وأما المعنوي فله مدة منذ ظهر، يعرف ذلك أهل العلم الديني ومن له فطنة من أهل السبب الدنيوي؛ فإنهم يجدون أنفسهم لا يقدر أحدهم أن يبلغ من العمل قدر ما كانوا يعملونه قبل ذلك، ويَشْكُون ذلك ولا يدرون العلة فيه؛ ولعل ذلك بسبب ما وقع من ضعف الإيمان؛ لظهور الأمور المخالفة للشرع من عدة أوجه، وأشد ذلك: الأقوات؛ ففيها من الحرام المحض ومن الشُبَه ما لا يخفى، ..
الحمد لله رب العالمين؛ خلق الزمان والمكان، ويقلب الليل والنهار؛ لتعلموا عدد السنين والحساب (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا) [الإسراء:12]، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم؛ فما من خير إلا هو مانحه، ولا من بلاء إلا هو كاشفه (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأنعام:17].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أرحم الناس بالناس، وأنصحهم للأمة، لا خير إلا دلنا عليه، ولا شر إلا حذرنا منه (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة:128] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ) [التوبة:100] والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله عز وجل؛ فهي وصية الله تعالى لنا ولمن قبلنا (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا) [النساء:131].
أيها الناس: جعل الله تعالى الدنيا دار عمل وابتلاء، وجعل الآخرة دار الجزاء والقرار، ومهما طال عمر الإنسان في الدنيا؛ فإنه مفارقها بالموت، ولن يجد في أخراه إلا ما عمل في دنياه، ثم إن هذه الدنيا بأسرها؛ بسمائها وأرضها وشمسها وقمرها وأنجمها زائلة لا محالة (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) [الأنبياء:104] (وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزُّمر:67] (فَإِذَا بَرِقَ البَصَرُ * وَخَسَفَ القَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالقَمَرُ * يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة:7-13].
والدنيا تنتهي، والعمل الصالح يتوقف بقيام الساعة (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) [الأنعام:158].
والمؤمنون يخشون الساعة، ويخافون يوم القيامة؛ لإيمانهم بما فيه من الحساب والجزاء على الأعمال، ويعملون صالحا في الدنيا لذلك اليوم العظيم، مع وجلهم أن لا يقبل منهم.
وأما أهل الكفر والنفاق فيسخرون من ذلك، ويستعجلون قيام الساعة؛ لكفرهم بالله تعالى، وتكذيبهم بيوم القيامة، وقد وصف الله تعالى المتقين بقوله سبحانه (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء:49] وفي آية أخرى (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحَقُّ) [الشُّورى:17-18].
والمكذبون بالساعة يوبخون يوم القيامة على شكهم في قيامها، وإنكارهم الجزاء على الأعمال (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [الجاثية:32].
والساعة آتية وإن استبعدها كثير من الناس، وقريبة وإن استبطئوا زمنها (وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ البَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [النحل:77].
وللساعة أمارات تقع بين يديها، وعلامات تدل على قربها، ومن علاماتها ما وقع وانتهى، ومنها ما وقع ولا يزال يقع وهو في ازدياد، ومنها ما لم يقع وهو واقع لا محالة (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) [محمد:18].
ومن فوائد العلم بأشراط الساعة تحذير الناس وتذكيرهم؛ لئلا ينغمسوا في ملذات الدنيا، وينسوا ما يستقبلهم من أمر الساعة والحساب وهو أعظم وأشد، فلا بد أن يستعدوا له بما ينجيهم (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) [القمر:46].
كما أن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور لم تقع زمن بعثته، ثم وقعت بعد ذلك وشاهدها الناس - لمن دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام، والعلم بإخباره بها، ثم رؤيتها عيانا لمما يزيد المؤمنين إيمانا إلى إيمانهم، ويقينا إلى يقينهم، وثباتا على دينهم، وصبرا على ما يصيبهم من البلاء؛ لعلمهم أن لذلك نهاية، وأن الحساب والجزاء سيكون عند حكم عدل لا يظلم أحدا.
أيها الإخوة: ومما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عنه من أشراط الساعة وعلاماتها: تقارب الزمان، وسرعة مرور الأيام، وقلة البركة في الأوقات والأعمار، روى أبو هُرَيْرَةَ رضي لله عنه فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتى يُقْبَضَ الْعِلْمُ وَتَكْثُرَ الزَّلازِلُ وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ..." رواه البخاري.
وتقارب الزمان الذي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه من أشراط الساعة قد قيل في معناه: إنه تقارب ما بين المدن والأقاليم والدول، وسرعة الوصول إليها بما يسر الله تعالى للبشر من صنع السيارات والطائرات ونحوها، وقد كان الناس قبلها يَقْسمون أسفارهم على مراحل وأيام، ويمكثون في الأسفار البعيدة أشهرا وأعواما، وكانت القوافل تسير من الأندلس وإفريقية وأقاصي آسية إلى بيت الله الحرام للحج، فتمكث أشهرا، وربما أعواما قبل بلوغ مكة، ولا تبلغها إلا وقد مات كثير من أفرادها في الطريق من مشقته ومخاطره، حتى إن كثيرا ممن يبلغون مكة لا يعودون إلى ديارهم وأهليهم مرة أخرى؛ لما رأوا من الأهوال في رحلة وصولهم إليها، ومن كتبوا عن رحلاتهم إلى الحج ذكروا عجائب في ذلك.
أما الآن فيفد الحجاج إلى مكة من أقاصي الأرض فلا يمكثون في الجو إلا ساعات معدودة وإذا هم في البيت الحرام، فهذا من تقارب البلدان، وهو من معاني تقارب الزمان.
وكان الناس إذا غاب غائبهم في رحلة حج أو تجارة أو طلب علم لا يصلهم خبره إلا بعد أشهر أو سنوات بكتاب يبعثه إليهم، أو من رآه يخبر عنه، ولا وسائل للاتصال غير ذلك؛ حتى عقد الفقهاء أبوابا في الفقه للغائب وأحكامه إذا انقطعت عن أهله أخباره.
أما الآن فيتصل بهم، ويتصلون به متى أرادوا، فيسمعون صوته، ويعرفون أحواله، وإن شاءوا رأوه عيانا وهو يكلمهم، وما عاد للبريد والرسائل قيمة تذكر أمام هذا الفتح العظيم من وسائل الاتصال، حتى إن الأجهزة الحديثة تظهر صورة المتصل، وتدل على مكانه، وهذا أيضا من تقارب الزمن، فوقع على ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام.
ومن معاني تقارب الزمان: سرعة الأيام والشهور والأعوام، فما تشرق شمس يوم إلا وتغرب، ولا يَهل شهر إلا ويدبر، ولا تبتدئ سنة إلا وتنقضي سريعا.. قد نزعت البركة من الأوقات والأرزاق والأعمار.
لقد أدرك الناس أزمنة قريبة كانوا ينجزون في يومهم وليلتهم أعمالا كثيرة يعجزون اليوم عن إنجازها في أسبوع كامل، وكانت أرزاق الناس قليلة جدا ولكنها كانت تكفيهم، ويتصدقون منها ويدخرون، فلما اتسعت أرزاقهم، وتهيأت لهم سبل المواصلات والاتصالات، وتتابعت النعم عليهم نزعت البركة من أوقاتهم وأرزاقهم.
ومن نظر إلى العلم الذي خلفه أسلافنا علم أن الله تعالى قد بارك في أوقاتهم وأعمارهم، وكثير منهم كان ما كتبوا من صفحات يزيد على أيام حياتهم منذ ولادتهم إلى وفاتهم.
ومع ذلك فإن شراح هذا الحديث في القرون السالفة أخبروا أن تقارب الزمان، وقلة البركة في الأوقات والأعمار قد وقع في أزمانهم، وكأن ذلك يتسع يوما بعد يوم، وكلما تقدم بالناس زمان اشتدت قلة البركة، حتى يكونوا أقل بركة ممن كانوا قبلهم؛ وسبب ذلك كثرة المعاصي، والإعلان بها.
وهذا المعنى في تفسير تقارب الزمان بقلة البركة فيه قد جاء في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ فَتَكُونُ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ وَيَكُونُ الشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ وَتَكُونُ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ وَيَكُونُ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ وَتَكُونُ السَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ أَوِ الْخُوصَةِ" رواه أحمد وصححه ابن حبان.
قال ابن أبي جمرة الأندلسي رحمه الله تعالى: يحتمل أن يكون المراد بتقارب الزمان قصره على ما وقع في حديث: "لا تقوم الساعة حتى تكون السنة كالشهر" وعلى هذا فالقصر يحتمل أن يكون حسيا، ويحتمل أن يكون معنويا:
أما الحسي فلم يظهر بعد، ولعله من الأمور التي تكون قرب قيام الساعة.
وأما المعنوي فله مدة منذ ظهر، يعرف ذلك أهل العلم الديني ومن له فطنة من أهل السبب الدنيوي؛ فإنهم يجدون أنفسهم لا يقدر أحدهم أن يبلغ من العمل قدر ما كانوا يعملونه قبل ذلك، ويَشْكُون ذلك ولا يدرون العلة فيه؛ ولعل ذلك بسبب ما وقع من ضعف الإيمان؛ لظهور الأمور المخالفة للشرع من عدة أوجه، وأشد ذلك: الأقوات؛ ففيها من الحرام المحض ومن الشُبَه ما لا يخفى، حتى إن كثيرا من الناس لا يتوقف في شيء، ومهما قدر على تحصيل شيء هجم عليه ولا يبالي، والواقع أن البركة في الزمان وفي الرزق وفي النَبْت إنما يكون من طريق قوة الإيمان، واتباع الأمر، واجتناب النهي، والشاهد لذلك قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) [الأعراف:96] انتهى ملخصا من كلامه رحمه الله تعالى.
أسأل الله تعالى أن يبارك لنا في أوقاتنا وأعمارنا وأعمالنا وأرزاقنا، وأن يجعلنا والمسلمين مباركين أينما كنا، إنه سميع مجيب. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ هدى من شاء من عباده للإسلام والإيمان، وجاد عليهم بأنواع الخير والإحسان، وشرع لهم الصيام والقيام (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183]. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم -أيها المسلمون- وأحسنوا استقبال شهركم بالتوبة من الذنوب، والاجتهاد في الأعمال الصالحة؛ فإنكم مرتهنون في قبوركم وآخرتكم بأعمالكم وفي آية أخرى (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى) [النَّجم:39-41] (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [المدَّثر:38].
أيها المسلمون: إن مما نشاهده ونحسه قلة البركة في الأوقات والأعمار رغم قرب المسافات، وكثرة وسائل الاتصال والمواصلات، وهذا مصداق للحديث النبوي في تقارب الزمان.
إن الناس في زمننا هذا مشغولون دائما ولا ينتجون شيئا، ويلهثون باستمرار ولا ينجزون إلا القليل من الأعمال، ووصل أهل القبور قبورهم وقد كان لهم في الدنيا آمال وطموحات، وأعمال ومشروعات حال بينهم وبينها الموت، ففارقوا الدنيا ولم تنته مشاغلهم وآمالهم.
وفي زمن ثورة المواصلات والاتصالات التي قربت البعيد، واختصرت الزمان والمكان؛ فإن الأرحام تقطع، ويتهاجر الجيران، ويمكث القريب عن قريبه -وهو في مدينته- زمنا طويلا يتعدى أشهرا وربما يتجاوز السنة، وقد يمرض ولا يعلم عنه شيئا، وكل منهما مشغول عن الآخر، ولا نتائج تذكر من وراء هذه الأشغال.
وبما أن الزمان يتقارب، ويزداد تقاربه يوما بعد يوم حتى تمضي الشهور والأعوام ولا يحس الناس بها، ومشاغل الناس وطموحاتهم تتجاوز أعمارهم بأضعاف مضاعفة، بما أن الأمر كذلك - فإن العاقل من الناس من يرتب أعماله؛ فيقدم الأهم منها على المهم، والفاضل على المفضول، وما يبقى على ما يفنى، فإذا ما تعارض عمل الدنيا مع عمل الآخرة، قدم عمل الآخرة؛ لأنها خير وأبقى.
وإذا تزاحمت الأعمال الصالحة عليه قدم الفرائض على النوافل، والواجبات على المندوبات، وقدم ما كان نفعه متعديا على ما كان نفعه قاصرا، وإذا ما أدرك أزمنة فاضلة كالجمعة ورمضان وعشر ذي الحجة خصها بمزيد عناية واهتمام؛ لفضيلة العمل الصالح فيها، وأهل التجارة يخصون مواسمهم بمزيد عناية واهتمام، ولا ينبغي أن يكون طلاب الدنيا أكثر حصافة واهتبالا للفرص من طلاب الآخرة.
إن أعمارنا -وإن طالت- لن تستوعب آمالنا وطموحاتنا ومشاريعنا التي تزداد يوما بعد يوم مع نقص أعمارنا في كل يوم يمضي علينا، ومن الخسارة العظيمة أن يمضي عمر أحدنا وقد فُرق عليه أمره، وشُتت شمله، وقسا قلبه، وهو لا يزال يَعِدُ نفسه بأعمال صالحة كثيرة، ولكنها تظل حبيسة أمانيه ووعوده، ولا تحظى بشيء من وقته وعمره حتى يُوسد في قبره.
إنكم -يا عباد الله- تستقبلون موسما من مواسم الآخرة، وسيحظى من أدركه منكم بعطية من عطايا ربكم عز وجل؛ فحرام عليه ثم حرام أن يفرط فيه، ولا يوليه عنايته واهتمامه؛ موسم من أدركه فلم يغفر له فهو محروم، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: "رَغمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْه شَهْرُ رَمَضَانَ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ" صححه ابن خزيمة وابن حبان.
وفي الحديث الآخر عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَقَالَ: مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمينَ، فَقُلْتُ: آمينَ"صححه ابن حبان.
وقد عودنا شياطين الإنس فيما مضى من رمضانات بإفساد صيام الصائمين، وقيام القائمين، وإذهاب روحانية رمضان بما يعرضونه في فضائياتهم من إثم وقمار وفجور وسخرية بالناس، واستهزاء بدين الله تعالى، ورفض لشريعته، وتعد على حدوده، وتمرد على أحكامه، وقبل أشهر من رمضان وهم يستبقون لجر الصائمين والقائمين إلى فضائياتهم الآثمة بما يعرضونه من دعايات لبرامجهم الفاجرة.
فيا لخسارة من تبعهم في ضلالهم، ووافقهم في إفكهم، وقضى رمضان متنقلا بين برامجهم، وشهد مشاهد الزور معهم، ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام يقول: "من لم يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ به وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ لهل حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ".
ووالله الذي لا إله إلا هو إن كثيرا مما يبشرون به المسلمين في فضائياتهم لهو من أعظم الجهل، وأكبر الزور، وإن من أقل درجات إنكار هذا الجهل والزور مجانبة مجالسه، وحفظ البيوت والأسر من شره وبلائه؛ حفظا لصيامهم مما يخرقه، ولقلوبهم مما يفسدها، وشكرا لله تعالى على إدراك رمضان.
اللهم سلمنا إلى رمضان، وسلمه لنا، وتسلمه منا متقبلا، ووفقنا فيه للعمل بما يرضيك، آمين، آمين، آمين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي