أتوجَّه إلى المؤتمنِ المَدينِ الذي وَثِقَ به الدائنُ, فأحسن الظن به, واستحيا منه أن يكتب عليه كتاباً يوثِّق به دَينه, استحيا منه أن يُشهد عليه, استحيا منه أن يطلب رهاناً مقبوضة, استحيا منه لظاهر صلاحه وتقواه, كيف يوثِّق دَينه وهو الذي يراه من حيث الظاهر تقياً نقياً صالحاً ..
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيا عباد الله: لقد أكرمنا الله -تعالى- بشريعة كلُّها خيرٌ ورحمةٌ، ومنفعةٌ للبشرية في دنياهم وآخرتهم, لمن قَبِلَها وآمن بها والتزمها, هذه الشريعة تدعو المؤمن؛ لأن يكون متخلِّقاً بالسماحة في معاملته مع خلق الله -تعالى-؛ لأن السماحة تقوي الإيمان, وتُضاعف الثوابَ عند الله -تعالى-, وتشدُّ أزر العباد, وتجعل المحبةَ بين الأفراد, والمودةَ والرحمةَ في قلوب العباد.
نعم, لقد أكرمنا الله -تعالى- بهذا الدين الحنيف الذي قال فيه الحبيب -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ" [رواه البخاري].
وقد دعانا سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- إلى التسامح في المعاملات التجارية, فقال: "أفضل المؤمنين رجل سمح البيع، سمح الشراء، سمح القضاء، سمح الاقتضاء" [رواه الطبراني في الأوسط].
أيها الإخوة الكرام: البيع تبادل منافع بين الأفراد, هذا يبذل سلعته, وهذا يبذل قيمتها, وقد حرص الإسلام على سلامة العلاقة بين العباد, لذلك شرع لهم توثيق المعاملات فيما بين بعضهم البعض, وخاصة في مسألة المداينة.
يا عباد الله: إن أطول آية في كتاب الله -تعالى- هي آية المداينة, حيث ذكر الله -تعالى- فيها طرق توثيق الدَّين.
الطريق الأول: وثِّق دَينك بالكتابة, قال تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) [البقرة:282].
الطريق الثاني: إذا لم توثِّق دَينك بالكتابة, وثِّقه بالشهود, وذلك لقوله تعالى: (وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ) [البقرة:282].
الطريق الثالث: إذا لم تكتب ولم تُشهد فخذ رهناً مقبوضاً, قال تعالى: (وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ) [البقرة:282].
وإذا أردت أن لا توثِّق معاملاتك التجارية وديونك فلا حرج عليك, وهذا دليل على حسن ظنِّك وسماحتك, قال تعالى: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ) [البقرة:282] فإما أن توثِّق وإما أن تثق, فلك الخيار.
فإن وثَّقت دَينك بالكتابة أو بالشهود أو بالرهان المقبوضة فلا حرج عليك, وإن وثِقْتَ بدين وتقوى وصلاح من تعامله فلا حرج عليك.
معشر المسلمين: أتوجَّه إلى المؤتمنِ المَدينِ الذي وَثِقَ به الدائنُ, فأحسن الظن به, واستحيا منه أن يكتب عليه كتاباً يوثِّق به دَينه, استحيا منه أن يُشهد عليه, استحيا منه أن يطلب رهاناً مقبوضة, استحيا منه لظاهر صلاحه وتقواه, كيف يوثِّق دَينه وهو الذي يراه من حيث الظاهر تقياً نقياً صالحاً, من روَّاد المساجد, محافظاً على الجمعة والجماعة, من أهل الذكر, من أهل تلاوة القرآن, ممن صاحب العلماء والأتقياء والصلحاء؟ كيف لا يأمنه؟
أتوجَّه إلى المؤتمن المَدين وأقول له: يا عبد الله, لقد توسَّم الدائنُ بك خيراً, فاعتمد على ظاهر صلاحك, أناشدك الله أن لا تخيِّب ظنَّه, أناشدك الله أن تكون أهلاً لحمل الأمانة, أناشدك الله أن تكون تقياً نقياً حقيقةً, وأذكِّرك -يا أيها المؤتمن المَدين- بما يلي:
أولاً: لا تنس قول الله -تعالى-: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ) [البقرة:282].
كن أهلاً لتحمُّل الأمانة وأدائها, استحضر الآخرة, واحذر الخيانة؛ لأن الخيانة سبب لضياع الدين, فلا تكن ممن باع دينه بعرض من الدنيا قليل, واسمع ما يقول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ, وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ" [رواه أحمد].
وكن حذِراً من أن يكون فيك وصف المنافقين, فرسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- يقول في وصفهم: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ, وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ, وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ" [رواه البخاري ومسلم].
تذَّكر قول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال:27].
ثانياً: تذكَّر -أيها المُؤتمنُ المَدين- قول الله خلقك فسوَّاك فعدلك, في أيِّ صورة ما شاء ركَّبك, إذ يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) [النساء:29].
تذكَّر بأنَّ الدائنَ اعتمد على صلاحك فلم يكتب عليك كتاباً, ولم يُشهد عليك, ولم يطلب منك رهاناً مقبوضة, فاحذر أن تأكل ماله بالباطل, ومن صور أكل المال بالباطل:
1- المماطلة بسداد الدَّين مع القدرة على سداده, ورسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- يقول: "مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ" [رواه البخاري ومسلم].
ويقول -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "لَيُّ الوَاجِدِ يُحِلُّ عُقُوبَتَهُ وَعِرْضَهُ" [رواه البخاري].
2- جحود الحقِّ الذي عليك؛ لأن الدائن ما كتب وما أشهد وما أخذ رهناً فلا بيِّنة عنده, فالجحود صورة من صور أكل أموال الناس بالباطل, وخاصة إذا أكَّد الجاحد جحوده بيمين كاذبة -والعياذ بالله -تعالى-.
3- اللحن في الحجة, كم وكم من أناس أكلوا أموال الناس بالباطل بلحنهم بحجتهم, ليسمع هذا الصنف من الناس ما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن رافع عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: جَاءَ رَجُلانِ مِنْ الأَنْصَارِ يَخْتَصِمَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَوَارِيثَ بَيْنَهُمَا قَدْ دُرِسَتْ, لَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ, وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ, وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ -أَوْ قَدْ قَالَ لِحُجَّتِهِ- مِنْ بَعْضٍ, فَإِنِّي أَقْضِي بَيْنَكُمْ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ, فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلا يَأْخُذْهُ, فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ, يَأْتِي بِهَا إِسْطَامًا فِي عُنُقِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ", فَبَكَى الرَّجُلانِ وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: حَقِّي لأَخِي, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَمَا إِذْ قُلْتُمَا فَاذْهَبَا فَاقْتَسِمَا, ثُمَّ تَوَخَّيَا الحَقَّ, ثُمَّ اسْتَهِمَا, ثُمَّ لِيَحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ".
معنى: "إسطاماً" هي الحديدة التي تحرك بها النار وتسعَّر, أي أقطع له ما يُسْعر به النار على نفسه ويُشعلها.
احذر -يا أخي- أكلَ أموال الناس بالباطل بلحنك بحجَّتك, ولو قضى لك القاضي بذلك؛ لأنك أدرى بنفسك من القاضي, وقضاء القاضي لا يُحلُّ لك الحرام, هذا إذا قضى القاضي بالحق الذي ظهر له؛ فكيف إذا تواطأت معه؟
ليسمع القضاة المرتشون الذين يأكلون أموال الناس بالباطل, ويجعلون الحلال حراماً, والحرام حلالاً, ليسمع هؤلاء حديثَ سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "القُضَاةُ ثَلاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ, وَقَاضٍ فِي الجَنَّةِ, رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الْحَقِّ فَعَلِمَ ذَاكَ فَذَاكَ فِي النَّارِ, وَقَاضٍ لا يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ فِي النَّارِ, وَقَاضٍ قَضَى بِالحَقِّ فَذَلِكَ فِي الجَنَّةِ" [رواه أبو داود والترمذي].
أيها القضاة: كلوا ما شئتم من الحرام, واقلبوا الحقائق كما شئتم, وخذوا الرشوة, وعسِّروا الأمور على أصحاب الحق, وماطلوهم في إصدار الحكم, ولكن تذكَّروا قول الله -تعالى-: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَد * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) [الفجر:23-26].
4- التضييق على الدائن حتى يضع من دينه, وكم من مَدين ضَيَّق على دائنه حتى ألجأه إلى أن يضع عنه من دينه, وهذا من أكل أموال الناس بالباطل.
ثالثاً: تذكَّر -أيها المُؤتمَنُ المَدينُ- بأن الأصل في أموال الآخرين الحرمة, وذلك لقوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: "فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ, كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا, فِي شَهْرِكُمْ هَذَا, فِي بَلَدِكُمْ هَذَا" [رواه البخاري ومسلم].
فإذا أكلت أموال الآخرين بالباطل فتذكر قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "كلُّ لحمٍ نَبَتَ منْ سُحْتٍ، فالنارُ أولى به" [رواه الطبراني].
رابعاً: تذكر -أيها المُؤتمنُ المَدينُ- قولَ سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ هَمَّهُ قَضَاؤُهُ, أَوْ هَمَّ بِقَضَائِهِ, لَمْ يَزَلْ مَعَهُ مِنْ اللَّهِ حَارِسٌ" [رواه الإمام أحمد].
وتذكر قوله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَنْوِي قَضَاءَهُ، فَمَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً, تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَرْضَى صَاحِبَ الدِّينِ بِمَا شَاءَ، وَعِنْدَ اللَّهِ رِضَاهُ" [رواه الطبراني].
وتذكَّر قوله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ, وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ" [رواه البخاري].
خامساً: تذكَّر -أيها المُؤتمنُ المَدينُ- يوم القيامة بأنه ليس فيه دينار ولا درهم, بل هي الحسنات والسيئات, يقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دِينَارٌ أَوْ دِرْهَمٌ قُضِيَ مِنْ حَسَنَاتِهِ, لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ" [رواه ابن ماجه والطبراني].
ويقول -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "أَيُّمَا رَجُلٍ يَدِينُ دَيْنًا, وَهُوَ مُجْمِعٌ أَنْ لا يُوَفِّيَهُ إِيَّاهُ, لَقِيَ اللَّهَ سَارِقًا" [رواه ابن ماجه والطبراني].
أيها الإخوة الكرام: ضيق الدنيا أهون من ضيق الآخرة, والصبر على ألم الدنيا أهون من الصبر على نار جهنم, وخسارة الدنيا خير من خسارة الدين, فيا أيها المُؤتمنُ المَدين! يا من وَثِقَ الدائن بأمانتك وبصلاحك وبلحيتك وبأيمانك وبوعدك: تذكَّر قول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6].
اعتبروا -يا عباد الله- ممن مات وهو ظالم قد عاث في الأرض فساداً, وسفك الدماء, وأكل أموال الناس بالباطل, وانتهك حرمات الله, ومنع الناس حقوقَهم, انظروا إلى خاتمتهم, انظروا إلى الذُّلِّ بعد العِزِّ, وتذكَّروا قول الله -تعالى-: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيم * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُون * كَغَلْيِ الْحَمِيم * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيم * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيم * ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان:43-49].
نعوذ بالله من الذلِّ بعد العِزِّ, ونعوذ بالله من المعصية بعد الطاعة, ونعوذ بالله من أن نردَّ إلى أرذل العمر.
أقول هذا القول, وأستغفر الله العظيم لي ولكم, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي