لقد شرع الإسلام تشريعات عديدة لحفظ أموال المسلمين، ونظم عملية التعامل بين المسلمين في الأمور المالية، وحرم كل عملية من شأنها الإضرار بمصالح الناس ومعاشهم، وحدّ حدودا رادعة لقمع كل من يتعدى على أموال الناس ويأكلها بغير حق، وهذا...
إن الله -تعالى- قد شرع هذا الدين العظيم، وبين فيه كل شيء، وأعطى فيه كل ذي حق حقه وجعل لكل شيء قدراً.
وإن من الأمور التي أولاها هذا الدين رعاية واهتماما: أمر المال وحفظه، وما يجب له وما يجب فيه.
لقد جعل الله -تعالى- المال قياما لأمور الناس ومصالحهم، فقال عز وجل: (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً) [النساء: 5]، فالسفهاء الذين يخشى من إتلافهم للمال، لا يعطى لهم المال؛ لأنه في حقيقته مال الأمة، وللأمة فيه قيام ومصلحة، فلا يجوز أن تسلمه لمن يفسد فيه.
ويقول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) [النساء: 29].
وأكل الأموال بالباطل يشمل كل طريقة لتداول الأموال بينهم لم يأذن بها الله، أو نهى عنها، ومن ذلك الغش والرشوة والقمار والاحتكار، وجميع البيوع المحرمة، وفي مقدمتها الربا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء: 29]، هكذا عقب بقوله: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ) حتى يشير إلى الآثار المدمرة التي ينشئها أكل الأموال بالباطل في حياة المجتمع، فهي عملية قتل متعمد، يريد الله أن يرحم منها المؤمنين، وإنها فعلا لوسيلة لقتل الأمة.
فما انتشرت وسائل أكل الأموال بالباطل: بالربا، والغش، والقمار، والاحتكار، والتدليس، والاختلاس، والاحتيال، والرشوة، والسرقة، وبيع العرض، وبيع الذمة، وبيع الضمير، والخلق، والدين.
ما انتشرت هذه الوسائل في أمة إلا وقد كتب عليها أن تقتل نفسها، وتتردى في هاوية الدمار.
والله يريد أن يرحم الذين آمنوا من هذه المقتلة المدمرة للحياة، المهلكة للنفوس: (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا) [النساء: 27].
لقد شرع الإسلام تشريعات عديدة لحفظ أموال المسلمين، ونظم عملية التعامل بين المسلمين في الأمور المالية، وحرم كل عملية من شأنها الإضرار بمصالح الناس ومعاشهم، وحدّ حدودا رادعة لقمع كل من يتعدى على أموال الناس ويأكلها بغير حق، وهذا كله يبين أهمية المال في حياة الناس.
ومع أن المال يكتسب هذه الأهمية في الحياة، إلا أن الإسلام يجعل المال وسيلة لا غاية، فالمال في الإسلام هو وسيلة لعبادة الله -تعالى- وإقامة شرعه المطهر ووسيلة للصلاح والإصلاح، ووسيلة للبر والصلة، والتكافل بين المسلمين، ووسيلة لدعم قضايا المسلمين، فلا يجوز للمسلم أن يرفعه فوق منزلته، ولا أن يتخذه إلهاً يعبد، ولا أن يكون هو الغاية في حياة المسلم، فالمال وسيلة إذا استخدمت في الصلاح كانت نعمة،كما قال صلى الله عليه وسلم-: "نعم المال الصالح للعبد الصالح"، وإذا استخدمت في الفساد كانت وبالاً، وشقاء وتعاسة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم".
إن الفقر خير من مال يجلب التعاسة، وقلة ذات اليد خير من غنىً يجلب الطغيان، والرسول لم يكن يخاف علينا من الفقر، بل كان يخاف علينا من الغنى، فهاهو صلى الله عليه وسلم يحلف ويقول: "والله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم".
إن الناس إذا كان تنافسهم في الدنيا وفي الأموال فإن الهلاك والدمار هو مصيرهم.
هذه عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد بطرت معيشتها وتبجح أهلها حتى قالوا: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)؟ فدمرهم الله -تعالى- ورد عليهم بقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) فصلت: 15].
وهذا قارون فرح بما عنده من المال، وقال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) [القصص: 78]، قال الله -تعالى- فيه: (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) [القصص: 78]، ثم قال: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ) [القصص: 81]، فالاعتزاز بالمال والدنيا هو من أعظم أسباب الدمار والهلاك.
وإنفاق المال في سبيل الدين والعرض، ومكارم الأخلاق، هو من أعظم أسباب البقاء والتمكين في الأرض.
لقد كان أعراب الجاهلية يفخرون بإنفاق أموالهم في الخصال الحميدة، كإكرام الضيف، والإصلاح بين الناس، كما كانوا يتعايبون من كنز الأموال حتى قال قائلهم:
إنا إذا اجتمعت يوما دراهمنا *** ظلت إلى طرق الخيرات تستبق
لا يعرف الدرهم المضروب صرتنا *** لكن يمر عليها وهو منطلق
حتى يصير إلى نذل يخلده *** يكاد من صره إياه يمزق
وكان أحدهم ينفق ماله كله من أجل إكرام ضيف نزل به، أو من أجل أن يصلح بين متخاصمين، فجاء الإسلام فزاد ذلك قوة فجعل لذلك الذي أصلح وتحمل حمالة الصلح نصيبا في الزكاة.
وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يعتبرون المال وسيلة لا غاية، فهذا المصطفى يعطي عطاء من لا يخشى الفقر ولا يأتيه مال إلا قسمه في المحتاجين حتى يمسي وليس عنده منه شيء؛ لأنه القائل صلى الله عليه وسلم: "الغنى غنى النفس"، فالغنى الحقيقي هو أن تكون غنيا عن المال، لا غنيا بالمال.
وهؤلاء أصحابه -رضي الله عنهم- تصدق كثير منهم بثلث ماله، وتصدق عمر -رضي الله عنه- بنصف ماله، وتصدق الصديق أبو بكر بماله كله في سبيل الله، وعندما قيل له: "ما تركت لأهلك؟" قال: تركت لهم الله ورسوله".
إن يفن ما عندنا فالله يرزقنا *** مما يشاء ولسنا نحن نرتزق
وفي غزوة حنين عاتب الرسول -صلى الله عليه وسلم- الأنصار، فقال لهم: "ألا ترضون أن يرجع الناس بالشاء والبعير، وترجعون برسول الله؟" فقالوا بلسان واحد: "رضينا برسول الله حظا ونصيبا".
خذوا الشياه والجمال والبقر *** فقد أخذنا عنكم خير البشر
لقد كان هؤلاء الرجال يعلمون أن تقديم المال على الجهاد والدعوة هو الهلاك الحقيقي.
قال أبو عمران التجيبي -رحمه الله-: "كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس، وقالوا: سبحان الله! يلقي بيديه إلى التهلكة؟ فقام أبو أيوب الأنصاري، فقال: يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام، وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام، وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها؟ فأنزل الله على نبيه -صلى الله عليه وسلم- يرد علينا ما قلنا: (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة: 195]، فكانت التهلكة إقامتنا على الأموال، وإصلاحها، وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم".
جاء رجل إلى عمر فقال: "يا أمير المؤمنين أعطني فوالله لئن أعطيتني لا أحمدك، ولئن منعتني لا أذمك؟ قال: ولم ذاك؟ قال: لأن الله -جل ثناؤه- هو المعطي وهو المانع، قال عمر: أدخلوه بيت المال فليأخذ ما شاء، فأدخلوه قال: فجعل يرى صفراء وبيضاء، فقال: ما هذا ليس لي فيما ها هنا حاجة، إنما أردت زادا وراحلة، فأمر له عمر بزاد وراحلة، فرحل له، فلما ركب راحلته رفع يده، فحمد الله، وأثنى عليه، وجعل عمر يمشي خلفه ويتمنى أن يدعو له، قال: اللهم واجز عمر خيرا، فكانت هذه الدعوة أحب إلى عمر من كل ما في بيت المال".
كان المسلمون يفتتحون الممالك العظيمة، ويغنمون الكنوز، فلا تؤثر فيهم ولا تغيرهم فهم يعلمون أنها حطام الدنيا وهم يستشعرون قول الله -تعالى-: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ) [الدخان: 25- 29]، نعم يعلمون أن ذلك متاع زائل.
كنا نرى الأصنام من ذهب *** فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها *** كنزا وصاغ الحلي والدينارا
فتح المسلمون البيت الأبيض مقر الرئاسة الكسروية فوجدوا فيه سجادة عظيمة سبعين ذراعا في سبعين ذراعا، منسوجة بالجوهر والياقوت والأحجار الكريمة، فما كان منهم إلا أن قطعوها وحملوها على الجمال وأرسلوها إلى عمر ليقسمها في فقراء المدينة، وأرسلوا معها سيف كسرى ومنطقته وزبرجدته لم ينقص منها جوهرة واحدة ولم يسقط منها ياقوتة واحدة، فلما رءآه عمر -رضي الله عنه- أخذ يبكي، ويقول: لو كان هذا خيرا ما زوي عن رسول الله وعن أبي بكر، ثم التفت إلى علي، فقال: إن قوما أدوا هذا لأمناء، قال علي -رضي الله عنه-: عففت فعفّوا يا أمير المؤمنين".
فكان علي بعد ذلك في خلافته كلما وجد في بيت المال شيئا قسمه على محتاجيه ثم أمر بكنس بيت المال ثم نضحه بالماء ثم صلى فيه رجاء أن يشهدله أنه لم يحبس فيه المال عن المسلمين.
هكذا كانت منزلة المال عند أولئك الرجال، كان المال وسيلة لا غاية.
كانوا يعلمون أن حفظ الأموال لا يأتي في الأهمية في الدرجة الأولى ولا في الدرجة الثانية ولا في الثالثة ولا الرابعة.
نعم، إن حفظ الأموال مقصد شرعي جاءت به الشريعة الغراء، ولكنه لا يأتي إلا في المرتبة الخامسة بعد أن قدمت عليه أربعة أمور هي أولى منه بالحفظ والرعاية.
لقد كان من المقاصد الشرعية في دين الإسلام -بل في كل شريعة سماوية- حفظ أمور خمسة هي أساس بناء واستقرار المجتمع.
أما الأمر الأول والمقصد الأول، والهدف الأول من الأحكام الشرعية، فهو: حفظ الدين الذي هو الأساس عند المسلم، وهو الأمر الجوهري الذي ينبغي أن يحافظ عليه كل مسلم، ويتمسك به، ويسعى إلى تحقيقه مهما بلغ الثمن، وحتى لو ضحى من أجله بالنفس والعرض والمال.
وكل مصيبة تقع للمسلم فإنها هينة إذا كانت دون الدين، ولذلك كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يدعو فيقول: "اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا".
ولا يجوز لمسلم أن يقدم على شيء يكون فيه فساد لدينه أو دين غيره من المسلمين، ولذلك كان الصد عن سبيل الله من أعظم الذنوب وأكبرها عند الله، ولهذا يقول الله -تعالى-: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة: 217]، فأمر حفظ الدين هو أعلى المقامات، وأعلى المراتب، وأشرف المقاصد، تهدر في سبيل تحقيقه النفوس والأعراض والأموال.
أما المقصد الثاني فهو: حفظ النفس، فقد جاءت الشريعة الإسلامية لتؤكد ضرورة حفظ النفوس من التلف، فقد حرم الله -تعالى- على المسلم أن يقتل نفسه أو نفس غيره أو أن يعمل على ما يضرها ويفسدها، ومن أجل ذلك أحل الله أكل الطيبات وحرم الخبائث، ومن أجل ذلك حرم الله أن يُقتل الإنسان إلا بحق، وحدّ لذلك حدودا، وشرع لذلك تشريعات كثيرة ليس هذا مكان تفصيلها، ومن أجل هذا المقصد العظيم تهدر الأموال.
أما المقصد الثالث، فهو: حفظ العرض، فأعراض المسلمين وشرفهم من الأمور التي عملت الشريعة الإسلامية على تحقيقها؛ لأن المسلم عزيز بإيمانه، معتز يشرفه وعفته، مترفع عن الرذائل والمعائب وما يخدش الحياء فلا يجوز لأحد أن يدنس عرضه ولا عرض أخيه المسلم حتى ولو كان ذلك بكلمة واحدة.
والأخلاق الفاضلة تدخل كلها تحت هذا المقصد، وفي سبيل العرض يدفع المسلم الغالي والنفيس.
أصون عرضي بمالي لا أدنسه *** لا بارك الله بعد العرض في المال
المقصد الرابع من مقاصد الشريعة، هو: حفظ العقل، فالعقل الصحيح هو الذي يوجه الإنسان إلى خالقه ويدله على طريق الحق.
والشرع المطهر جاء بحماية هذا العقل من كل ما يفسده، فقد حرم الإسلام المسكر والمفتر، وحرم الإصغاء إلى دسائس الكفار والمنافقين، وجعل الذي لا يعقل الحق في منزلة الحيوان في الحيرة الضلال، بل هم أضل سبيلا.
فمن أجل حفظ العقل يهدر المال ويصرف.
أما المرتبة الخامسة في مقاصد التشريع الإسلامي، فيأتي فيها: حفظ المال، لا لأنه مقصد في حد ذاته، ولكن لأنه وسيلة فعالة لتحقيق المقاصد الأربعة السابقة.
هذا هو ترتيب الأولويات في الإسلام: الدين، النفس، العرض، العقل، المال.
وهذا الترتيب هو الذي كان يعمل به المسلمون في أيام عزتهم ودولتهم، وهو الذي سادوا به الدنيا، وحازوا به الفخر والقوة والريادة، وحطموا به أصنام الوثنية وشعار الجاهلية، وأدخلوا به الناس في دين الله أفواجا.
بالمحافظة على الدين، ثم النفس، ثم العرض، ثم العقل، ثم المال، تحقق قول الله -جل وعلا-: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) [آل عمران: 110].
أما في غياب هذه النظرة الصحيحة، فإن العزة تتبدل ذلة، وتتبدل القوة ضعفا، ويتبدل النور ظلاما، وتتحول الفضيلة إلى رذيلة، ويصبح المعروف منكرا، والمنكر معروفا.
لقد تُودع من المسلمين منذ أن تبنوا المناهج الوضعية في الاقتصاد، فقسم شيوعي يهدر قيمة الإنسان، ويجعله في مرتبة الحيوان.
وقسم رأسمالي يقدس المال ويهدر من أجله الدين والقيم والأخلاق والفضائل، ليجعل المال هو المطلب الأسمى والمعبود الأول.
لقد دخلت الرأسمالية إلى بلاد المسلمين، وتغلغلت في عقولهم، حتى أصبح أكثرهم يعبد المال ويضحي من أجله بكل شيء، حتى لو كان دينه.
لم يعد المسلمون فقط يقدسون المال ويقدمونه على الدين والنفس والعرض والعقل، بل أصبحوا يستعملونه في هدم الدين، وقتل النفس، وتدنيس العرض، وإفساد العقل والتفكير.
لقد جاء الوقت الذي قال فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم: "يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل".
بعد أن عرفنا قيمة المال في ميزان المسلم الحق، وبعد أن عرفنا بُعد المسلمين اليوم عن هذا الميزان، فإننا لا نستغرب الحالة المتردية التي يقبع فيها المسلمون في كل المجالات ومنها المجال الاقتصادي.
إن الوضع القادم -أيها الإخوة- ليحتاج منا جميعا أن نعي هذه الحقيقة، وهو أن ديننا وأنفسنا وأعراضنا وعقولنا وأخلاقنا، أهم عندنا من المال، هذا إذا كنا سنجني مالا.
ومهما جنينا من الأرباح، فإن الأصل عندنا هو الدين، فمن حفظ دينه فقد ربح، ومن خسر الدين في مقابل لعاعة من الدنيا فقد خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين: (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185].
نحن هنا لا نفصل القول عن الرأسمالية الغربية، وكيف دمرت الأخلاق والقيم في البلاد التي طبقت فيها فهذا له موضع آخر.
ونحن لا نتحدث هنا عن الشركات المتعددة الجنسيات، وكيفية سيطرتها على الأمم، وخنقها للشعوب، وتكديسها لأموال العالم في أيدي بضعة ألوف من المليونيرات، مع تجويع ملايين الناس، فهذا مجال المتخصصين في ذلك، ولا نتكلم عن تأثير الإستثمار الأجنبي على البلاد الإسلامية، وعلى الفقراء فيها، وعلى القضايا الإسلامية، فهذا مجال المسؤولين، ولا نظن بهم إلا أنهم قد درسوه.
ولا نتكلم عن تجارب الأمم الأخرى في العولمة، والانفتاح على الثقافات الأخرى، فهذا مشاهد لكم جميعا، والكل يشتكي.
ولن نتكلم في خطر مشاركة بعض المسلمين لشركات تعلن دعمها لإسرائيل، فكل واحد مسؤول عند الله -تعالى- عن مال من أين اكتسبه وأين أنفقه.
هذا كله لا أقصده في هذه الخطبة، ولكني أقصد هنا توجيه الكلام إلى الناس العاديين أمثالي إلى التنبه، ومراعاة الأولويات في التعامل التجاري، ولنعلم جميعا أن المعاملات الإسلامية مبنية على التسامح والبر والصلة والتقارب والأخلاق، فلا يجوز أن يخرج بنا حب المال وشهوة الدنيا عن مبادئنا التي ندين الله -تعالى- بها.
ولنتذكر ثانية قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم".
وليعمل كل مسلم على أن يكسب المال من حله ويصرفه في حله، ولا يكن ممن يثمر أمواله على على حساب دينه أو دين المسلمين.
وليعلم أن من ترك شيئا لله عوضه الله -تعالى- خيرا منه، والله -تعالى- خير الرازقين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي