ماذا بعد رمضان؟

محمد هشام طاهري
عناصر الخطبة
  1. نظر المتقين إلى ثمرات العبادة .
  2. تقلُّب العابدين بين الخوف والرجاء .
  3. المحافظة على العمل بعد رمضان .
  4. بعض الأعمال المهمة بعد رمضان .

اقتباس

إن المسلم يسأل نفسه: ماذا بعد رمضان؟! لسنا عُبّاد رمضان، نحن عباد للرحمن جل في علاه؛ ولذلك، جاء رجل إلى النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وقال: أَوْصِنِي، قال: "قل آمنت بالله ثم استقم"...

الخطبة الأولى:

الحمد لله عاقب بين الليالي والأيام، أحمده -سبحانه- وعد بالمزيد مَن عظّمه فصلى وصام، وساق نفسه على الاستقامة على الدوام.

وأشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له وهو الملك القدوس السلام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خير قدوة نال الاستقامة على الدوام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ذوي المناقب الجليلة، والمكارم الحميدة، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الزلزلة العظيمة.

 وبعد: عباد الله أوصيكم بوصية الله للأولين والآخرين: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ) [النساء:131].

أيها الإخوة المؤمنون: ذهب شهر رمضان وقد استودعنا فيه ما استودعنا، ونجد ذلك عند الله،كما قال -سبحانه-: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:30].

نعم، رحل شهر رمضان، ونحن مأمورون بالعبادة على الدوام ما دامت الأرواح في الأبدان، حتى قال الله مخاطبا سيد المتقين من الأولين والآخرين، وسيد الأنبياء والمرسلين، محمدا -صلى الله عليه وسلم-، قال الله له: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:99]، أي: حتى يأتيك الموت.

أهم ما ينبغي على الإنسان بعد الطاعة أن ينظر إلى نفسه: ماذا يرجو بعد العبادة؟ إذا بنى الإنسان بيتا؛ ماذا يريد من البنيان؟ أن يسكنه، إذا بنى الإنسان دارا؛ ماذا يريد منه الإنسان؟ أن يحافظ عليه فلا يخدشه ولا يكسره ولا يهدمه؛ ولهذا يقول الله -عز وجل- مخاطبا إيانا: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا) [النحل:92].

أيها المسلمون: إن أناساً من الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- صاموا وصلوا وكانوا أهل عبادة واستقامة على الدوام وليس على الأيام، ومع ذلك كان في قلوبهم الوجل من الله، وكان في قلوبهم الخوف من الله؛ لما علموا من عظمته وجماله وجلاله وكمال قدرته، فلم يروا عبادتاهم شيئا أمام الملك الجليل -سبحانه- ورأوا عباداتهم قليلة، حتى قال الله عنهم في وصفهم: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) [المؤمنون:60].

قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "يا رسول الله، أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون ويفعلون ويفعلون؟!"، فقال النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-: "لا يا ابنة الصديق! ولكنهم الذي يصومون ويصلون ويتصدقون، ويخافون ألا تقبل منهم، أولئك الذي يسارعون في الخيرات" رواه الترمذي.

قال الخليفة الراشد علي -رضي الله عنه-: "كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم للعمل"، كيف؟ حينما يصنع الإنسان عملا ويعمل في وظيفته شيئا، لا يهتم بعد انقضاء العمل إلا بالقبول: هل يكون هذا العمل مقبولا عند الله أم يكون مردودا؟ هذا الذي يجب أن نهتم به.

ولذلك كان سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم، كانوا يسألون الله القبول ستة أشهر بعد رمضان.

لا ينبغي للإنسان أن يمتن، فإن المنّ في العبادات من صفات المنافقين، (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [الحجرات:17].

فالواجب على المسلم أن يزال خائفا، وربما يتهم نفسه -مع حسن ظنه بالله- يتهم نفسه بالتقصير، ويتهم نفسه بأنه ربما يكون في عمله سبب مانع من قبوله، فحينئذ يعيش بين الخوف وبين الرجاء، مع المحبة لله، كما ذكر الله في صفات خيرة الأنبياء والمرسلين، قال الله عنهم: (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء:90]، أي: على الدوام. "إن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل" متفق عليه.

فعلينا أن نديم العمل بعد رمضان، لاسيما النوافل، أما الفرائض؛ فإنه لا يسع مسلماً أن يدعها؛ لأنها مفروضة على كل عبد من عباد الله من الملك الديان -سبحانه وتعالى-؛ لذلك ليس لأحد أن يدع الفرائض، بل علينا أن نداوم على النوافل التي كنا عليها من قيام لليل وأقله ثلاث ركعات وتر، ركعتان فركعة، ومن قراءة قرآن، وأقله وردٌ يومي لا تزال تحافظ عليه، ولو كانت الأمور ما كانت، فتختم القرآن أقل شيء في  الشهر مرة، وأكثره كل ثلاثة أيام، ومن صدقة ولو بفلس أو ربع دينار أو دينار يوميا.

"أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل"، فعلى المسلم أن يحافظ على النوافل فضلا على الواجبات، تقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "كان أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قل"، وفي رواية في الصحيحين: "كان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه".

ويقول النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-: "فإن الله لا يمل حتى تملوا"، ويقول النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه -عز وجل-: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه".

أيها المسلمون: هل كنا في رمضان عبادا للرحمن أو كنا عبادا لرمضان؟ فمن كان يعبد رمضان فإن رمضان قد ذهب وانقضى، ومن كان يعبد الله فإن الله حي قيوم لا ينام، جل في علاه، من كان عبدا لله يديم الطاعة لله، ولا ننسى أن الله إنما فرض رمضان حتى نكون من المتقين كما قال -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183].

وها أنت اليوم تقيس درجة التقوى في قلبك: هل لا تزال من أهل الصف الأول؟ هل لا تزال من أهل تكبيرات الإحرام؟ هل لا تزال من أهل الإحسان في الأقوال والأعمال والأفعال؟ هل لا تزال مراقبا لله في الخلوات؟.

أيها المسلم: إن المسلم يسأل نفسه: ماذا بعد رمضان؟! لسنا عُبّاد رمضان، نحن عباد للرحمن جل في علاه؛ ولذلك، جاء رجل إلى النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وقال: أَوْصِنِي، قال: "قل آمنت بالله ثم استقم"، وجاء في كتاب الله -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأحقاف:13].

والله -جل وعلا- لم يطلب منا الصلاة بعدد معين وإنما طلب منا خمس صلوات في كل يوم وليلة ما دامت الأرواح في الأجساد، ولم يطلبها منا على صورة الانفراد بل قال -عز وجل-: (وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ) [البقرة:43].

إن الله -عز وجل- شدد على المسلمين في حياة النبي الكريم مع وجود خيرة الناس بعد الأنبياء والمرسلين وقال الله لهم: (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ) [النساء:102]، في الحرب أوجب الله عليهم الجماعة، في الحرب يوجب النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصحابة الجماعة؛ لأن الله خاطبه بذلك والأعداء أمامه.

ورجل ضرير أعمى يأتي إلى النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، غريب وأعمى وبيته بعيد وليس له قائد يقوده وبينه وبين المدينة وادٍ، وبينه وبين المدينة سباع، وبينه وبين المدينة هوام، وهذه سبع علل، ومع ذلك يقول للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله، أتأذن لي أن أصلي في بيتي؟ فيقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نعم، صل في بيتك"، فلما ولى ناداه -صلى الله عليه وسلم-، قال: "أتسمع النداء؟"، قال: نعم، قال "أجب". يقول العلماء: أمره بأن يجيب، أي: يجيب الصوت، ومعنى هذا -يا عبد الله- ليس لك أن تتأخر بعد حي على الصلاة حي على الفلاح .

ولهذا كان من السلف من يرفع فأسه ويحرث أرضه، فإذا سمع النداء "الله أكبر" ألقى الفأس ولم يحرث شيئا، ومن السلف من كان في يده المقص وهو يعمل في بيع وتفصيل الثياب، فإذا سمع حي على الصلاة، الأذان، "الله أكبر"، ألقى المقص ولم يكمل القص.

ونحن لدينا سيارات مرفهة، وبيوت مكيفة، ومساجد مزينة؛ أي عذر لنا في التأخير عن الجماعة؟.

الاستقامةَ الاستقامةَ تدركوا من سبقكم! (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [الواقعة:10-11].

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: أيها المسلمون، لنتق الله -تبارك وتعالى- ولنكن ربانيين لا رمضانيين، ولنكن عبادا على الدوام لا عبادا حسب الأيام.

وإن النفس تكسل، ولكن الذي له العقبى عند الله هو الذي تكون أنشطته على السنة وكسله يكون في عدم ترك السنن؛ لذلك يقول النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-: "لِكُلِّ عملٍ شِرَّةٌ، ولِكُلِّ شرَّةٍ فَترةٌ، فمن كانَت فَترتُهُ إلى سنَّتي، فَقد أفلحَ، ومَن كانت إلى غيرِ ذلِكَ فقد هلَكَ"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "سددوا وقاربوا، واعلموا أنكم لن تبلغوا إلا بشيء من الدلجة".

أي عباد الله: لنحافظ على نوافل الصوم، ستة أيام بعد رمضان متفرقة أو جمعا، وأوصيكم جميعا بأن من عليه صوماً فليبادر بالفرض أولا، ثم بالنفل ثانيا، ثم صوم الاثنين والخميس، وأقل شيء أن تحافظ على صوم أيام البيض.

أي عباد الله: إن الصوم من العبادات العظيمة الجليلة التي ما كان النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- يدعها لا في سفر ولا في حضر، حتى في يوم شديد الحر في الجهاد أو في الحج، يقول أنس: "ما كان أحد يصوم في السفر إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعبد الله بن رواحة من شدة الحر".

عباد الله: لنحافظ على امتثال أمر الله والاقتداء بهدي رسول الله؛ فإن الدنيا منقضية كانقضاء شهركم، وأيام العمر معدودة كأيام شهر رمضان التي قد انقضت.

ولنا في الأيام عبرة، وفي الليالي موعظة، وما رأينا مخلدا في الدنيا، ومهما طال العمر فإن الإنسان يموت ويحاسب: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:7-8].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي