إن شرح الصدر من أعظم أسباب الهدى، وضيق الصدر من أعظم أسباب الضلال، وشرح الصدر للإيمان والهدى من أجلّ النعم، كما أن ضيق الصدر من أعظم النِّقَم، وكلما دخل نور العلم والإيمان والهدى في القلب انفسح وانشرح، والمؤمن منشرح الصدر في هذه الدار مع ما يناله من مكروه وأذى، وإذا قوي الإيمان كان على مكاره الحياة أشرح صدرًا منه على شهواتها...
الحمد لله الرحيم الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، له مقاليد السموات والأرض، سبحانه كل يوم هو في شأن، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله سيد ولد آدم أجمع، وخير من صلى وركع، وأبلغ من دعا إلى الله فأسمع، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الأتقياء البررة، ورضي عنهم وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -سبحانه-، والتوكل عليه، والاستغاثة به، والاعتماد عليه، والتذلل بين يديه، فبذلك تكون الرفعة، وتحصل المنَّة، وتنال الدرجة، وتكون العاقبة المحمودة في الأولى والآخرة.
عباد الله: القلب سيد أعضاء ابن آدم وأشرفها، وهو محل نظر الله واطلاعه، وعلى ما في القلب من إيمان وكفر، وطاعة ومعصية، ومحبة وكراهية، وبغض وحب، تكون العاقبة ويكون الجزاء من الله -سبحانه- المطلع على القلوب الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ، وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ" وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ إِلَى صَدْرِهِ". [مسلم (2564)]، فالقلوب هي أهم الأعضاء وأخطرها.
ولا شك أن القلوب كالأجساد تمرض وتصح، وتسلم وتضعف، وتحيى وتموت، والقلب قد يصدأ كما يصدأ الحديد، بسبب الغفلة والإعراض عن الله -سبحانه-، وعلاجه كثرة ذكر الله -عز وجل-، وإن القلب ليُصَاب بأمراض تحجزه عن طاعة الله ورسوله وحب الخير للمسلمين، وعلاج هذه الأمراض لا يكون إلا بالالتزام بكتاب ربنا وسنة نبينا، والسير على منهج الأئمة من الصحابة والتابعين، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس: 57].
إن الواحد إذا أُصيب -عافنا الله وإياكم- بمرض في قلبه بَحَث عن أعلم أهل الطب بطب القلوب، ولكن ثَم للقلوب مرض آخر هو الذي يسبب النكسات والابتلاءات في الدنيا والآخرة، وقليل من العباد من ينتبه له ويتفطن، للقلوب أمراض غير تلك المعهودة التي تبادرون بعلاجها عند أطباء القلوب الحذّاق، وقليل منا من ينتبه لقلبه ويصلحه، ولا يخفى عليكم أن الذي ينفع يوم القيامة هو القلب السليم.
عباد الله: إن الإعراض عن الله تعالى، وتعلّق القلب بغيره، والغفلة عن ذكره، ومحبة سواه، أمراض للقلب تسبب له ضيقًا وهمًّا، فإن من أحب غير الله عُذّب به، وسُجن قلبه في محبة ذلك الغير، فما في الأرض أشقى منه. ولا بد للقلب مما يحفظ عليه قُوته، وهو الإيمان والعمل الصالح والطاعات، والوقاية عن المضار، واجتناب جميع المعاصي وأنواع المخالفات، والامتناع من كلّ الذنوب وآثارها، وذلك بالتوبة والاستغفار.
وأنفع علاج لأمراض القلوب تدبر كلام الله القرآن الكريم، وتأمل الكون المنظور للوقوف على عظمة ربنا الغفور، فإن التأمل في الكتابين المقروء والمنظور فيه شفاء لما في الصدور من الشك، ويزيل ما فيها من الشرك ودنس الكفر وأمراض الشبهات والشهوات، وهو هدى لمن علم بالحقّ وعمل به ورحمة لما يحصل به للمؤمنين من الثواب العاجل والآجل: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 122].
عباد الله: والقلوب قد وصف الله -عز وجل- علاجها في كتابه وكذا والنبي -عليه الصلاة والسلام- في سنته، قال الله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) [الإسراء: 82]، فالقرآن كلام الله -عز وجل- شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادّة عن الانقياد للشرع، وأمراض الشبهات القادحة في العلم اليقيني، وإذا شُفي العبد من أمراض الشهوات، وأمراض الشبهات، زال سقمه، وعندها يقدم مراد الله على مراد النفس، ويصير ما يرضي الله أحب إلى العبد من شهوة نفسه، ويصل القلب إلى أعلى درجات اليقين.
وإذا صح القلب من مرضه، ورفل بأثواب العافية، تبعته الجوارح كلها، فإنها تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده، عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا وَإنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ" [البخاري (52) ومسلم(1599)].
إن القرآن العظيم نور للقلوب والبصائر، يحث العباد على الإيمان بالله والتوبة من الذنوب، ويزجر عن مساوئ الأخلاق، وأقبح الأعمال، ويأمر بالعدل وعدم الإسراف، واجتناب الخبائث والمضرات، ويحصل للمؤمنين بالقرآن كل هدًى، وأصل الهدى هو العلم بالحق والعمل به، وكل رحمة والتي هي ما يحصل من الخير والإحسان، والثواب العاجل والآجل لمن اهتدى به، وإذا حصل الهدى للعبد، وحلّت الرحمة الناشئة عنه، حصلت السعادة والفلاح، والربح والنجاح، والفرح والسرور، ولذلك أمر الله -عز وجل- بالفرح بذلك، فقال -جل وعلا-: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58].
عباد الله: القرآن مشتمل على الشفاء والرحمة، إلا أنه ليس ذلك لكل أحد، وإنما ذلك للمؤمنين به، المصدقين بآياته، وأما الظالمون بعدم التصديق به، أو عدم العمل به، فلا يزيدهم إلا خسارًا؛ إذ به تقوم عليهم الحجة، والشفاء الذي تضمنه القرآن، عام لشفاء القلوب من الشُّبَه والجهالات، والآراء الفاسدة والانحرافات ونحوها، فهو مشتمل على العلم اليقيني الذي تزول به كل شبهة وجهالة، ومشتمل على الوعظ والتذكير الذي تزول به كل شهوة تخالف أمر الله، ومشتمل على شفاء الأبدان من أسقامها وآلامها.
إن القرآن العظيم أنزله من تكلم به، وجعله شفاء لما في الصدور، وهدًى ورحمة للمؤمنين، وأما شفاؤه لمرض الشهوات، فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب، والتزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة، والأمثال والقصص التي فيها أنواع العِبَر والاستبصار، فيرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك فيما ينفعه في معاشه ومعاده، ويرغب عما يضره، فيصير القلب محبًّا للرشد، مبغضًا للغي.
فالقرآن مزيل للأمراض الموجهة للإرادات الفاسدة، فيصلح القلب، وتصلح إرادته، ويعود إلى فطرته التي فُطر عليها، فتصلح أفعاله الاختيارية الكسبية، كما يعود البدن بصحته وصلاحه إلى الحال الطبيعي، فيصير بحيث لا يقبل إلا الحق، كما أن الطفل ليس بقابل إلا اللبن، فيتغذى القلب من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويقويه، ويؤيده ويفرحه، ويسرّه وينشّطه، ويثبت ملكه، كما يتغذى البدن بما ينمّيه ويقوّيه.
عباد الله: ولما كان القلب محلاً للإيمان والتوحيد، والعلم والمعرفة، والمحبة والسكينة، والصدق والإخلاص ونحوها، وكانت هذه الأشياء إنما تدخل في القلب إذا اتسع لها، فإذا أراد الله هداية عبدٍ، وسَّع صدره وشرَحه، فدخلت فيه وسكنته، وإذا أراد ضلاله -عدلاً منه واستحقاقًا لعبده-، ضيَّق صدره وأحرجه، فلم يجد محلاً يدخل فيه، فيعدل عنه إلى غيره ولا يساكنه، وكل شيء فارغ إذا دخل فيه الشيء ضاق به، وكلما أفرغت فيه أكثر ضاق، إلا القلب اللين السليم، فكلما أفرغ فيه الإيمان والعلم، اتسع وانفسح وانشرح، وهذا من آيات قدرة الرب -عز وجل-.
إن شرح الصدر من أعظم أسباب الهدى، وضيق الصدر من أعظم أسباب الضلال، وشرح الصدر للإيمان والهدى من أجلّ النعم، كما أن ضيق الصدر من أعظم النِّقَم، وكلما دخل نور العلم والإيمان والهدى في القلب انفسح وانشرح، والمؤمن منشرح الصدر في هذه الدار مع ما يناله من مكروه وأذى، وإذا قوي الإيمان كان على مكاره الحياة أشرح صدرًا منه على شهواتها ومحابها، فإذا فارقها كان انفساح روحه، والشرح الحاصل له بفراقها أعظم بكثير، كحال من خرج من سجن ضيّق إلى فضاء واسع موافق له، فالدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر.
فإذا بعث الله المؤمن يوم القيامة، رأى من انشراح صدره وسعته ما لا نسبة لما قبله إليه، فانشراح الصدر كما أنه سبب الهداية، فهو أصل كل نعمة، وأساس كل خير، وقد طلب موسى من ربه أن يشرح له صدره؛ لما علم أنه لا يتمكن من تبليغ رسالة الله إلا بشرح صدره (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي) [طه: 25 - 28].
وشرح الصدور نور يقذفه الله في القلب، فإذا دخله ذلك النور اتسع بحسب قوة النور وضعفه، وإذا فقد ذلك النور أظلم وضاق، (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور: 40]، وهو هبة من الله تعالى، والأمر كله لله، والخير كله بيديه، وليس مع العبد من نفسه شيء، بل الله واهب الأسباب ومسبباتها، يمنحها من يشاء، ويمنعها من يشاء، وهو أعلم حيث يجعل رسالته.
إن أهل الهدى والإيمان يشرح الله لهم صدرهم فيتسع وينفسح، وأهل الضلال لهم ضيق الصدر والحرج، قال -سبحانه- مبينًا الفرق بين الطائفتين: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام: 125]، فقلب الكافر لا يصل إليه شيء من الخير، فيجعل الله صدره ضيقًا حرجًا؛ إذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه، وإذا ذُكر غير ذلك من عبادة الأصنام واللهو ارتاح إلى ذلك: (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [الزمر: 45].
وإذا أراد الله بعبده خيرًا، وفَّقَه لاستفراغ وسعه، وبذل جهده، فيما يحبه الله ويرضاه، وفي الرغبة إليه، وفي الرهبة منه، وبقدر قيام الرغبة والرهبة في القلب يحصل التوفيق للعبد، والرغبة في الطاعات، والحذر من المعاصي، والرغبة والرهبة بيد الله لا بيد العبد، وهما مجرد فضل الله ومنّته، يجعلهما الله في المحل الذي يصلح لهما، ويليق بهما، ويحبسهما عما لا يصلح لهما، ولا يليق بهما، فإن قيل فما ذنب من لا يصلح؟.
قيل: أكبر ذنوبه أنه لا يصلح؛ لأن صلاحيته بما اختاره لنفسه، وآثره وأحبه من الضلال والغي على بصيرة من أمره، فآثر هواه على حق ربه ومرضاته، واستحب العمى على الهدى، وكان كفر المنعم عليه بصنوف النعم، وجحد إلهيته، والشرك به، والسعي في مساخطه، أحب إليه من شكره وتوحيده، والسعي في مرضاته، فهذا من عدم صلاحيته لتوفيق خالقه ومالكه، وأي ذنب وإعراض فوق هذا؟!.
فإذا أمسك الحكَم العدل توفيقه عمن هذا شأنه، كان قد عدل فيه، وانسدت عليه أبواب الهداية، وطرق الرشاد، فأظلم قلبه، فضاق عن دخول الإسلام والإيمان فيه، فلو جاءته كل آية لم تزده إلا ضلالاً وكفرًا وعنادًا كما قال -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) [يونس: 96، 97]. وقال -سبحانه-: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا) [الكهف: 57].
ومن شرح الله صدره للإسلام والإيمان، وأنار قلبه بالتوحيد، وعرف عظمة ربه، وجميل إحسانه وإنعامه، صار لقلبه عبودية أخرى، ومعرفة خاصة، وعلم أنه عبدٌ من كل وجه، وبكل اعتبار، وعلم أن الله تعالى رب كل شيء ومليكه، والأمر كله بيده، والحمد كله له، وأَزِمَّة الأمور كلها بيده، ومرجعها كلها إليه.
نسأل الله -سبحانه- أن يصلح لنا قلوبنا، ويهدي لنا نفوسنا، ويصلح لنا أحوالنا، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الحمد لله الذي بدأ الخلق ثم يعيده وهو على كل شيء قدير، الحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه فيجازيهم بعملهم والله بما يعملون بصير، فسبحانه من رب عظيم وإله غفور رحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الخلق والملك والتدبير، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
أيها الناس: اتقوا الله ربكم حق تقاته، وعظّموه حق تعظيمه، ونقوا قلوبكم من الشبهات والشهوات، واحرصوا على سلامة الصدر وصفاء القلب.
واعلموا أن من أعظم أسباب شرح الصدر: توحيد الله -سبحانه- ومعرفته، وعلى حسب كماله وقوته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الزمر: 22]، فالتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر، كما أن الشرك من أعظم أسباب ضيق الصدر.
وكذلك العلم يشرح الصدر ويوسعه حتى يكون أوسع من الدنيا، والجهل يورثه الضيق والحصر، فكلما اتسع علم العبد بالله وأسمائه وصفاته ودينه وشرعه انشرح صدره واتسع، ومنها الإنابة إلى الله -سبحانه-، ومحبته بكل القلب، والإقبال عليه، والتلذذ بعبادته، فلا شيء أشرح لصدر العبد من ذلك، وكلما كانت المحبة لله أقوى وأشد، كان الصدر أفسح وأشرح.
والإحسان إلى الخلق ونفعهم بما يستطيعه العبد من المال أو الجاه يجعل العبد يشعر بالراحة والطمأنينة وسعادة القلب، فالكريم المحسن أشرح الناس صدرًا، وأطيبهم نفسًا، والبخيل أضيق الناس صدرًا، وأعظمهم همًّا، وأنكدهم عيشًا، ومنها دوام ذكر الله على كل حال، وفي كل موطن، ومنها الشجاعة، فإن الشجعان أشرح الناس صدرًا، وأوسعهم صدرًا، والجبان أضيق الناس صدرًا لا فرحة له ولا سرور.
عباد الله: إن حال القلب في الصدر كحال العبد في القبر؛ نعيمًا وعذابًا، وسجنًا وانطلاقًا، ومنها ترك فضول النظر والكلام، والسماع والمخالطة، والأكل والنوم، فإن هذه الفضول إذا لم تُترك، تستحيل آلامًا وغمومًا وهمومًا في القلب، تحصره وتحبسه ويتعذب بها، فما أضيق صدر من ضرب في كل آفة من هذه الآفات بسهم! وما أنكد عيشه! وما أسوأ حاله! وما أشد حصر قلبه! نسأل الله السلامة والعافية.
وفي المقابل: ما أنعم عيش من ضرب في كل خصلة من الخصال المحمودة بسهم! وكانت همته دائرة عليها حائمة حولها، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ -عز وجل-؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٍ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دِينًا، أَوْ تُطْرَدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلِأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، شَهْرًا، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلَأَ اللَّهُ -عز وجل- قَلْبَهُ أَمْنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى أَثْبَتَهَا لَهُ أَثْبَتَ اللَّهُ -عز وجل- قَدَمَهُ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الْأَقْدَامُ" [المعجم الأوسط (6026)].
فلهذا نصيب وافر من قوله -سبحانه-: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) [الانفطار: 13]، وللأول منهما نصيب وافر من قوله -سبحانه-: (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) [الانفطار: 14]، وبينهما مراتب متفاوتة لا يحصيها إلا الله -تبارك وتعالى-.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- أكمل الخلق في كل صفة يحصل بها انشراح الصدر، وأكمل الخلق متابعة له أكملهم انشراحًا، وعلى حسب متابعته ينال العبد من انشراح صدره، وقرة عينه ما نال: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الزمر: 22].
عباد الله: ومما يتسلط على العبد ويضعفه، النفس والشيطان، وإن التخلص من شرور النفس يكون بمحاسبتها ومخالفتها، محاسبتها قبل العمل، ومحاسبتها بعد العمل، والشيطان عدو الإنسان والنجاة منه تكون في الالتزام بما شرع الله من الاستعاذة والتوكل والأذكار، وقد جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بين الاستعاذة من شر النفس وشر الشيطان، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِكَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ إِذَا أَصْبَحْتُ، وَإِذَا أَمْسَيْتُ، قَالَ: "قُلْ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ -قَالَ- قُلْهَا إِذَا أَصْبَحْتَ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ، وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ" [الترمذي (5067) وصححه الألباني]، والاستعاذة والتوكل والإخلاص يمنع سلطان الشيطان على العبد.
عباد الله: وكل من القلب والبدن محتاج إلى أن يتربى؛ فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح، فكما أن البدن محتاج إلى أن يزكو بالأغذية المصلحة له والاحتماء عما يضره، فلا ينمو إلا بإعطائه ما ينفعه، ومنع ما يضرّه، فكذلك القلب لا يزكو ولا ينمو، ولا يتم صلاحه إلا بذلك، ولا سبيل له إلى الوصول إلى ذلك إلا من القرآن، وإن وصل إلى شيء منه من غيره فهو نزر يسير لا يحصل به تمام المقصود، وكذلك الزرع لا يتم إلا بهذين الأمرين، فحينئذ يقال: زكا الزرع وكمل، ولما كانت حياته ونعيمه لا تتم إلا بزكاته وطهارته لم يكن بدّ من ذكر هذا وهذا.
إن صلاح القلب وسعادته وفلاحه في عبادة الله وحده، والاستعانة به وحده، قال تعالى: (فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) [الشعراء: 213]، وهلاك القلب وشقاؤه، وضرره العاجل والآجل، في عبادة المخلوق والاستعانة به. والوحي للأرواح والقلوب بمنزلة الأرواح للأجساد، فكما أن الجسد بلا روح لا يحيا ولا يعيش، فكذلك الروح والقلب بدون روح الوحي لا يصلح ولا يفلح (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ) [غافر: 14، 15].
إن من لم يكن في قلبه نور الإيمان، يرى العزة بالأموال والأشياء، لا بالإيمان والأعمال، وبذلك يحرم من الأعمال الصالحة، ويتعلق قلبه بالفانية، وكلما ضعف الإيمان نقص الدين، وإذا كانت القلوب متوجهة إلى الله, والأجساد مزينة بالسنن، فُتحت للإنسان أبواب الهداية والسعادة في الدنيا والآخرة (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 71].
وإذا أحب الله عبدًا، هداه إليه، وأدخله بيته، وأشغله فيما يحب، واستعمل قلبه وجوارحه فيما يحب: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) [الشورى: 13].
فجددوا -أيها الإخوة- إيمانكم، واحذروا أمراض القلوب والأبدان، واحتموا بطاعة الرحمن، وعودوا لربكم، ولا تغرنكم الحياة الدنيا.
نسأل الله كمال الإيمان به، وجميل التوكل عليه، وحسن الظن فيه، ونسأله أن يصلح لنا قلوبنا.
اللهم املأ قلوبنا ثقة بك، وتوكلاً عليك، ومحبة لك، اللهم إنا نسألك إيمانًا صادقًا، ولسانًا ذاكرًا، وقلبًا خاشعًا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي