إذا تخلق الإنسان بخلق الحياء، كان ذلك دليلاً على حسن أدبه وسلوكه وصلاح ظاهره، ونقاء سريرته، وكمال إيمانه، وحينما يفقد الإنسان خُلق الحياء ، يكون قد حُرِم خيرًا كثيرًا، وخسر خسرانًا مبينًا, فالحياء يدفع النفس والأعضاء إلى أن ينقبض عن القبيح، ويرتدع عن ارتكاب كل ما يشتهي، فلا يكون كبهيمة الحيوان, فالحياء أداة مانعة من ارتكاب المعاصي ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فاتقوه وراقبوه؛ لئلا تدابروا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا، ولا يبغي بعضكم على بعض، وحتى تكونوا عباد الله إخواناً.
أيها المسلمون: إن الإسلام دين خُلقي رفيع، يدعو إلى مكارم الأخلاق، ويبعث في النفس مشاعر الفضيلة. وقد بيّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الغاية من بعثته فقال: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق" وفي رواية: "مكارم الأخلاق"، إن الإسلام جاء محاربًا لكل الرذائل والمنكرات، محرمًا لسائر الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
وغاية الإسلام أن يقيم مجتمعًا فاضلاً، تنعدم فيه مظاهر الإثم والجريمة وأسباب الفحش والمنكر، بحيث يغدو هذا المجتمع نظيفًا من كل ما يدعو إلى الوقاحة والدناءة والفجور. ولقد كافح الإسلام طويلاً، في سبيل إقامة هذا المجتمع الطاهر، وجعل الحياء أساسه وعماده.
وخلق الحياء هو رأس الفضائل الخُلقية، وعماد الشعب الإيمانية، وبه يتم الدين، وتصلح الحياة، وتسود الفضيلة، وتنعدم أسباب الرذيلة.
وهومن أبرز الصفات التي تنأى بالمرء عن الرذائل، وتحجزه عن السقوط إلى سفاسف الأخلاق، وحمأة الذنوب، كما أن الحياء من أقوى البواعث على الفضائل وارتياد معالي الأمور.
والحياء صمام أمن لسائر الأخلاق، وهو فضيلة سامية تضبط إيقاع السلوك البشرى، وسياجٌ واقٍ يحمي القيم، ويحرس الأخلاق، ولهذا جاء في الحديث عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الحياء لا يأتي إلا بخير" [البخاري (6117)].
عباد الله: لقد رفع الإسلام شأن الحياء، وحثَّ على لزومه؛ باعتباره خُلُقَ الإسلام ورأس مكارم الأخلاق، فعن أنس، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن لكل دين خُلقًا، وخُلق الإسلام الحياء" [السلسلة الصحيحة للألباني (940)].
ومنزلة الحياء من الدين عظيمة؛ حيث يحتل شُعبة من شعب الإيمان، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أو بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لا إله إلاّ اللهُ، وَأَدْنَاهَا إماطَةُ الأذَى عَنِ الطَّريقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ" [مسلم (35)].
والحياء لا ينفك عن الإيمان؛ إذ هما من جنس واحد، ويؤديان مهمة ووظيفة واحدة ويحققان مقصدًا واحدًا. عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: "إِنَّ الْحَيَاءَ وَالْإِيمَانَ قُرِنَا جَمِيعًا، فَإِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الْآخَرُ" [صححه الألباني في تخريج المشكاة (5094)].
عباد الله: والحياء رؤية الآلاء وتعظيمها، ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء، والحياء خُلق عظيم لا يأتي إلا بخير. عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، وَكَانَ إِذَا كَرِهَ شَيْئًا عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ [البخاري (6102) ومسلم (2320)].
ويعني الحياء في بعض صوره مراقبة الله تعالى والخوف منه؛ استحياء منه، فهو يحجم عن فعل المحظور، ويحملك إلى فعل المأمور، قال الله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) [العلق:14]، وقال -جل وعلا-: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
وحقيقة الحياء: أنه خُلُق يبعث على ترك القبائح، ويمنع من التفريط في الطاعات والمحاسن، ويتولد من امتزاج التعظيم بالمودة.
وعلى حسب قوة حياة القلب تكون فيه قوة خُلق الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح، ومن استحى من الله مطيعًا، استحى الله منه وهو مذنب؛ لكرامته عليه، فيستحي أن يرى من وليه ومن يَكرم عليه ما يشينه عنده.
والحياء هو أفضل الأخلاق وأجلّها وأعظمها قدرًا، وأكثرها نفعًا، بل هو خاصة الإنسانية؛ فمن لا حياء فيه ليس معه من الإنسانية إلا اللحم والدم وصورتهما الظاهرة، ولولا خُلق الحياء لم يكرم الضيف, ولم يوفِّ بالعهد, ولم تؤد أمانة, ولم تُقضَ لأحد حاجة, ولا سُتر لأحد عورة, ولا آثر الجميل على القبيح من الأقوال والأعمال, ولا امتنع من فاحشة، وكثير من الناس لولا الحياء الذي فيه لم يؤد شيئًا من الأمور المفروضة عليه، ولم يرع لمخلوق حقًّا، ولم يصل له رحمًا، ولا بَرَّ له والدًا. وكلما كانت هذه الأخلاق في صاحبها أكملَ، كان حياؤه وحياتُهُ أقوى وأتم.
والحياء مُشتق من الحياة وهو أعزّ ما فيها، وعلى حسب حياة القلب، يكون فيه قوة خُلُق الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح، وأكمل الناس حياةً أكمَلُهُمْ حياءً، ونقصان حياء المرء من نقصان حياتِهِ, فإن الرُّوح إذا ماتت لم تُحِسَّ بما يؤلمها من القبائح، فلا تستحي منها، فإذا كانت صحيحة الحياة أحست بذلك فاستحيت منه، كذلك سائر الأخلاق الفاضلة، والصفات الممدوحة تابعة لقوة الحياة، وضدها من نقصان الحياة، ولهذا كانت حياة الشجاع أكملَ من حياة الجبان، وحياة السَّخىِّ أكملَ من حياة البخيلِ، وحياة الفَطِنِ الذَّكىِّ أكملَ من حياة البليد, ولهذا كان الأنبياءُ صلوات الله عليهم أكملَ الناس حياةً, حتى إن قوة حياتهم تمنعُ الأرضَ أن تُبْلِىَ أجسامَهُمْ، كانوا أكملَ الناس في هذه الأخلاق، ثم الأَمْثَلُ فالأمثل من أتباعِهِمْ.
عباد الله: إن المتأمل في الباعث على الخصال الحميدة، والأخلاق العالية النبيلة، يجد أنه يدفع العبد للعمل؛ إما باعث ديني كرجاء عاقبتها الحميدة، وإما باعث دنيوي, وهو حياء فاعلها من الخلق، فلولا الحياء من الخالق أو من الخلائق لم يفعلها صاحبها؛ فعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسَ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ" [ البخاري (3483)]، أي: إن الحياء مما بلغه الناس وعلموه من حكم الأنبياء وشرائعهم والتي لم تنسخ؛ لاتفاق العقول عليه، وقبول الفِطَر له، واتفق عليه الأنبياء جميعهم ودعوا إليه، فإذا لم يكن عندك حياء يمنعك من فعل القبيح فصعب أن نجد له بديلاً يقوم مقامه.
فالرادع عن فعل القبيح إنما هو الحياء؛ فمن لم يستحِ فسيصنع ما يشاء، وكل إنسان له آمران وزاجران: آمر وزاجر من جهة الحياء, وآمر وزاجر من جهة الهوى والطبيعة، فمن لم يطع آمر الحياء وزاجره، أطاع آمر الهوى والشهوة, كما قال -سبحانه-: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم: 59].
ومع هذا فالحياء الشرعي المحمود صاحبه لا يمنع عن قول الحق أو فعل الخير كأن يحجم صاحبه عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فكيف يكون مثل هذا شعبة من الإيمان؟ إن مثل هذا ليس بحياء شرعي, بل هو عين الجبن وقمة الخور وكلاهما مذمومان؛ لأن الحياء الشرعي لا يأتي إلا بخير.
وقد بوَّب البخاري -رحمه الله- بابًا في صحيحه قال فيه: [بَاب الْحَيَاءِ فِي الْعِلْمِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مُسْتَحْيٍ وَلَا مُسْتَكْبِرٌ]. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: "نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ". وساق بسنده عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: "جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ، فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ تَعْنِي وَجْهَهَا، وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ قَالَ: نَعَمْ تَرِبَتْ يَمِينُكِ فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا؟" [البخاري 130].
والحياء الشرعي درجات أعلاها: أن يستحي المتقلب في نعم الله أن يستعين بها على معصيته، وهذا ما أرشد إليه النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ". قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: "لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ المَوْتَ وَالبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ" [الترمذي (2458) وحسنه الألباني].
الْحَيَاء وَالسَّتْر محبوب عند الله تعالى؛ فعَنْ يَعْلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى رَجُلاً يَغْتَسِلُ بِالْبَرَازِ بِلاَ إِزَارٍ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ -عز وجل- حَيِىٌّ سِتِّيرٌ، يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ" [ أبو داود (4014) وصححه الألباني].
ورفع النبي -صلى الله عليه وسلم- شأن الحياء وقرنه بالإيمان؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الْحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ، وَالإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْبَذَاءُ مِنَ الْجَفَاءِ، وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ" [الترمذي (2140) وقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ]. وَالْبَذَاءُ: خِلَافُ الْحَيَاءِ وَالنَّاشِئُ مِنْهُ الْفُحْشُ فِي الْقَوْلِ، وَالسُّوءُ فِي الْخُلُقِ.
وأفضل الحياء المراقبة لله -عز وجل-، والمراقبة في ثلاثة أشياء: مراقبة الله في طاعته بالعمل، ومراقبة الله في معصيته بالترك، ومراقبة الله في الهم والخواطر؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" [رواه مسلم]، ومراقبة القلب لله -عز وجل- أشد تعبًا على البدن من مكابدة قيام الليل وصيام النهار وإنفاق المال في سبيل الله.
عباد الله: وأكمل الناس حياء الأنبياء، وأفضلهم في ذلك نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام-، وشاهد ذلك ما رواه عنه مالك بن صعصعة -رضي الله عنهما-، أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- حدثهم عن ليلة أسري به أن موسى قال يوم فرض الله عليه الصلاة: "ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك"، قال: "لقد سألت ربي حتى استحييت، ولكني أرضى وأسلم، قال: فلما جاوزت نادى مناد: أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي" [البخاري (3887)].
نسأل الله أن يرزقنا الحياء النافع والحياة الطيبة، ونسأله -سبحانه- أن يصلح لنا قلوبنا، ويهدي لنا نفوسنا، ويصلح لنا أحوالنا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الحمد لله الذي زين أولياءه بالتقى ورزقهم أفضل المكارم والمحاسن, وأدب نبيه -صلى الله عليه وسلم-وكان أشد الناس حياءً وتراضعًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.
عباد الله: إذا تخلق الإنسان بخلق الحياء، كان ذلك دليلاً على حسن أدبه وسلوكه وصلاح ظاهره، ونقاء سريرته، وكمال إيمانه، وحينما يفقد الإنسان خُلق الحياء يكون قد حُرِم خيرًا كثيرًا، وخسر خسرانًا مبينًا.
فالحياء يدفع النفس والأعضاء إلى أن ينقبض عن القبيح، ويرتدع عن ارتكاب كل ما يشتهي، فلا يكون كبهيمة الحيوان, فالحياء أداة مانعة من ارتكاب المعاصي، حائلة بين المرء وبين فعل ما لا يليق من القبيح، وإن كان صغيرًا ، فهو أصل لكل فضيلة وخير، وعصمة من كل رذيلة وشر.
عباد الله: والحياء على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: حياء يتولد من علم العبد بنظر الحق إليه، قال تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) [العلق: 14]، وهذا يجذبه إلى احتمال أعباء الطاعة، ويحمله على استقباح الجناية.
الثانية: حياء يتولد من النظر في علم القرب من الله، فيدعوه إلى ركوب المحبة، والله قريب من أوليائه وأهل طاعته، وكلما ازداد العبد حبًّا ازداد قربًا.
الثالثة: حياء يتولد من انجذاب الروح والقلب من الكائنات، وعكوفه على رب البريات، فهو في حضرة قربه مشاهدًا لربه، وإذا وصل القلب إليه غشيته الهيبة والإجلال لمولاه، فلا يخطر بباله في تلك الحال سوى الله وحده.
وكلما ازداد العبد شكرًا زاده الله فضلاً، وكلما ازداد له طاعة زاده لمجده وكرمه مثوبة، وأهل الجنة في مزيد دائم بلا انتهاء؛ فإن نعيمهم متصل بمن لا نهاية لفضله ولا لعطائه، ولا لمزيده ولا لأوصافه، فتبارك الله رب العالمين، الرزاق ذو القوة المتين: (إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ) [ص: 54].
ولابن القيم عند هذا الأثر وقفات يقول -رحمه الله تعالى-: "فمن غلب عليه خُلق الحياء من الله حتى في حال طاعته; فقلبه مُطرق بين يدي ربه إطراق مُسْتحْىٍ خجل, فإذا واقع ذنبا استحيى الله -عز وجل- من أن ينظر إليه في تلك الحالة لكرامته عليه, فيستحي أن يرى من وليه ومن يكرم عليه ما يشينه عنده, وفي واقع الحياة ما يشهد لذلك, فإن الرجل إذا اطلع على أخص الناس به, وأحبهم إليه, وأقربهم منه من ولدٍ أو صاحب, أو ممن يحب من غيرهم وهو يخونه; فإنه يلحقه من ذلك الاطلاع حياء عجيب, حتى كأنه هو الجاني, وذلك غاية الكرم".
فاحرصوا -أيها الأحبة- على حياة قلوبكم والحياء من ربكم.
اللهم املأ قلوبنا ثقة بك، وتوكلاً عليك، ومحبة لك، اللهم إنا نسألك إيمانًا صادقًا، ولساناً ذاكرًا، وقلبًا خاشعًا, اللهم أحسن لنا الختام، وارزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي