ولا تبطلوا أعمالكم

إبراهيم بن صالح العجلان
عناصر الخطبة
  1. حفظ الأعمال الصَّالحة بعد مواسم الخيرات .
  2. وجوب الحذر من محبطات الأعمال .
  3. ذكر بعض محبطات الأجور .
  4. عواقب الشرك والرياء .
  5. بيان خطورة الردة وذكر بعض صورها .
  6. بعض الأعمال الموجبة لذهاب الأجر .
  7. ذكر بعض المنكرات المسبِّبة لضياع الحسنات .
  8. الغبن والإفلاس الحقيقي .
  9. الحفاظ على صالح العمل مؤشر على تجذر التقوى. .

اقتباس

كَدَّ وَسَعَى، أَجْهَدَ نَفْسَهُ وَأَعْيَى، خَطَّطَ وَدَبَّرَ، وَرَسَمَ وَقَدَّرَ، يَرْصُدُ حِسَابَاتِه، وَيُدَقِّقُ في تِجَارَاتِه، قَدْ بَرَقَ في خَيَالِه أمانٍ وَأَحْلَاَمٍ، وَمَشْرُوْعَاتٍ وَأَرْقَامٍ، بَيْدَ أنَّ سِهَامَ المَصَائِبِ قَدْ طَرَقَتْهُ، فَذَهَبَ مَا جَمَعَهُ وَتَعَنَّاهُ، وَصَارَ سَرَاباً مَا أمَّلَهُ وَتَمَنَّاهُ، فَعَادَ مَعْدُوْمَاً لَا يَمْلِكُ مِن القُوْتِ إلَّا كَفَافَاً. لَا تَسَلْ بعدَ ذلكَ عنْ تَكَدُّرِ حَالِهِ، وَضِيْقِ صَدْرِهِ، وَتَتَابُعِ مَوَاجِعِهِ النَّفْسِيَّةِ، وَتَغَيُّرِ حَالَتِهِ الصِّحِّيَّة. وإِذا كانَ هذا كلُّه يَحْدُثُ مَعَ المتَاعِ العَابِرِ، والنَّعِيْمِ الزَّائِلِ، فَقُلْ لي بِرَبَّكَ كَيْفَ هَوَ الحالُ مَعَ الخسارةِ الحقيقةِ التي إنْ حَلَّتْ، حَلَّ مَعَها الشَّقَاءُ وَالعَنَاءُ.

الخطبة الأولى:

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:

كَدَّ وَسَعَى، أَجْهَدَ نَفْسَهُ وَأَعْيَى، خَطَّطَ وَدَبَّرَ، وَرَسَمَ وَقَدَّرَ، يَرْصُدُ حِسَابَاتِهِ، وَيُدَقِّقُ فِي تِجَارَاتِهِ، قَدْ بَرَقَ فِي خَيَالِهِ أَمَانٌ وَأَحْلَامٌ، وَمَشْرُوعَاتٌ وَأَرْقَامٌ، بَيْدَ أَنَّ سِهَامَ الْمَصَائِبِ قَدْ طَرَقَتْهُ، فَذَهَبَ مَا جَمَعَهُ وَتَعَنَّاهُ، وَصَارَ سَرَابًا مَا أَمَّلَهُ وَتَمَنَّاهُ، فَعَادَ مَعْدُومًا لَا يَمْلِكُ مِنَ الْقُوتِ إِلَّا كَفَافًا. لَا تَسَلْ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ تَكَدُّرِ حَالِهِ، وَضِيقِ صَدْرِهِ، وَتَتَابُعِ مَوَاجِعِهِ النَّفْسِيَّةِ، وَتَغَيُّرِ حَالَتِهِ الصِّحِّيَّةِ.

وَإِذَا كَانَ هَذَا كُلُّهُ يَحْدُثُ مَعَ الْمَتَاعِ الْعَابِرِ، وَالنَّعِيمِ الزَّائِلِ، فَقُلْ لِي بِرَبِّكَ كَيْفَ هَوَ الْحَالُ مَعَ الْخَسَارَةِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي إِنْ حَلَّتْ حَلَّ مَعَهَا الشَّقَاءُ وَالْعَنَاءُ.

فَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ضَيَاعِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَمَا أَحْوَجَنَا أَنْ نَصُونَ أَعْمَالَنَا وَأُجُورَنَا مِنَ الْخَطَايَا الْمُبْطِلَةِ أَوِ الْمُقَلِّلَةِ.

يَتَأَكَّدُ الْحَدِيثُ عَنْ حِفْظِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَعْدَ مَوَاسِمِ الْخَيْرَاتِ الَّتِي كَسَبَ فِيهَا الْعِبَادُ كُلَّ هُدًى وَرَشَادٍ، فَحِفْظُ الْعَمَلِ بَعْدَ الْعَمَلِ سَعْيٌ صَالِحٌ مَبْرُورٌ، وَهُوَ مُؤَشِّرٌ عَلَى لُزُومِ الِاسْتِقَامَةِ، وَحُسْنِ الِاسْتِجَابَةِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) [مُحَمَّدٍ: 33].

إِنَّ الِاحْتِرَاسَ مِنَ الْخَطِيئَاتِ وَالشُّرُورِ، الَّتِي تُبَدِّدُ السَّعْيَ وَالْأُجُورَ، سُنَّةٌ سَنَّهَا لَنَا الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حِينَ قَالَ: "كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ؛ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي" "خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ".

إِنْ سَأَلْتُمْ عَنْ أَعْظَمِ السَّيِّئَاتِ الَّتِي تَهْدِمُ الْعَمَلَ، وَتَجْعَلُهُ هَبَاءً مَنْثُورًا هِيَ تِلْكَ الْخَطِيئَةُ الَّتِي سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى ظُلْمًا عَظِيمًا، الشِّرْكُ بِاللَّهِ، أَعْظَمُ فَسَادٍ وَإِفْسَادٍ فِي الْأَرْضِ، لَا يُقْبَلُ لِصَاحِبِهِ طَاعَةٌ، وَلَا تَنْفَعُهُ قُرْبَةٌ (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النِّسَاءِ: 48].

وَمِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ: أَنْ يَصْرِفَ الْعَبْدُ شَيْئًا مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَمَنْ دَعَا غَيْرَ اللَّهِ، أَوْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، أَوْ نَذَرَ وَاسْتَغَاثَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ، وَضَلَّ سَعْيُهُ (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الْأَنْعَامِ: 88].

مُرَاءَاةُ الْمَخْلُوقِينَ، وَتَسْمِيعُ النَّاسِ بِالْأَعْمَالِ وَالْقُرَبِ عَمَلٌ طَالِحٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ، مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ الْحَقِّ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ الصَّحِيحِ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لِلْمُرَائِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: "اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً" "رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ".

بَلْ إِنَّ الرِّيَاءَ لَا يُحْبِطُ الْعَمَلَ فَقَطْ بَلْ يَجْعَلُهُ حَسْرَةً عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ هُنَاكَ سَعْيٌ أَعْظَمُ مِنْ عَمَلِ الْمُجَاهِدِ أَوِ الْعَالِمِ أَوِ الْمُنْفِقِ، هَؤُلَاءِ إِذَا فَسَدَتْ نِيَّاتُهُمْ وَأَرَادُوا مُرَاءَاةَ الْخَلْقِ -كَانُوا أَوَّلَ زُمْرَةٍ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، كَمَا صَحَّ بِذَلِكُمُ الْخَبَرُ عَنْ سَيِّدِ الْبَشَرِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

عِبَادَ اللَّهِ: تَرْكُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَهِجْرَانُ التَّنَاصُحِ وَكُرْهُ أَهْلِهِ أَسْبَابٌ لِحُلُولِ سَخَطِ اللَّهِ عَلَى الْمُجْتَمَعَاتِ، وَلِعَائِنُ اللَّهِ -تَعَالَى- وَسَخَطُهُ تَنَزَّلَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَارْتِكَابُ مَا يُسْخِطُ الْجَبَّارَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ حُبُوطِ الْعَمَلِ يَقُولُ تَعَالَى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) [مُحَمَّدٍ: 28].

وَحِينَمَا تَفْسَدُ النُّفُوسُ بِالْهَوَى، وَتُخَالِفُ فِطْرَةَ اللَّهِ، فَتَكْرَهُ تَشْرِيعَاتِ الدِّينِ، وَشَعَائِرَ الْإِسْلَامِ أَوْ تُبْغِضُ شَيْئًا مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ السُّنَنِ الْقَوْلِيَّةِ أَوِ الْعَمَلِيَّةِ، فَهَذَا مِنْ أَخْطَرِ الْأَبْوَابِ الْمُؤْذِنَةِ بِبُطْلَانِ الْعَمَلِ، يَقُولُ سُبْحَانَهُ عَنْ أُولَئِكَ الْكَارِهِينَ لِلشَّرْعِ وَأَحْكَامِ الْمِلَّةِ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) [مُحَمَّدٍ: 9].

لَا يَجْتَمِعَانِ؛ الْإِيمَانُ، وَبُغْضُ شَيْءٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ سَيِّدُ وَلَدِ عَدْنَانَ (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النِّسَاءِ: 65].

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: الرِّدَّةُ عَنِ الدِّينِ تَجُبُّ كُلَّ عَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَهَا، وَلِخَطَرِهَا وَعِظَمِ جُرْمِهَا عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ وَالدِّينِ حَذَّرَ مِنْهَا الْعُلَمَاءُ فِي كُتُبِ الْعَقَائِدِ وَالْفِقْهِ.

وَمِنَ الرِّدَّةِ إِنْكَارُ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، كَمَنْ يُبِيحُ تَرْكَ الصَّلَاةِ أَوْ تَرْكَ الزَّكَاةِ، وَكَمَنَ يُصَحِّحُ عَقَائِدَ الْكُفَّارِ، أَوْ يَدَّعِي جَوَازَ التَّدَيُّنِ بِغَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَكَذَا مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الشِّعَارَاتِ الضَّالَّةَ كَالْعَلْمَانِيَّةِ أَوِ اللِّيبْرَالِيَّةِ أَوِ الرَّأْسِمَالِيَّةِ أَوِ الِاشْتِرَاكِيَّةِ خَيْرٌ مِنْ تَشْرِيعَاتِ الْإِسْلَامِ فِي نَهْجِ الْحَيَاةِ.

وَمِنَ الرِّدَّةِ أَيْضًا: انْتِقَاصُ شَعَائِرِ الدِّينِ أَوْ نَهْجِ الْإِسْلَامِ فِي التَّشْرِيعِ، أَوِ الزَّعْمُ بِأَنَّ تَطْبِيقَ الشَّرِيعَةِ لَا يَتَوَاكَبُ مَعَ تَطَوُّرِ الْبَشَرِ؛ فَهَذَا فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ مَا هُوَ إِلَّا طَعْنٌ فِي الْإِسْلَامِ وَاتِّهَامُهُ بِأَنَّهُ مَنْهَجٌ نَاقِصٌ قَاصِرٌ.

وَمِنْ أَخْطَرِ أَبْوَابِ الرِّدَّةِ وَأَسْرَعِهَا: الِاسْتِهْزَاءُ بِشَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَالسُّخْرِيَةُ بِأَحْكَامِ الدِّينِ، يَقُولُ تَعَالَى عَنْ قَطِيعِ الْمُسْتَهْتِرِينَ: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [التَّوْبَةِ: 65 - 66].

فَمَنْ أَتَى بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّدَّةِ الْعَمَلِيَّةِ أَوِ الْقَوْلِيَّةِ أَوِ الِاعْتِقَادِيَّةِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ، يَقُولُ سُبْحَانَهُ رَابِطًا بَيْنَ الرِّدَّةِ وَخُسْرَانِ الْعَمَلِ: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الْمَائِدَةِ: 5].

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَإِذَا سَادَ الْعُجْبُ فِي نَفْسِ الْمَرْءِ فَتَزَاهَى [[فَتَبَاهَى]] بِعَمَلِهِ، وَطَفِقَ يَرْمِي الْآخَرِينَ الْمُذْنِبِينَ الْمُقَصِّرِينَ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِرَحْمَةِ اللَّهِ أَوْ مَغْفِرَتِهِ، فَهَذَا رَجْمٌ بِالْغَيْبِ وَتَدَخُّلٌ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَصَاحِبُ هَذَا الْجُرْمِ قَدْ أَتَى بَابًا مِنْ أَبْوَابِ خُسْرَانِ الْعَمَلِ، رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلَانٍ. فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَلَّا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ".

وَمِنَ الْأَعْمَالِ الْمُوجِبَةِ لِذَهَابِ الْأَجْرِ: تَرْكُ صَلَاةِ الْعَصْرِ، رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ بُرَيْدَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ".

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "التَّرْكُ نَوْعَانِ: تَرْكٌ كُلِّيٌّ، لَا يُصَلِّيهَا أَبَدًا، فَهَذَا يُحْبِطُ الْعَمَلَ جَمِيعَهُ، وَتَرْكٌ مُعَيَّنٌ، فِي يَوْمٍ مُعَيَّنٍ، فَهَذَا يُحْبِطُ عَمَلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَالْحُبُوطُ الْعَامُّ فِي مُقَابَلَةِ التَّرْكِ الْعَامِّ، وَالْحُبُوطُ الْمُعَيَّنُ فِي مُقَابَلَةِ التَّرْكِ الْمُعَيَّنِ".

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَحِينَمَا يَخْتَلُّ مِيزَانُ الِاعْتِقَادِ، وَتَخْتَلِطُ الْحَقَائِقُ بِالْخُرَافَةِ فَيَضِلُّ الْعَبْدُ سَوَاءَ السَّبِيلِ، وَيَبْحَثُ عَنِ الْخَلَاصِ أَوِ الْعِلَاجِ عِنْدَ عَتَبَاتِ الْكُهَّانِ وَالْمُشَعْوِذِينَ، فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ رَدِّ الْعَمَلِ يَقُولُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً" "رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ".

هَذَا فِي مُجَرَّدِ السُّؤَالِ، أَمَّا تَصْدِيقُ خَبَرِهِ وَالْأَخْذُ بِكَلَامِهِ؛ فَهَذَا مُرُوقٌ مِنَ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ، يَقُولُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ"، "رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ".

الْمَنُّ خُلُقٌ سَافِلٌ، وَخَصْلَةٌ ذَمِيمَةٌ تُفْسِدُ الْإِحْسَانَ وَتُبْطِلُ الْأَعْمَالَ، وَلَيْسَتْ مِنْ أَخْلَاقِ أَهْلِ الْمُرُوءَةِ وَالْكَرَمِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى) [الْبَقَرَةِ: 264].

الْعَقْلُ نِعْمَةٌ رَبَّانِيَّةٌ لَا تُقَدَّرُ بِثَمَنٍ، وَحِينَمَا يَكْفُرُ الْمَرْءُ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ فَيُفْسِدُ عَقْلَهُ بِيَدِهِ فَقَدْ أَتَى خَطِيئَةً كَبِيرَةً وَبَابًا مِنْ أَبْوَابِ رَدِّ الْعَمَلِ فَفِي الْحَدِيثِ: "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا" "رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ".

وَمِنَ الْخَطَايَا الْمُبَدِّدَةِ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ أَيْضًا: عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَالتَّكْذِيبُ بِقَدَرِ اللَّهِ، يَقُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "ثَلَاثَةٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُمْ عَدْلًا وَلَا صَرْفًا: عَاقٌّ، وَمَنَّانٌ، وَمُكَذِّبٌ بِالْقَدَرِ" "رَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْمُنْذِرِيُّ وَالْأَلْبَانِيُّ".

وَمِنَ الْمُنْكَرَاتِ الْمُسَبِّبَةِ لِضَيَاعِ الْحَسَنَاتِ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي قَوْلِهِ: "ثَلَاثَةٌ لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ آذَانَهُمْ: الْعَبْدُ الْآبِقُ حَتَّى يَرْجِعَ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ، وَإِمَامُ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ" "خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ".

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْوَحْيَيْنِ، وَجَعَلَنَا مِنْ أَتْبَاعِ سَيِّدِ الثَّقَلَيْنِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَوِزْرٍ، فَتُوبُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا...

الخطبة الثانية:

أَمَّا بَعْدُ فَيَا إِخْوَةَ الْإِيمَانِ... وَتَبْلُغُ الْحَسْرَةُ غَايَتَهَا، وَالْأَلَمُ نِهَايَتَهُ حِينَمَا تَذْهَبُ حَسَنَاتُ الْعَبْدِ وَثَوَابُ عَمَلِهِ إِلَى مَوَازِينِ مَنْ لَمْ يَعْمَلُوهَا، فَهَذَا هُوَ الْغَبْنُ وَالْإِفْلَاسُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي حَذَّرَنَا مِنْهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهُوَ حَالُ الرَّجُلِ الَّذِي عَمِلَ وَنَصَبَ وَتَعِبَ، وَأَتَى بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَلَكِنْ أَتَى وَفِي عُنُقِهِ ظُلْمٌ وَبَغْيٌ، فَأَتَى "وَقَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُطْرَحُ فِي النَّارِ" "أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ".

وَأَخِيرًا -يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ- فَإِنَّ الْحِفَاظَ عَلَى صَالِحِ الْعَمَلِ مُؤَشِّرٌ عَلَى تَجَذُّرِ التَّقْوَى، وَصِدْقِ الْإِيمَانِ، وَجَنَّةُ الرَّحْمَنِ، إِنَّمَا تُورَثُ لِمَنْ عَمِلَ وَحَفِظَ عَمَلَهُ مِنَ الْبُطْلَانِ، (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الْأَعْرَافِ: 43].

تِلْكَ -عِبَادَ اللَّهِ- طُرَفٌ مِنْ سَيِّئِ الْأَفْعَالِ الَّتِي تُذْهِبُ صَالِحَ الْأَعْمَالِ، فَتَحَسَّسُوهَا وَاحْذَرُوهَا، وَافْقَهُوهَا وَاتَّقُوهَا، وَقَدِيمًا قَالَ الْحَمْدَانِيُّ أَبُو فِرَاسٍ:

عَرَفْتُ الشَّرَّ لَا لِلشَّـ *** رِّ لَكِنْ لِتَوَقِّيهِ

وَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ الشَّرَّ *** مِنَ النَّاسِ يَقَعْ فِيهِ

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي