النبوي وغيره من الموالد في بلاد المسلمين، قد قال الحافظ المؤرخ شمس الدين الذهبي الشافعي -رحمه الله- في كتابه: "سير أعلام النبلاء"(15/ 141) إنهم: "قلبوا الإسلام، وأعلنوا الرفض، وأبطنوا مذهب الإسماعيلية".ا. هـ.
وقال عنهم فقيه المالكية القاضي عياض -رحمه الله- في كتابه: "ترتيب المدارك وتقريب المسالك"(7/ 277): "أجمع علماء القيروان: أن حال بني عُبيد حال المرتدين والزنادقة، بما أظهروه من خلاف الشريعة، فلا يُورَثون بالإجماع، وحال الزنادقة بما أخفوه من التعطيل، فيُقتلون بالزندقة".ا. هـ.
إذن، فالمحتفل بالمولد النبوي وغيره من الموالد مقتد ومتشبه -شاء أم أبى- بالرافضة الباطنية العبيدية الخارجية، فهم أول من أحدثه وفعله، وليس بمقتد ولا متشبه بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا بأصحابه، ولا بأحد من سلف الأمة الصالح.
أفيرضى مسلم سُنِّيٌّ حريص على دينه وآخرته بعد معرفة هذا أن يكون هؤلاء القوم المنحرفون الضالون هم قدوته وسلفه في الاحتفال بالمولد النبوي؟
وإنك -والله- لتعجب أشد العجب وأغربه حين تسمع بعض الناس يقول: "نحن من أتباع الأئمة الأربعة أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد بن حنبل".
وإذا بك تراه في أمر المولد لا يَتَّبِعهم ولا يُتابعهم فيترك الاحتفال به، كما تركوه ولم يفعلوه، بل يُتابع ويقلد أعداءهم من الرافضة العبيدية الخارجية.
كيف لا يكون من لا يحتفل بالمولد ويحذِّر منه وينهى عنه مصيباً، وبالحق نطق، وله اتبع، وعليه سار، والاحتفال بالمولد أمر مُحدث في دين الله، أحدثه العبيديون الرافضة في القرن الرابع الهجري، وقد صحت أمور في شأن الأقوال والأفعال المُحْدثة في الدين:
الأول: أنها شر وبدعة وضلالة، حيث صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في موعظته الوداعية زاجراً أمته ومحذراً: "وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ".
الثاني: أنها مردودة على صاحبها لا يقبلها الله منه إذا فعلها أو قالها، حيث صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ".
ويعني صلى الله عليه وسلم بقوله "أمرِنا" ديننا، وبقوله: "فهو رد" أي: مردود على فاعله غير مقبول منه.
الثالث: أنها في النار، حيث صح عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: "وَإِنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا, أَلَا وَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ, وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ, وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ".
ولا ريب أن ما وصِف في الشرع بأنه شر، وبدعة، وضلالة، وفي النار، ومردود على صاحبه، يدخل في المحرمات الشديدة التحريم.
ومن عجيب أمر بعضهم وغرابته، أنه يقول عن الاحتفال بالمولد: "إنه بدعة حسنة"، مع أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد حكم بأن جميع البدع ضلالات، والضلالات لا حَسن فيها، فصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبه: "وَشَرّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ".
و "كل" من صيغ العموم عند أهل اللغة وغيرهم، فلا توجد بدعة في الدين إلا وهي في حكم الشرع ضلالة.
بارك الله لي ولكم فيما سمعتم، ونفعنا به، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله الذي هدانا لاتبّاع سيد المرسلين، وأيدنا بالهداية إلى دعائم الدين، ويسَّر لنا اقتفاء آثار السَّلف الصالحين، وطهر بواطننا وظواهرنا من الابتداع في الدين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، صلاة دائمة إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أتباع سيد ولد آدم أجمعين -صلى الله عليه وسلم-: إن بعض الناس -أصلحه الله وسدده- لا يغالط إلا نفسه، ولا يضر إلا بدينه وآخرته، حين تسمعه يقول مسوِّغاً لاحتفاله ومن معه بالمولد: "إن معنا على هذا الاحتفال أكثر المسلمين اليوم".
فيقال له: لا ينفعك هذا عند الله، ولا عند عباده المؤمنين؛ لأنك تعلم يقيناً أن الله -عز وجل - ورسوله -صلى الله عليه وسلم- لم يجعلا الكثرة ميزاناً لمعرفة الحق، ولا دليلاً لصحة قولٍ أو فعل، بل الميزان هو: قال الله -تعالى-، وقال رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وفعلَ وترك، وقال الصحابة -رضي الله عنهم- وفعلوا وتركوا.
بل إن الله قد كشف لنا في كتابه حال الأكثرية من الناس، فقال سبحانه: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ) [الأنعام: 116].
وبيَّن رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن أمته ستفترق، وأن أكثر فرقهم على ضلال وانحراف، فصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ".
ويُقال له أيضاً: إن مع من لا يحتفلون بالمولد النبوي وغيره من الموالد الركن الأقوى، والجانب الأعلى، والدليل الأكبر، معهم الله -جل وعلا- إذ لم يأمر به، ولا رغَّب فيه، ولا دعا إليه، ومعهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والصحابة -رضي الله عنهم-، وجميع أهل القرون الثلاثة الأولى، والأئمة الأربعة ومن في أزمنتهم من أئمة الإسلام والسنة، حيث لم يحتفلوا، ولا دعوا الناس للاحتفال، فهنيئاً لمن كان هؤلاء في جانبه، ومعه فيما هو عليه، ولا ريب أنه المحق والمصيب وعلى الصراط السوي.
وقد قال الفقيه التزمنتي الشافعي -رحمه الله- عن الاحتفال بالمولد النبوي؛ كما في "السيرة الشامية"(1/ 442): "هذا الفعل لم يقع في الصدر الأول من السلف الصالح مع تعظيمهم وحبهم له -أي: النبي صلى الله عليه وسلم- إعظاماً ومحبة لا يبلغ جميعنا الواحد منهم".
ولئن كانت في نفوس المحتفلين بالموالد رغبة ونشاط، وتحمس لفعل الطاعات، والمنافسة والمسابقة إلى الحسنات المنجيات، والاجتهاد في العبادات، والإكثار والزيادة في القربات، فلتَدع عنها الاحتفال بيوم المولد لاسيما بعد ما سمعت عنه ما سمعت، وعرفت بدايته ومن أحدثه وحكمه، ولا تخاطر بأنفسها، ولتقل لها: يا نفس كم من العبادات والطاعات التي جاءت في القرآن الكريم، وثبتت في السنة النبوية، وأنت لا تفعلينها، ولا تجتهدين في تحصيلها.
يا نفس هلم إلى فعلها والإكثار منها، والتزود قبل الوفاة، وقبل العرض والجزاء.
يا نفس إن من العيب أن تقصِّري أو تتساهلي أو تضعفي أو تتكاسلي في عبادات من أقوال وأفعال قد ثبتت فيها النصوص الشرعية، وتنوعت وتعددت، وجاء الوعيد على تركها، وعظم الأجر في فعلها، وأنت لا تقومين بها، ولا تتحمسين لها.
ومن كان يحب الله -تعالى- فقد أرشده سبحانه لطريق وشاهد محبته وامتحنه، فقال سبحانه: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [آل عمران: 31].
وقد اتبعناه صلى الله عليه وسلم فلم نحتفل بالمولد؛ لأنه لم يحتفل به، ونرجو أن ننال بذلك محبة الله ومغفرته، وأن نكون ممن أحبه.
فاللهم اجعلنا ممن تحبهم ويحبونك، وممن غفرت لهم، وممن اتبعوا رسولك إليهم، ووفقنا لمعرفة الحق واتباعه، ومعرفة الباطل واجتنابه، واهدنا الصراط المستقيم، وتجاوز عن تقصيرنا وسيئاتنا، واغفر لوالدينا وسائر أهلينا، وبارك لنا في أعمارنا وأعمالنا وأقواتنا وأوقاتنا.
اللهم اكشف عن المسلمين ما نزل بهم من ضر وبلاء، وفقر ونزوح عن بلادهم، وضعف وتقصير، وقتل واقتتال، ووسع عليهم في الأمن والرزق والعافية، وجنبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن.
وصل اللهم وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد.
وقوموا إلى صلاتكم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي