مقام الشوق إلى الله

عمر القزابري
عناصر الخطبة
  1. أحوال المشتاقين إلى ربهم .
  2. من مشاهد الشوق النبوي .
  3. عِظَمُ مقام الشوق لله .
  4. في رحاب لحظة شوق .
  5. جولة في عالم المشتاقين .
  6. يوم المزيد ولقاء المشتاقين .

اقتباس

هذا الشوق الكبير إلى الحبيب لا يمكن وصفُه، فهي عبارات لا يفهمها إلا المشتاق، وأحاديثُ وترانيمُ لا تروق إلا للعُشّاق، بل هي أذواقٌ يعيشها المُحِبُّ وتسري في قلبه وروحه ووجدانه، فيستسهل كل صعب، ويسترخص كلَّ غالٍ ونفيس، يستعذب الموت شوقا إلى ربه، وطمعا في كرمه؛ ولقد كان من دعاء سيد المشتاقين -صلى الله عليه وسلم-: "وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة".

الخطبة الأولى:

الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا وراءه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُمّا، وبعث فيهم رسولاً من أن أنفسهم عربًا وعجمًا، وأزكاهم محتدًا ومنمى، وأشدهم بهم رأفة ورحمى، حاشاه عيبًا ووصمًا، وزكاه روحًا وجسمًا، وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.

معاشر الصالحين: المؤمن الصادق يمشي في أرض الله، يخالط الناس، يبيع ويشتري، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؛ لكن مستودع سره الذي هو قلبه يسيح في عالم من الملكوت، قد حلق بجناحي الشوق، ودخل جنة الدنيا على حين غفلة من أهلها.

دخل جنة الدنيا من بوابة الحب والشوق، فأهل الدنيا في تهاوشهم وتصارعهم، وهو بينهم بجسده، لكن قلبه يخترق الأعالي بطاقة الشوق إلى الله، قد ملأ الشوق شغاف قلبه، فتراه طوافا، حتى إذا وجد مجلس ذكر أوى إليه كما يأوي العطشان إلى الظل والري، يمشي محمولا على بساط شوقه، يقتفي آثار المحبين، ويبحث عن خيام المشتاقين، ويستلذ بمسامرة أهل الحب الذين أقاموا في بلاد الأشواق.

إذا نودي للصلاة سعى إليها سعي من لا يجد الأنس إلا في رحاب المناجاة، فالصلاة عنده صلة ووصل، ومعراج يعرج به إلى مخاطبة سيده الذي يجيبه: "هذا بيني وبين عبدي؛ ولعبدي ما سأل".

المشتاق لا يهدأ باله أبداً إلا عند ذكر مولاه، جلس في القصور وجالس الكبراء، ولو وضعت أمامه أطايب الطعام فهو منشغل عن ذلك كله بحبيبه وسيده وموجده، (وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ) [البقرة:165].

يُرخي الليل سدوله، ويخلو كل حبيب بحبيبه، وتسكن الأصوات، ويسدل الليل وشاحه، فينسل هذا المحب من فراشه، ويقوم يتوضأ، ثم يقف في محراب الحب، والمحراب جنة الأواب، وملاذ الأحباب، ونافذة الاقتراب، يناجي ربه، ويذرف دمعه، ويسجد فيدلف من بوابة سجوده إلى جنته، إلى أُنس روحه، يسبّح، فيجد للتسبيح طعما في قلبه يجعل من خفقاته خيوطا ينسج بها ثوب الحب والشوق.

فللمشتاق مع السجود قصة، فالسجود وسيلة الاقتراب الكبرى، قال -صلى الله عليه وسلم-: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"، فالمحب يستشعر هذا القرب، وتهب عليه من نسائمه ما يجعل قلبه يطير فرحا ونشوة.

يا لها من لحظات تحلق فيها الروح في آفاق السمو، وتطرق أبواب الملأ الأعلى، وتمتطي براق الأذواق والأشواق، قال -تعالى-: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [الزمر:9].

انظروا كيف قدم ربنا السجود في الآية على القيام، رغم أن مقتضى الترتيب أن القيام يسبق السجود، لكن ربنا هنا قدم الأقرب إليه؛ لأنه يخاطب المحبين والمشتاقين الذين يعبرون إلى هذه المعاني من بوابة السجود؛ لذلك ختم ربنا الآية بقوله: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)؟ أهل العلم بحق هم أهل المعرفة بالله، أهل الاشتياق إليه، سبحانه جل في علاه.

وهذا سيد المشتاقين وإمام المحبين سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت له مع السجود قصة، وأي قصة! قصة تكتب كلماتها بأحرف النور، قصة تنبيك عن حقيقة الشوق الأجلى، والوصل الأعلى، والتنعم الأحلى.

عن حذيفة -رضي الله عنه- قال -وتأملوا هذه المعاني الراقية، تأملوا هذه الجنة- قال: "صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت يركع عند المائة، ثم مضى فقلت يصلي بها في ركعة، فمضى فقلت يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحوا من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، ثم قام قياماً طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريباً من قيامه" رواه مسلم.

بالله عليكم أيها الفاضل! هل تستطيع تصور هذا المشهد؟ وأي عبارات ستوفي هذا الشوق حقه؟ لقد حلق -صلى الله عليه وسلم- في آفاق الكمال، تاركا الدنيا لأهلها، متصلا بربه، قد سمت روحه وشفت وارتشفت من فيوضات الأنس واللذات.

وهذه عائشة -رضي الله عنها- تنقل لنا مشهدا من مشاهد الشوق النبوي فتقول: فقدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة من الفراش، فالتمسته -أي: بحثت عنه- فوقعت يدي على بطن قدميه -يعني: وهو ساجد- وهو في المسجد، وهما منصوبتان، وهو يقول: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" رواه مسلم.

السجود -يا عباد الله- من أجلى عناوين الحب، ومن أطال السجود مناجيا ربه، طامعا خاضعا مُلحّاً على ربه، انهمر على جدب قلبه غيث الولاية، وتُحَف المعية، وهدايا العتق.

وفي يوم الحشر العظيم، يوم يقول الناس لرب العالمين، يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، يوم تخشع الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا، يوم يجمع الله الأولين والآخرين، يوم يقف الناس حفاة عراة غرلا، يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين، في هذا اليوم المشهود يأتي سجوده -صلى الله عليه وسلم- ليكون عنوانا لخلاص الناس مما هم فيه من الهم والكرب، وذلك حين يطول الوقوف بأهل المحشر تحت شمسٍ دنت حتى كادت تلامس رؤوسهم، وفي خضم عرق يُلجم بعضهم إلجاما، وفزع وأهوال وشدائد، فيقصد الناس الأنبياء لبذل الشفاعة عند ربهم لبدء الحساب، فيتراجع كل نبي عن هذا المقام، ويقول: "نفسي نفسي!"، حتى إذا أتوا محمدا -صلى الله عليه وسلم- قال: "أنا لها! أنا لها!"، فيأتي تحت العرش فيخر ساجدا لربه، مثنيا عليه بمحامد لم يسبق إليها، ولا تفتح على أحد بعده.

إنها سجدة الخلاص، سجدةُ أعظَمِ عبدٍ، وأصدق محب، وأكمل مشتاق، سجدة في أعظم موقف، فينادَى هذا المحب من لدن ربه: "يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع"، فيقول: "يا رب، أمتي أمتي!"؛ فتلوح تباشير الفرج.

إنها سجدة التخصيص والتخليص، التخصيص لمقام ختام الأنبياء، والتخليص لأهل الموقف مما هم فيه من الكرب والبلاء. إنها ثمار الشوق إلى الله.

وفي مشهد آخر من مشاهد أهل القيامة يتميز أصحاب الشوق والحب عن أصحاب الرياء والنفاق، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا"، يتوقف ظهره، لا يستطيع أن يسجد! رواه البخاري ومسلم. وهذا معنى قوله -تعالى-: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ) [القلم:42]. فيا الله! ما أعظم الفرق بين أهل الحب والشوق وأهل الغفلة والإعراض! بين أهل الاشتياق وأهل النفاق والشقاق!.

جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، آمين، آمين! والحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي ملأ قلوب العارفين شوقا إليه، وزهدهم في هذه الدار ورغبهم لما لديه، ولم يجعل قلوبهم أسيرة الهوى بل أطلقها في رحاب محبته، فبادرت إلى طاعته، فأكرمها بأن جعلها في معيته.

والصلاة والسلام على سيد المحبين، وإمام المشتاقين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

معاشر الصالحين: هل نشتاق إلى الله؟ هل نجد في لحظات المناجاة انطلاقا وانفكاكا من حبس هذه الأمشاج؟.

إن لحظة شوق واحدة هي لحظة إشراق تستنير فيها الروح من قبس الله، إن لحظة واحدة من هذه اللحظات التي تتحقق لأهل الشوق في ومضة صفاء لَيتضاءل إلى جوارها كل متاع؛ لأنها تتوج برضوان يغمر الروح، وتستشعره بدون انقطاع، فلا بد من فترات ينخلع فيها القلب من شواغل المعاش وجوانب الأرض ليخلو إلى ربه، ويتجرد لحبه، ويعبر عن شوقه، ويتذوق هذا الطعم الخاص.

إن الشوق إلى الله -أيها الأفاضل- هو مقام القرب، شاهِدُه الذي قال عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"؛ فمن تحقق به وذاق برد حلاوته فهو الفائز بالنعيم الأبدي والحياة الطيبة، فحياة المشتاقين إلى الله -تعالى- كلها لذة وجمال، فهم بذكر حبيبهم يتلذذون، وإلى مشاهدة جماله وجلاله يتطلعون، قد أحرق الشوق أضلعهم، وألهب أفئدتهم، فلا يقر لهم قرار، ولا يهنأ لهم بال، حتى يتملوا بالنظر إلى وجه ربهم، وقرة عيونهم.

بل بلغ الحال ببعضهم أن تمنوا الموت شوقا إلى ربهم؛ قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "أحب الموت اشتياقا إلى ربي"، وقال أحمد بن حامد لعبد الله بن المبارك: "رأيتُ في المنام أنك تموت إلى سنة"، يعني: بعد سنة، "فلو استعددت للخروج!"، فقال له عبد الله بن المبارك: لقد أجزلتنا إلى أمد بعيدٍ! أعيش أنا إلى سنة! لقد كان لي أنس بهذا البيت الذي سمعته من هذا الثقفي:

يا من شكا شوقه من طول فرقته *** اصبر لعلك تلقى من تحب غدا

وفي المواعظ لابن الجوزي أن بعض العابدات كانت تقول: "والله! لقد سئمت الحياة، ولو وجدت الموت يباع لاشتريته شوقاً إلى الله -تعالى- وحباً للقائه". فقيل لها: أَفَعَلَى ثقة أنت من عملك؟! فقالت: "لا، ولكن لحبي إياه وحسن ظني به اشتقت إلى لقياه، أفتراه يعذبني وأنا أحبه؟".

يا ناظر العين قل هل ناظرت عيني *** إليك يوماً وهل تدنو من البين؟

الله يعلم أني بعد فرقتكم *** كـطائر سلبوه من الجناحين

فلولا أنهم كانوا يتعللون باللقاء لقطعت أكبادهم شوقا، ولاشتعلت قلوبهم نارا، من فرط حبهم وتعلقهم بحبيبهم، حتى قال أحدهم:

لولا التعلل بالرجاء لقُطِّعَتْ *** نفْسُ المحبِّ صبابة وتشوقا    

ولقد يكاد يذوب منه قلبه *** مما يقاسي حسرة وتحرقا    

حتى إذا روح الرجاء أصابه *** سكن الحريق إذا تعلل باللقا

هذا الشوق الحارُّ، والحب الوقّاد، الذي فاضت به قلوب السالكين، وسالت به عبراتهم وعباراتهم... يروي القلوب المتعطشة لزلال الحضرة العلية، فيا لها من معان ورقائق لا يستشعرها إلا من هبت نسمات القرب من طول الانتظار ففاض قلبه حبا وشوقا! ولسان حاله:

من ذا يبشرني بيوم لقاء *** أعطيه من فرط السرور ردائي

لو لم أكن عبدا لكنت وهبته *** روحي وتلك هدية الفقراء

هذا الشوق الكبير إلى الحبيب لا يمكن وصفُه، فهي عبارات لا يفهمها إلا المشتاق، وأحاديثُ وترانيمُ لا تروق إلا للعُشّاق، بل هي أذواقٌ يعيشها المُحِبُّ وتسري في قلبه وروحه ووجدانه، فيستسهل كل صعب، ويسترخص كلَّ غالٍ ونفيس، يستعذب الموت شوقا إلى ربه، وطمعا في كرمه؛ ولقد كان من دعاء سيد المشتاقين -صلى الله عليه وسلم-: "وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة".

وما كانت الأيام تزيده -صلى الله عليه وسلم- إلا شوقا إلى ربه، فقد صعد المنبر في آخر حياته فقال: "إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ, فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ". فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-, وَقَالَ: "فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا!"، فَعَجِبْنَا لَهُ, وَقَالَ النَّاسُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ, وَهُوَ يَقُولُ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا! فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- هُوَ الْمُخَيَّرُ, وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمنَا بِهِ.

ثم ها هو -بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم- في آخر مشهد من حياته واضعا رأسه على صدر أحب الناس إليه في الدنيا من النساء، أمنا عائشة -رضي الله عنها- فيخيره جبريل -عليه السلام- بين الدنيا وبين لقاء الله، تقول عائشة: فرأيته رفع أصبعه ثم قال: "بل الرفيق الأعلى. بل الرفيق الأعلى. بل الرفيق الأعلى"، قالت: "فعلمت أنه لا يختارنا".

وكان يحيى بن معاذ -رحمه الله- يقول: " يخرج العارف من الدنيا ولا يقضي وطره من شيئين: بكاؤه على نفسه, وشوقه إلى ربه".

إذا كان حب الهائمين من الورى *** بليلى وسلمى يسلب اللب والعقلا

فماذا عسى أن يفعل الهائم الذي *** سرى قلبه شوقا إلى العالم الأعلى؟

وهذا أحد المشتاقين المحبين وهو عمير بن الحمام يسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يصيح في أصحابه في معركة بدر: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، والذي نفس محمد بيده! لا يقاتلهم  اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة"، فألقى عمير تمرات كانت بيديه وقال: "إنها لَحياةٌ طويلة حتى آكل هذه التمرات!"، فقاتل حتى قُتل.

إن عالم المشتاقين عالم عجيب ملؤه النور والبهاء، وملؤه السكينة والنقاء، وتكتنفه اللذة والهناء.

لما حضرت بلال بن رباح الوفاة وغشيته سكرات الموت قالت امرأته: "واكرباه!"، فقال لها بلال: "بل: وا فرحاه! غدا ألقى الأحبة: محمدا وحزبه".

هذا، وإنْ سألتَ عن يوم المزيد، وزيارة العزيز الحميد، ورؤية وجهه المنزه عن التشبيه والتمثيل، فاستمع يوم ينادي المنادي: يا أهل الجنة! يا أهل الجنة! إن ربكم -تبارك وتعالى- يستزيركم، فحيا على زيارته! فيقولون: سمعاً وطاعة!.

وينهضون إلى الزيارة مبادرين، فإذا بالنجائب قد أعدت لهم، فيستوون على ظهورها مسرعين، حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيح الذي جُعل لهم موعدا وجمعوا هناك فلم يغادر الداعي منهم أحدا، أمــــر الرب -تبارك وتعالى- بكرسيه فنصب هناك، ثم نصبت لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة، وجلس أدناهم على كثبان المسك وليس فيهم دني ما يرون أن أصحاب الكراسي فوقهم في العطايا.

حتى إذا استقرت بهم مجالسهم واطمأنت بهم أماكنهم نادى المنادي: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويزحزحنا عن النار؟ فبينما هم كذلك إذ سطع لهم نور أشرقت له الجنة، فرفعوا رؤوسهم فإذا الجبار -جل جلاله وتقدست أسماؤه- قد أشرف عليهم من فوقهم وقال: يا أهل الجنة، سلام عليكم. فلا ترد التحية بأحسن من قولهم: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام.

فيتجلى لهم الرب -تبارك وتعالى- يضحك إليهم ويقول: يا أهل الجنة! فيكون أول ما يسمعون منه: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني؟ فهذا يوم المزيد.

فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك ننظر إليك، فيكشف الرب -عز وجل- الحجب، ويتجلى لهم، فيغشاهم من نوره، وينسون كل نعيم عاينوه. ولولا أن الله -جل وعلا- قضى ألا يحترقوا لاحترقوا من نوره.

فيا لها من لحظات من رب سجد له الساجدون، وصام من أجله الصائمون! تراه رأي العين يخاطبك ويحتفي بك!.

اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي