المعين على تحمل المحن

أحمد شريف النعسان
عناصر الخطبة
  1. الابتلاء بالمنح والمحن .
  2. وسائل تخفيف ألم المحن .
  3. نظرة المؤمن للمحن وأهمية الاستفادة منها .

اقتباس

كلُّنا يَعلمُ بِأَنَّ اللهَ -تعالى- ما خَلَقَنَا في هذِهِ الحياةِ الدُّنيا إلا للاختبارِ والابتلاءِ, والاختبارُ والابتلاءُ تارةً يكونُ بالعطاءِ، وتارةً يكونُ بالمنعِ, وتارةً يكونُ بالنِّعمةِ، وتارةً يكونُ بالنِّقمَةِ, ولا يَسَعُ العبدَ إلا التَّحَقُّقُ بالعبوديَّةِ للهِ -عزَّ وجلَّ-, والانضباطُ بضوابطِ الشريعةِ في ..

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيا عباد الله: كلُّنا يَعلمُ بِأَنَّ اللهَ -تعالى- ما خَلَقَنَا في هذِهِ الحياةِ الدُّنيا إلا للاختبارِ والابتلاءِ, والاختبارُ والابتلاءُ تارةً يكونُ بالعطاءِ، وتارةً يكونُ بالمنعِ, وتارةً يكونُ بالنِّعمةِ، وتارةً يكونُ بالنِّقمَةِ, ولا يَسَعُ العبدَ إلا التَّحَقُّقُ بالعبوديَّةِ للهِ -عزَّ وجلَّ-, والانضباطُ بضوابطِ الشريعةِ في سائِرِ أحوالِهِ.

فإذا كانَ الاختبارُ والابتلاءُ بالعطاءِ والنِّعمةِ, وَجَبَ على العبدِ الشُّكرُ, وأمَّا إذا كانَ بالمنعِ والنِّقمَةِ, فَيَجِبُ عليهِ الصَّبرُ.

أيُّها الإخوة الكرام: لقد مرَّت علينا سَنَةٌ كامِلَةٌ ونحنُ في امتحانٍ ومِحنةٍ عظيمةٍ, والكلُّ يعلمُ بأنَّ المؤامَرَةَ على الإسلامِ والمسلمينَ, والشِّدَّةُ في هذه المِحنَةِ قد أَوْدَتْ بالمُهَجِ, وكادَ البعضُ أن يُفتنَ في دينِهِ -والعياذُ باللهِ تعالى- وهذا أمرٌ ليسَ بغريبٍ على العبدِ إذا ضَعُفَ إيمانُهُ.

نسألُ الله -تعالى- أن يُثَبِّتنا بالقولِ الثابِتِ في الحياةِ الدنيا وفي الآخرةِ.

يا عباد الله: إذا أَرَدنَا أن نُخَفِّفَ عن أنفُسِنا أَلَمَ وشِدَّةَ المِحَنِ والابتلاءاتِ فَعَلَينَا بأمرينِ اثنينِ:

الأمرُ الأوَّلُ: هو التماسُ المِنحَةِ في المِحنَةِ؛ لأنَّ سنَّةَ الله -تعالى- في عبادِهِ المؤمنينَ أنَّهُ ما يمتحِنُهُم إلا ليُعطِيَهُم, وما عوَّدَ ربُّنا -جلَّ وعلا- عبادَهُ المؤمنينَ إلا خيراً, قال تعالى: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان:20].

قالَ بعضُ العلماءِ: "النِّعمةُ الباطِنَةُ، هي التي جاءت في ثوبِ مُصيبةٍ ومِحنَةٍ".

وهذا ما أكَّدَهُ سيِّدُنا رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- بقوله: "عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ, إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ, وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ, إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ, وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ" [رواه مسلم].

لذلكَ وَجَبَ على العبدِ المؤمنِ أن يبحثَ عنِ المِنحَةِ من خلالِ المِحنَةِ؛ لأنَّ ربَّنا -عزَّ وجلَّ- يقول: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) [البقرة:216]، ويقول: (فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) [النساء:19].

يا عباد الله: اقرؤوا قصَّةَ سيِّدِنا يوسفَ -عليه السلام- في القرآنِ العظيمِ؛ لتعرفوا بأنَّ المِحنَةَ في ضمنِها المِنحَةُ, عندما أرادَ اللهُ -تعالى- أن يُمَكِّنَهُ في الأرضِ, جَعَلَ طريقَ الوصولِ إلى ذلكَ المِحنَةَ, فكانت المِحنَةُ متدرِّجَةً:

أولاً: حَقَدَ عليهِ إخوتُهُ, وأرادوا أن يُفَرِّقوا بينَهُ وبين أَبَوَيهِ فجعلوهُ في غيابَةِ الجُبِّ, ونَسِيَ هؤلاء قولَ اللهِ -تعالى-: (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [يوسف:21].

ثانياً: جاءت سيَّارةٌ -قومٌ سائِرونَ في الطريقِ- وأخذوا سيِّدَنا يوسُفَ -عليه السلام- من الجُبِّ وجعلوهُ من جُملةِ البِضاعةِ, وباعوهُ بِثَمَنٍ بَخسٍ, قال تعالى: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) [يوسف:20].

ثالثاً: بِيعَ سيِّدُنا يوسفُ -عليه السلامُ- لعزيزِ مِصرَ, وقال لامرأتِهِ: (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) [يوسف:21].

رابعاً: وجاءتِ المِحنَةُ القاسيَةُ, مِحنَةُ النساءِ, ولكنَّ سيِّدَنا يوسفَ -عليه السلام- جَعَلَ شِعارَهُ في ذلك: (مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) [يوسف:23].

وحَفِظَهُ اللهُ -تعالى- من شرِّها, بل قال: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف:33].

وأخيراً: جَاءَتِ المِنحَةُ بعدَ المِحنَةِ:

يا عبادَ الله: بعدَ هذِهِ المِحنَةِ القاسِيَةِ, جاءَ دورُ المِنحَةِ الإلهيَّةِ, أَلا وهيَ: التَّمكِينُ في الأرضِ, فلو أَرادَهَا سيِّدُنا يوسفُ -عليه السلام- بِنَفسِهِ ربَّما كانَ لا يَصِلُ إليها, ولكنْ تدبيرُ اللهِ -تعالى- أغناهُ عن ذلك, وصَدَقَ اللهُ -تعالى- القائِلُ: (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [يوسف:21].

فَقَالَ المَلِك لسيِّدِنا يوسفَ -عليه السلام-: (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ) [يوسف:54].

لا -أيُّها المَلِكُ- لا -أيُّها الحاكِمُ- أنتَ لا تَستَطيعُ أن تُمَكِّنَ أحداً في مَملَكَتِكَ, فأنتَ ومَملَكَتُكَ مُلكٌ للهِ -تعالى-, فالذي مَكَّنَكَ إنَّما هو اللهُ -تعالى-, ولو شَاءَ لَنَزَعَ عَنكَ المُلكَ, قال تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:26]، فإذا كان هذا في حقِّكَ؛ فكيفَ بمن هو تحتَ يَدِكَ؟

لذلكَ وَجَبَ على كلِّ من يَعمَلُ تحتَ يدِ مَلِكٍ من المُلوكِ أو رَئِيسٍ من الرُّؤَساءِ أن يعلَمَ أنَّ المُمَكِّنَ الحَقِيقِيَّ إنَّما هوَ اللهُ -تعالى-, فَمَلِكَ مِصرَ عندما قالَ لسَيِّدِنا يوسفَ -عليه السلام-: (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ) [يوسف:54].

قال تعالى مبيِّناً الحقيقة: (وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ) [يوسف:56].

وأنا أقولُ للشَّبابِ -يا شبابَ هذهِ الأمَّةِ-: اِعلموا عِلمَ اليقينِ بأنَّ تدبيرَ اللهِ هو خيرٌ من تدبيرِ العبادِ, ورَحِمَ اللهُ من قال: تَدبِيرِي تَدمِيرِي, وتَدبِيرُهُ تَعمِيرِي, فلا تضيقوا ذرعاً من المِحنَةِ إذا كنتم ملتزمينَ دينَ الله -تعالى-. فإنَّ من خلالِها ومن ورائِها مِنحَةً, قال تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح:5-6].

اِعلموا -يا شبابَ هذهِ الأمَّةِ- بأنَّ دِينَكم مَحفوظٌ, وأنَّ الأمَّةَ محفوظَةٌ, ولكِنَّ الخوفَ على أنفُسِنا أن نُفتَنَ في دينِنَا لا قدَّرَ اللهُ -تعالى-, لذلكَ اجعَلُوا شِعَارَكم أَمَامَ جميعِ الفتن: (مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) [يوسف:23].

اُثبُتُوا على الحقِّ, ولا تَخافُوا ولا تَحزَنوا إذا كنتُم مَعَ اللهِ -تعالى-, فَإِن آلَمَتكُم المِحنَةُ فَتَذكَّرُوا قولَ اللهِ -تعالى-: (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [يوسف:21] كم بِعَرَضٍ من الدنيا, فَضلاً عن أن تبيعُوهُ بدنيا غيرِكُم

الأمرُ الثاني: هو التَّبَرُّؤُ من الحولِ والقوَّةِ والتَّدبِيرِ:

أيُّها الإخوة الكرام: أمَّا الأمرُ الثاني المُعينُ على تحمُّلِ المِحَنِ, فهو: التَّبَرُّؤُ من الحولِ والقوَّةِ والتَّدبِيرِ إلى حَولِ اللهِ -تعالى- وقوَّتِهِ وتَدبِيرِهِ.

يَجِبُ علينا أن نتبرَّأَ من حَولِنا وقوَّتِنا وتَدبِيرِنا, بعد التَّبَرُّؤِ من اليَهودِ والنَّصارى, ومنَ المنافقينَ الذين بَاعُوا دينَهُم بِعَرَضٍ من الدنيا, أو بَاعُوا دِينَهُم بِدُنيَا غَيرِهِم, ومِمَّن كَانُوا حَرِيصِينَ على كراسِيِّهِم.

يا عبادَ الله: يَجِبُ علينا أن نَتَبَرَّأَ أولاً مِمَّن قالَ الله فيهم: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة:120].

يَجِبُ علينا أن نَتَبَرَّأَ أولاً مِمَّن قالَ الله فيهم: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) [آل عمران:118].

ثمَّ بعدَ ذلك نَتَبَرَّأُ مِن حَولِنا وقوَّتِنا وتَدبِيرِنا إلى حَولِ اللهِ وقوَّتِهِ وتَدبِيرِهِ.

فإذا تبرَّأنا من حَولِنا وقوَّتِنا وتَدبِيرِنا إلى حَولِ اللهِ وقوَّتِهِ وتَدبِيرِهِ, فلا نُضامُ إن شاءَ اللهُ -تعالى- ولو اجتَمَعَت علينا أهلُ الأرضِ, فهذا هو سيِّدُنا رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- مَعَ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- وهما في الغارِ, يقولُ لِصاحِبِهِ: (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا) [التوبة:40]، ويقول له: "مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا" [رواه البخاري].

أيُّها الإخوة الكرام: اِسمَعوا إلى نَبأِ سيِّدِنا نوح -عليه السلام-, الذي اجتَمَعَت عليهِ أهلُ الأرضِ, وهوَ لوحدِهِ معَ ثمانينَ بين رجلٍ وامرأةٍ -كما جاءَ في بعضِ الرواياتِ-، قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ) [يونس:71]؛ فهل من مُعتَبِرٍ من قِصَّةِ سيِّدِنا نوحٍ -عليه السلام-؟ هل من قائِلٍ: (فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ) [يونس:71]؟

لقد تَبَرَّأَ سيِّدُنا نوحٌ -عليهِ السلام- من حَولِهِ وقوَّتِهِ وتَدبِيرِهِ إلى حَولِ اللهِ وقوَّتِهِ وتَدبِيرِهِ, ودعا بكلمةٍ واحدةٍ, فقال: (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ) [القمر:10].

فكانَتِ النَّتيجةُ قولَ الله ِ-تعالى-: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى المَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِر * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُر * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ * وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِر) [القمر:11-15].

أينَ الدعاءُ في هذهِ الأزمةِ؟

يا عبادَ الله: بكلمةٍ واحدةٍ قالها سيُّدُنا نوحٌ -عليه السلام-: (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِر).

جاءه الفَرَجُ والنَّصرُ, أمَّا نحنُ فلماذا لا يُستجابُ لنا؟ الكلُّ يدعو اللهَ -تعالى-, والناسُ في الحَرَمَينِ الشَّريفَينِ يدعونَ لأهلِ سوريا بجوارِ الكعبةِ المُشرَّفَةِ, وبِجوارِ الحبيبِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-, ولكن لا يُستَجابُ الدعاءُ, لماذا؟

اِسمحوا لي أن أقولَ وبِكُلِّ صراحةٍ: الدُّعاءُ جِهاراً نهاراً في بعضِ الأحيانِ صارَ خالِياً من الإخلاصِ؛ لأنَّهُ كانَ من أجلِ إِرضاءِ زيدٍ أو عمروٍ من النَّاسِ, ولو كنَّا صادِقينَ في الدُّعاءِ, وكَانَ الدُّعاءُ سِرَّاً, وفي وقتِ السَّحَرِ, وكانَ بِقَلبٍ صادِقٍ معَ الله -تعالى-, لَكانَ مُستجاباً.

نَعَم, سيِّدُنا نوحٌ -عليهِ السلام- دَعَا بقوله: (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِر).

فَاستجابَ اللهُ -تعالى- له؛ لأنَّهُ توكَّلَ على اللهِ -تعالى-, ولأنَّ دَعاءَهُ دُعاءُ العبدِ المُضطَرِّ, ولأنَّهُ تَبَرَّأَ من حَولِهِ وقوَّتِهِ وتَدبِيرِهِ, ولأنَّهُ كانَ مبتَعِداً عنِ الشُّبُهاتِ فضلاً عنِ الحرامِ.

قلبٌ صادِقٌ, وجَسَدٌ طاهِرٌ, وعَمَلٌ صالحٌ, ودُعاءُ مَضطَرٍّ, كيفَ لا يَستجِيبُ اللهُ -تعالى- لهُ, وهوَ القائِلُ: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) [النمل:62]؟

نَعَم, استجابَ اللهُ -تعالى- لسيِّدِنا نوح -عليه السلام-، وحَمَلَهُ على قِطَعٍ منَ الأخشابِ فوقَ موجٍ كالجِبالِ؛ كما قال تعالى: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ) [هود:42].

نَعَم, عينُ الله -تعالى- إذا رَعَتِ العبدَ فَحَدِّث بلا حَرَجٍ, فأينَ المعتبِرُ من قِصَّةِ سيِّدِنا نوحٍ -عليهِ السلام-؟

يا أمَّةَ سيِّدنا محمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-: فَتِّشُوا عن المِنحَةِ في ثَنايَا المِحنَةِ, وإيَّاكُم واليأسَ والقُنوطَ من رحمَةِ اللهِ -تعالى-, ثمَّ تَبَرَّؤُوا من حولِكُم وقوَّتِكُم وتَدبِيرِكُم إلى حَولِ اللهِ وقوَّتِهِ وتَدبِيرِهِ.

وتَذَكَّروا كلامَ سيِّدِنا عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- الذي كانَ ينظُرُ إلى المِحنَةِ بأنَّ في ثنايَاهَا مِنَحَاً كبِيرَةً, يقولُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: "ما أُصِبتُ بِمُصيبةٍ إلاَّ ونظرتُ أنَّ اللهَ -تعالى- أَنعَمَ عليَّ فيها بثلاثِ نِعَمٍ:

الأولى: أنَّ اللهَ -تعالى- هَوَّنَها عليَّ, ولم يُصبنِي بِأَعظَمَ مِنهَا, وَهُوَ قَادِرٌ عَلى ذَلِكَ.

والثانية: أنَّ اللهَ -تعالى- جَعَلَهَا في دُنيَايَ, ولم يَجعَلهَا في دِينِي, وَهُوَ قَادِرٌ عَلى ذَلِكَ.

والثالثة: أنَّ اللهَ -تعالى- يُثِيبُنِي عليها يومَ القيامَةِ.

وأخيراً يَقولُ سفيانُ الثوريُّ: "لَمْ يَفْقَهُ عِندَنَا مَنْ لَمْ يَعُدَّ البَلاءَ نِعمَةً, والرَّخَاءَ مُصِيبَةً" ا.هـ.

وهيَ كلمَةُ حقٍّ؛ لأنَّ الرَّخاءَ مَعَ الغَفلَةِ عنِ اللهِ -تعالى- مِن أعظَمِ المَصائِبِ, قال تعالى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 6- 7].

يا عبادَ الله: إذا كانت هذهِ المِحنَةُ التي تمرُّ علينا أيقَظَتنَا من غَفلَتِنا وأَرجَعَتنا إلى اللهِ -تعالى-, فَهِيَ واللهِ مِنحَةٌ مِن مِنَحِ اللهِ -تعالى-, وإلا فما بعدَهَا أعظَمُ -والعياذُ باللهِ تعالى-، ولا قدَّرَ الله -تعالى-.

اللَّهُمَّ لا تَجعَل مُصيبَتَنَا في دِينِنَا, ولا تَجعَلِ الدُّنيا أكبَرَ همِّنا, ولا مَبلَغَ عِلمِنَا, يا أرحَمَ الراحِمين.

أقول هذا القول, وأستغفر الله لي ولكم, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي