فقه الاستخلاف

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. بداية الوجود الإنساني على الأرض .
  2. الخلافة التي كلف الله بها آدم وبنيه .
  3. أحوال المستخلفين في الأرض .
  4. حقيقة الاستخلاف في الأرض .
  5. الابتلاء قبل الاستخلاف سنة ربانية .
  6. أسباب تأخر الاستخلاف والتمكين .
  7. الحكم والخلافة أعباء ومسئوليات .
  8. طرق اختيار الحاكم .
  9. التحذير من طلب الإمارة أو الحرص عليها. .

اقتباس

إن الاستخلاف في الأرض -في بعض صوره- قدرة على العمارة والإصلاح لا على الهدم والإفساد, وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة لا على الظلم والقهر, وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان, هذا هو الاستخلاف الذي وعده الله أن يمنحه الذين آمنوا وعملوا الصالحات...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي بفضله اهتدى المهتدون، وبعدله ضل الضالون، لا يُسأل عن ما يفعل وهم يسألون، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون. أحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً أنزهه بها عن ما يقول المبطلون، وأعظمه بها عن ما يقول المشركون.

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واهتدى بهداه.

أما بعد:

أيها الناس اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.

عباد الله: لقد قدر الله -عز وجل- بمشيئته أن يكون الإنسان مستخلفًا في الأرض وقدمه في ذلك على الملائكة، فكانت تلك بداية التقدير له، بوضعه محورًا لما سيجري على الأرض من أحداث جسام، كان على رأسها اصطفاء الرسل الذين سيكونون حلقة الوصل بين الله المستخلِف، والإنسان: المستخلَف.

إن استخلاف الإنسان يشكّل بداية الوجود الإنساني على الأرض، الذي أعلن عنه الله -جل جلاله- أمام ملائكته: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة: 29]، وبموجب هذا الاستخلاف زوّد الإنسان بما يكفل له القيام بهذه المهمة، وفي مقدمة ذلك العلم الذي لم يمنح لمخلوقات غيره كالملائكة: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمُ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) [البقرة: 30-32].

أيها الإخوة:  لما خلق -سبحانه- آدم -عليه السلام- أخبر الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة، فأهبط الله آدم إلى الأرض، وكلفه خلافة الأرض، وليس معنى الخلافة الملك بأن يطيعه البشر فقط، بل المقصود أنه خليفة في تنفيذ أوامر الله، وتطيعه المخلوقات إذا أطاع الله، فأمره الله -عز وجل- أن يطيع الله، ويقيم أوامر الله في الأرض.

فالجوع والعطش -مثلاً- من أمر الله، ولهما أوامر من الله، فلا نأكل ونشرب بغية اللذة، ولا لإزالة الجوع والعطش، فهذه خلافة حيوانية، والحيوان يفعلها، قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) [محمد: 12]، أما نحن فيجب أن نأكل ونشرب لأن الله أمر بالأكل والشرب لنحفظ حياتنا، وننفذ مراد الله وهدي نبيه في الأكل والشرب، هذه هي الخلافة.

وكذلك اللباس، نلبس لأن الله أمر بذلك، وننفذ أوامر الله في اللباس، هذه هي الخلافة، وكذلك النوم والكسب، نقوم بذلك لأن الله أمر بذلك، وننفذ أوامر الله عند النوم والكسب، لا لأن النوم يأتي بالراحة، والكسب يأتي بالمال، بل الراحة والأموال والأرزاق تأتي من الله وحده، ولأن الله نظم حياتنا هكذا.

وهكذا في باقي أحكام الدين، وسائر أحوال الإنسان، لكل حالة أمر وحكم أمر الله بامتثاله؛ فالخلافة التي كلف الله بها آدم وبنيه هي امتثال أوامر الله في جميع الأحوال على طريقة أنبيائه -صلى الله وسلم عليهم- في العبادات والمعاملات والمعاشرات والأخلاق.

والله -عز وجل- يريد منا أن نشتغل بأوامره كما فعل الأنبياء والرسل، والشيطان يريد أن يصرف الناس عن ذلك فيشغلهم بشهواتهم وأهوائهم, وقد فعل وأطاعه أكثرهم كما قال -سبحانه-: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [سبأ: 20]، فمن استقام على الدين، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ودعا إلى الله فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه. والانحراف الحاصل عن شريعة الله إنما هو انحراف عن الحق الذي قامت عليه وبه السموات والأرض، وهو أمر عظيم وشر كبير.

عباد الله: إن الله -تبارك وتعالى- عندما استخلف آدم وبنيه على أرضه، علم ربنا -جل في علاه- أنهم لن يكونوا  كلهم على الصراط المستقيم، بل منهم الصالحون ومنهم الطالحون، قال -جل وعلا-: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 38- 39]، ولذلك انقسم الناس على مر الأزمان والعصور إلى مؤمنين وكافرين، طائعين وعاصين، مصلحين ومفسدين، ولا يزالون مختلفين.

والناس في هذه الحياة أربعة أقسام:

الأول: الذين يريدون العلو على الناس، والفساد في الأرض، وهؤلاء الرؤساء والملوك المفسدون في الأرض كفرعون وحزبه، وهؤلاء شرار الخلق كما قال -سبحانه-: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [القصص: 4].

الثاني: الذين يريدون الفساد في الأرض بلا علو كالسُّرّاق والمجرمين من سفلة الناس (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [المائدة: 33].

الثالث: الذين يريدون العلو بلا فساد كالذين عندهم دين أو مال أو جاه يريدون أن يعلو به على الناس. وقد روى كعب بن مالك، عن أبيه، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من طلب العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار" [الترمذي (2654) وحسنه الألباني].

الرابع: الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، وهؤلاء هم خيار الخلق، وهم أهل الجنة، أعلى الله منزلتهم كما أعلوا أوامر الله ودينه في حياتهم، وأذل غيرهم ممن يريدون العلو والفساد كما قال -سبحانه-: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص: 83]. نسأل الله تبارك وتعالى أن يشملنا بعفوه وأن يدخلنا برحمته في عباده الصالحين.

أيها الإخوة: إن حقيقة الاستخلاف في الأرض ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم، بل هي هذا كله على شرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء، وتحقيق المنهج الذي أنزل الله للبشرية كي تسير عليه، وتصل من خلاله إلى مستوى الكمال المقدر لها في الأرض، وترضي الله بالاستقامة عليه، (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج: 41].

والاستخلاف في الأرض -في بعض صوره- قدرة على العمارة والإصلاح لا على الهدم والإفساد, وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة لا على الظلم والقهر, وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان, هذا هو الاستخلاف الذي وعده الله أن يمنحه الذين آمنوا وعملوا الصالحات؛ ليحققوا مراد الله من عباده وفي عباده.

أما الذين يملكون فيفسدون في الأرض، وينشرون فيها البغي والجور والفجور، وينحدرون بها إلى مدارج الحيوان، فهؤلاء ليسوا مستخلفين في الأرض، إنما هم مبتلون بما هم فيه، أو مبتلى بهم غيرهم، ممن يسلَّطون عليهم لحكمة يقدرها الله، كمن قال الله فيهم: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) [البقرة: 205، 206].

أيها الإخوة: إن قضية التلقي والاتباع في شعائر الدين وشرائعه، وفي أمور الحياة كلها بأحوالها وأوضاعها، لذلك كله جهة واحدة فقط، إنها جهة الرسل المبلغين عن ربهم المستخلفين على شرائعه، وعلى أساس الاستجابة للرسل أو عدمها يكون الحساب والجزاء بالجنة أو النار كما قال -سبحانه-: (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأعراف: 35].

هذا هو عهد الله وميثاقه لآدم وبنيه، وهذا هو شرطه في الخلافة عنه في أرضه التي خلقها وقدر فيها أقواتها، واستخلف فيها هذا الجنس من الخلق، ومكنه فيها ليؤدي دوره وفق هذا الشرط وذلك العهد، وإلا فإن عمله رد في الدنيا لا يقبله الله، وفي الآخرة وزرٌ وجزاؤه جهنم.

إن الملك والخلق والأمر في هذا الكون لله وحده لا شريك له، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة لمن يتقون الله، ولا يخشون أحداً سواه كما قال موسى لقومه: (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف: 128]، إنه ليس لأصحاب الدعوة إلى الله إلا ملاذ واحد وولي واحد، وهو الله الذي بيده ملكوت السموات والأرض، فعليهم أن يصبروا ويتقوا حتى يأذن الولي بالنصرة، في الوقت الذي يقدره بحكمته وعدله، وعليهم ألا يعجلوا، فهم لا يطلعون الغيب، ولا يعلمون الخير.

إن الأرض كلها لله، وما فرعون وقومه وغيرهم إلا نزلاء فيها، والله يورثها من يشاء من عباده، وفق سنته وحكمته، كما قال الله -سبحانه-: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) [الأعراف: 26]، فلا يظن المؤمن أن الطاغوت مكين في الأرض غير مزحزح عنها، فصاحب الأرض ومالكها هو الذي يقرر متى يطردهم عنها، والعاقبة لا ريب للمتقين، طال الزمن أم قصر، فلا يخالج قلوب الداعين إلى رب العالمين قلق على المصير، ولا يخايل لهم تقلب الذين كفروا في البلاد فيحسبون أنهم باقون: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) [آل عمران: 196، 197].

أيها الإخوة: لا بدَّ من الابتلاء والاختبار قبل الاستخلاف في الأرض، وهو ضروري لكل من يحملون دعوة الله، ويؤهلون لأمانة الخلافة في الأرض، (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) [القصص: 5- 6]، وقد كان اختبار الإرادة والاستعلاء على الإغراء هو أول اختبار وُجِّه من قَبْل إلى آدم وزوجه فلم يصمدا له، واستمعا لإغراء الشيطان لهما بشجرة الخلد وملك لا يبلى، ثم تابا وتاب الله عليهما.

ثم ظل هو الاختبار الذي لا بدَّ أن يجتازه كل مسلم، وتجتازه كل جماعة قبل أن يأذن الله لها بأمانة الاستخلاف في الأرض؛ فقد ابتلى الله -عز وجل- جند طالوت بعدم الشرب من النهر لتقوى إرادتهم على المغريات والأطماع والشهوات فتصمد للعدو، (قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) [البقرة: 249].

وابتلى -سبحانه- أهل التوبة من بني إسرائيل بظهور الحيتان يوم السبت الذي هو راحة لهم ليتفرغوا للعبادة، ولا يشتغلوا بشيء من شؤون المعاش، فجاءتهم الحيتان يوم السبت قريبة المأخذ، سهلة الصيد، فغلبت شهواتهم إرادتهم فاحتالوا عليها، وحبسوها يوم السبت، وأخذوها يوم الأحد، فجعلهم الله قردة خاسئين كما قال -سبحانه-: (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) [الأعراف: 166].

إن الاستخلاف في الأرض والتمكين للدين ثمرة للإيمان والعمل الصالح ولن تنضج الثمرة إلا إذا كان غرسها قد استغلظ، واستوى على سوقه، وكان أصله ثابتاً وفرعه في السماء. ولقد صدق الإمام الشافعي عندما سُئِلَ أيهما خير للعبد التمكين أم الابتلاء؟ فقال -رحمه اللَّه-: "لا يكون التمكين إلا بعد الابتلاء!".

وقد وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن يستخلفهم في الأرض ويمكن لهم فيها، ويبدلهم من بعد خوفهم أمناً، ووعد الله حق، ووعد الله واقع، ولن يخلف الله وعده، وقد قال -سبحانه- وفعل فمكن للمؤمنين في الأرض في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعهد أصحابه -رضي الله عنهم-، وعهد من اقتفى أثرهم كما قال -سبحانه-: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) [النور: 55].

وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب كما يكون بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها وفق منهج الله، وقد تحقق وعد الله -عز وجل- للمؤمنين، فأظهر الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- على جزيرة العرب، فآمنوا بعد الخوف، ووضعوا السلاح، ثم قبض الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- فكانوا كذلك آمنين في عهد الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم-. وقد ورد من حديث خباب بن الأرت -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" [البخاري(3612)].

إنما يبطئ النصر والاستخلاف والتمكين والأمن لتخلف شرط الله في جانب من جوانبه الفسيحة، أو في تكليف من تكاليفه الضخمة، فمن أراد الوصول إلى حقيقة وعد الله بالاستخلاف فعليه بالاستقامة على أوامر الله، وإذا استقام فما عليه من قوة الكافرين، فما هم بمعجزين في الأرض: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [النور: 56، 57].

أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن ينصر من نصر دينه، وأن يمكن لدينه وكتابه وسنة نبيه وعباده الصالحين, أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أيها الإخوة: ولا بدَّ للمسلمين من خليفة يقوم برعاية شؤون المسلمين في الدين والدنيا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأمة مسؤولة عن اختيار من تنيبه عنها وتوليه، وتسلِّم له زمام الإذعان والطاعة، وحيث إن الأمة متفرقة في الأصقاع والأمصار، مختلفة العقول والصفات، مما يصعب معه تمييز الصالح من الطالح، لذا تكون المسؤولية في هذا المجال على عقلاء الأمة وعلمائها وفضلائها من أهل الحل والعقد، فهم الذين يختارون من يرونه أهلاً للقيام بهذا الواجب الشرعي.

عباد الله: وأهل الحل والعقد: هم فئة من الناس على درجة عالية من الدين والخلق والعلم بأحوال الناس، وحسن تدبير الأمور، ويسمَّون أهل الاختيار، وأهل الشورى، وأهل الرأي والتدبير، وهذه الفئة تقوم باختيار الإمام -الخليفة- نيابة عن الأمة جميعاً، فمن رأوه صالحاً بايعوه على كتاب الله وسنة رسوله، ولزوم طاعته في غير معصية الله.

ومقصود جميع الولايات الإسلامية إصلاح دين الخلق، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمور دنياهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال -سبحانه-: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج: 40، 41].

أيها الإخوة: والخلافة في الأرض عبادة كغيرها من الأعمال، ولها أحكام وأوامر، يبتلي الله بها من شاء من عباده، لينظر كيف يعملون؟. هل يؤدون حقها ويقيمون أوامرها" أم يتسلطون بها على العباد؟. كما قال موسى -صلى الله عليه وسلم- لقومه: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف: 128].

وكل خليفة أو إمام أو أمير أو مسؤول فهو مسؤول أمام الله عن أقواله وأفعاله، ومحاسَب على تصرفاته، فكل من أخذ ما لا يستحقه شرعاً من الولاة والرؤساء، والأمراء والعمال، والعامة والخاصة فهو غالّ، والغلول من المحرمات والكبائر التي حرمها الله ورسوله: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [آل عمران: 161]. فيجب على الخلفاء والأمراء من كانوا وحيث كانوا لزوم سُنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسنة الخلفاء الراشدين في جميع أعمالهم وأمورهم، والتمسك بها.

وقد جعل الله -سبحانه- ملوك العباد وأمراءهم وولاتهم من جنس أعمالهم، بل كأن أعمالهم ظهرت في صورة ملوكهم وولاتهم، فإن استقاموا استقامت ملوكهم، وإن عدلوا عدلت عليهم ملوكهم، وإن جاروا جارت عليهم ملوكهم، وإن ظهرت فيهم صفات المكر والخديعة والاحتيال فولاتهم كذلك، وإن منعوا حقوق الله لديهم من زكاة وصدقات وبخلوا بها منعت ملوكهم وولاتهم ما لهم عندهم من الحق، وبخلوا به عليهم. كما جاء من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال -صلى الله عليه وسلم-:".. ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أُخذوا بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء.." [ابن ماجه (4019) وحسنه الألباني].

وإن أخذوا ممن يستضعفونه ما لا يستحقونه أخذت منهم ملوكهم ما لا يستحقونه، وضربت عليهم المكوس والضرائب، وكل ما يستخرجونه من الضعيف يستخرجه الملوك منهم بالقوة، فعمالهم ظهرت في صورة أعمالهم.

أيها الإخوة: وليس في الحكمة الإلهية أن يولَّى على الأشرار الفجار إلا من يكون من جنسهم فحيثما تكونوا يولَّ عليكم، ولما كان الصدر الأول من هذه الأمة خير القرون وأبرها كانت ولاتهم كذلك، فلما شابوا شابت لهم الولاة, لذلك قال عبد الملك بن مروان لمن عاتبه: "تريدون منا أن نكون كأبي بكر وعمر ولستم كرعية أبي بكر وعمر". وأما عليّ -رضي الله عنه- فقال في مثل هذا الموقف: "لقد كانت رعية أبي بكر وعمر مثلي وأما أنا فرعيتي مثلك".

وحكمة الله -جلَّ جلاله- تأبى أن يولّي علينا في مثل هذه الأزمان مثل معاوية وعمر بن عبد العزيز فضلاً عن أبي بكر وعمر، بل ولاتنا على قدرنا، وولاة من قبلنا على قدرهم، وكل من الأمرين موجب للحكمة، وإذا غيرنا ما بأنفسنا غير الله بنا وغير ما حولنا: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11].

ويجب على الأمة طاعة الله ورسوله في كل شيء، وأولو الأمر هم العلماء والأمراء، والأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء، وصلاح العالم وفساده بصلاحهما أو فسادهما، والناس كلهم تبع لهم، ولهذا أمرنا الله بطاعتهم بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) [النساء: 59].

ولاختيار الحاكم طريق ثاني هو طريق العهد والاستخلاف، فإذا أحس الخليفة بقرب أجله، وأراد أن يستخلف على الناس أحدهم شاور أهل الحل والعقد فيمن يختار، فإذا وقع رأيه على شخص معين يصلح للخلافة من بعده، ووافقه أهل الحل والعقد، فإنه يعهد إليه من بعده كما هَمَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعهد لأبي بكر -رضي الله عنه- ثم تركه؛ لعلمه أن الناس لن يختاروا غير أبي بكر -رضي الله عنه-.

وكما عهد أبو بكر -رضي الله عنه- بالخلافة من بعده لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وعهد عمر -رضي الله عنه- بالأمر من بعده للستة الذين توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راض ليختاروا واحداً منهم، وذلك كله بعد مشاورات مع كبار المهاجرين والأنصار -رضي الله عنهم-.

عباد الله: والخلافة والإمامة للرجال دون النساء؛ لأن الولايات يحتاج فيها إلى الدخول في محافل الرجال وهذا محظور على النساء، ولأنه يحتاج فيها إلى كمال الرأي وتمام العقل والفطنة، والنساء ناقصات عقل ودين، لذلك لما قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم- إن كسرى خلفته ابنته قال: "لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أمْرَهُمُ امْرَأةً" [البخاري (4425)]، ولذلك لم يولّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا أحد من خلفائه ولا من بعده من الخلفاء امرأة ولاية بلد ولا قضاء قط، صيانة للمرأة من السوء والفتن.

ولا ينبغي للمسلم طلب الإمارة أو الحرص عليها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يَا عبدَ الرّحمنِ بنَ سَمرةَ، لا تسْأل الإِمارةَ، فإنْ أُعطيتَها عَن مسْألةٍ وُكلتَ إليهَا، وإنْ أُعطيتَها عَنْ غيِر مسْألةٍ أُعنتَ علَيها" [البخاري (7147)، واللفظ له، ومسلم (1652)]، وعلى خليفة المسلمين أن لا يولّي هذا الأمر أحداً سأله أو حرص عليه، فعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَا وَرَجُلانِ مِنْ قَوْمِي، فَقَالَ أحَدُ الرَّجُلَيْنِ: أمِّرْنَا يَا رَسُولَ الله، وَقَالَ الآخَرُ مِثْلَهُ، فَقَالَ: "إِنَّا لا نُوَلِّي هَذَا مَنْ سَألَهُ، وَلا مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ" [البخاري (7149)، واللفظ له، ومسلم (1733)].

ومن أخبر عن نفسه قدرة إظهاراً لنعمة الله عليه، وليس فخراً على من دونه، وطلب العمل ليكثر به ما يحبه الله ورسوله من الخير، فهو محمود كما طلب يوسف الصديق –عليه السلام- من عزيز مصر بقوله: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف: 54، 55]، فالتمكين للدين في دنيا الناس ليصرِّف شؤونها، ويدبر أمورها ويهيمن عليها لا يتم إلا إذا تغلغل في قلوب أتباعه، وتصرَّف في دقائق شؤون حياتهم، فإذا رأيت دعاته كذلك؛ فاعلم أن نصر اللَّه قريب. ومن هنا كانت مقولة بعض الدعاة: "أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم؛ تقم لكم على أرضكم" حكيمة؛ لأن من أراد أن يفرح بنصر اللَّه؛ فلا بد أن يكون قائماً على أمر اللَّه؛ فلا يُؤْتَيَنَّ الدينُ من قِبَلِه.

اللهم وفق جميع المسلمين لما تحب وترضاه, وأصلح حكامهم ورعاياهم, واهد ضالهم, واستعمل الجميع في طاعتك وحسن عبادتك ونشر دينك، ونسأل الله أن ينصرنا على أنفسنا وأعدائنا، ونسأله -سبحانه- أن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يعلي دينه وشريعته وسنة نبيه، اللهم انصر دينك، وكتابك، وسنة نبيك، وعبادك المؤمنين، اللهم, (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 147].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي