إن الله -سبحانه وتعالى- خلق القلب للإنسان يعلم به الأشياء، كما خلق له العين يرى بها الأشياء، والأذن يسمع بها الأشياء، كما خلق له -سبحانه- كل عضو من أعضائه لأمر من الأمور، وعمل من الأعمال، فإذا استعمل الإنسان العضو فيما خُلق له وأُعد لأجله، فذلك هو الحق القائم، والعدل الذي قامت به السموات والأرض، وكان ذلك خيرًا وصلاحًا ..
الحمد لله رب العالمين، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأؤمن به وأتوكل عليه، وأساله من فضله المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو على كل شيء شهيد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبدُ الله ورسوله، شرَّفه بالعبودية والرسالة، فهو أكرم الرسل وأشرف العبيد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوه، وأحثكم على مراقبته فإنكم ملاقوه، واحذروه كما حذركم الله نفسه في كتابه، واذكروه كما أمركم يا أولي الألباب، واستغفروه؛ فإنه غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، واشكروه فكم أفاض عليكم من جزيل نعمه! وإياكم والمعاصي، فإنها مفاتح غضب الله ونِقَمه.
عباد الله: إن الله -تبارك وتعالى- خلق الإنسان، وجعل له ظاهرًا وباطنًا، ففي ظاهره أعضاء كالسمع والبصر واللسان، وأما في باطنه فأكثر الأعضاء وأهمها كالقلب والكبد والمعدة، قال الله تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل: 78]، فالإنسان وُلد جاهلاً، لا يعرف شيئًا، وزوده ربه بوسائل وحواس تعينه على العلم والمعرفة؛ ليدرك عبادة ربه.
وقد خص الله بالذكر هذه الأعضاء الثلاثة، لشرفها وفضلها؛ ولأنها مفتاح لكل علم، فلا يصل للعبد علم إلا عن طريق هذه الأبواب الثلاثة: السمع والبصر والفؤاد الذي هو القلب، وقد بيَّن لنا علماء وظائف الأعضاء أن هذا الترتيب القرآني للأعضاء هو الترتيب الطبيعي، فالطفل بعد الولادة يسمع أولاً، ثم بعد حوالي عشرة أيام يُبصر, ومن السمع والبصر وهما السادة على جميع الحواس تتكون المعلومات التي في الأفئدة، وهذا الترتيب القرآني الوجودي، هو الترتيب الطبيعي الذي وافق العلمَ الحديث.
قال الله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج: 46]، إن من يدرس تركيب القلب والطريقة التي يعمل من خلالها لا مفر له إلا أن يعترف بوجود صانع لا حدود لعلمه وقدرته، يقف وراء تصنيع هذا القلب الأعجوبة.
إن الله -سبحانه وتعالى- خلق القلب للإنسان يعلم به الأشياء، كما خلق له العين يرى بها الأشياء، والأذن يسمع بها الأشياء، كما خلق له -سبحانه- كل عضو من أعضائه لأمر من الأمور، وعمل من الأعمال.
فإذا استعمل الإنسان العضو فيما خُلق له وأُعد لأجله، فذلك هو الحق القائم، والعدل الذي قامت به السموات والأرض، وكان ذلك خيرًا وصلاحًا لذلك العضو، وللشيء الذي استُعمل فيه، وذلك الإنسان الصالح هو الذي استقام حاله، (أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة:5].
وإذا لم يُستعمل العضو في حقه، بل ترك بطالًا فذلك خسران، وصاحبه مغبون، وإن استعمل في خلاف ما خُلق له فهو الضلال والهلاك، وصاحبه من الذين بدَّلوا نعمة الله كفرًا، قال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) [إبراهيم:28].
إن سيد الأعضاء ورأسها هو القلب؛ فعن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال: قال -عليه الصلاة والسلام-: "ألَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ" [البخاري (25) ومسلم (1599)]، وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الإسلام علانية، والإيمان في القلب" ثم أشار بيده إلى صدره, وقال: "ألا إن التقوى ها هنا، ألا إن التقوى ها هنا" [أحمد (12381) وضعفه الألباني].
وإذا كان القلب قد خلق ليُعلَم به، فتوجهه نحو الأشياء ابتغاء العلم بها هو الفكر والنظر، كما أن إقبال الأذن على الكلام ابتغاء سمعه هو الإصغاء والاستماع، وانصراف الطرف إلى الأشياء طلبًا لرؤيتها هو النظر، فالفكر للقلب، كالإصغاء للأذن، ومثله نظر العينين فيما سبق، وإذا علم ما نظر فيه فذاك مطلوبه، كما أن الأذن كذلك إذا سمعت ما أصغت إليه، أو العين إذا أبصرت ما نظرت إليه.
وكم من ناظر مفكر لم يحصّل العلم ولم ينله، كما أنه كم من ناظر إلى الهلال لا يبصره، ومستمع إلى صوت لا يسمعه. وعكسه من يؤتى علمًا بشيء لم ينظر فيه ولم تسبق منه إليه سابقة تفكير فيه، كمن فاجأته رؤية الهلال من غير قصد إليه، أو سمع قولاً من غير أن يصغي إليه، وذلك كله لأن القلب لا يقبل العلم بنفسه، وإنما الأمر موقوف على شرائط واستعداد قد يكون فعلاً من الإنسان فيكون مطلوبًا، وقد يأتي فضلاً من الله فيكون موهوبًا.
عباد الله: إن صلاح القلب، وحقه الذي خُلق من أجله، هو أن يعقل الأشياء، لا أقول أن يعلمها فقط، فقد يعلم الشيء من لا يكون عاقلاً له، بل غافلاً عنه ملغيًا له، قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج: 46]، فلا تناقض بين أداء جوارح العبد ووظائف أعضائه، فالإدراك يكون بالحواس والتمييز بالعقل ووقوف عند مبدأ بالقلب، وما دام استقر المبدأ في قلبك فقد أصبح دستورًا لحياتك، وكل جوارحك تخدم هذا المبدأ الذي انتهيتَ إليه، واستقر في قلبك ووجدانك.
والذي يعقل الشيء هو الذي يقيّده ويضبطه ويعيه ويثبته في قلبه، فيكون وقت الحاجة إليه غنيًا فيطابق عمله قوله، وباطنه ظاهره، وذلك هو الذي أوتى الحكمة، (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) [البقرة: 269]، قال أبو الدرداء: "إن من الناس من يؤتى علمًا ولا يؤتى حكمًا، وإن شداد بن أوس ممن أوتي علمًا وحكمًا".
وهذا، مع أن الناس متباينون في نفس عقلهم للأشياء من بين كامل وناقص، وفيما يعقلونه من بين قليل وكثير، وجليل ودقيق، وغير ذلك.
وحين نتحدث عن لفظ القلب نجد أنه يُطلق على معنيين:
أحدهما: اللحم الصنوبري الشكل، المودع في الجانب الأيسر من الصدر، وهو لحم مخصوص وفي باطنه تجويف، وفي ذلك التجويف دم أسود هو منبع الروح ومعدنه، يدخل فيه الدم، ثم يدفعه بواسطة العروق لتغذية البدن.
والثاني: لطيفة ربانية روحانية، لها بذلك القلب الجسماني تعلق، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان، وهو المدرك العالم العارف من الإنسان، وهو المخاطب والمطالب، والمثاب والمعاقب، ولهذه اللطيفة علاقة مع القلب الجسماني.
أما الروح: فهو جسم لطيف منبعه تجويف القلب الجسماني، ينتشر بواسطة العروق إلى سائر أجزاء البدن، وجريانه في البدن، وفيضان أنوار الحياة والحس، والسمع والبصر والشم منها على أعضائها، يضاهي فيضان النور من السراج الذي يُدَار في زوايا البيت، وسريان الروح، وحركته في باطن الإنسان، يشبه حركة السراج في جوانب البيت بتحريك محركه.
والروح مما اختص الله -سبحانه- بعلمه، فهي غيب من غيب الله، ولا يعلم أحد كنهها وحقيقتها، وليس في مقدور البشر إدراكها، قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء: 85]، ويطلق الروح على الموجود الخفي المنتشر في سائر الجسد الإنساني الذي دلت عليه آثاره من الإدراك والتفكير، وهو الذي يتقوم في الجسد الإنساني حين يكون جنينًا بعد أن يمضي على نزول النطفة في الرحم مائة وعشرون يومًا، وهي التي تمدُّ الجسم بالحياة إن اتصلت به، كما في قوله تعالى: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ) [الحجر: 29]، فإذا ما فارقتْ هذه الروح الجسد فقد فارق الحياة، وتحوَّل إلى جثة هامدة، وفيها يقول تعالى: (فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم) [الواقعة: 83].
أما النفس: فتطلق على ذات الإنسان، وهي اللطيفة التي هي نفس الإنسان وذاته، وتطلق على المعنى الجامع لقوة الغضب والشهوة في الإنسان.
أما العقل: فهو ما يعقل الإنسان عما يشينه ويدنسه من الأقوال والأفعال وضده الجنون، فيطلق ويراد به العلم بحقائق الأمور، فيكون عبارة عن صفة العلم الذي محله القلب، ويطلق ويراد به تلك اللطيفة المدرك للعلوم فيكون هو القلب.
والفؤاد قد يطلق ويقصد به القلب، كقوله -سبحانه وتعالى-: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء: 36]، والقلب عضو النقاء والصفاء وقد يكون مكانًا للنفاق والرياء.
عباد الله: إن الله -عزَّ وجلَّ- لما خلق الإنسان ابتلاه وامتحنه، بما يعرف به صدقه وكذبه، وطاعته ومعصيته وطيبه وخبثه، فمزج في خلقته وتركيبه أربع شوائب، فلذلك اجتمع عليه أربعة أنواع من الأوصاف وهي: الصفات السَّبُعية, والبهيمية, والشيطانية, والربانية, وكل ذلك مجموع في قلبه.
فعند تسلط الغضب عليه يتعاطى أفعال السباع، من العداوة والبغضاء، والتهجم على الناس بالشتم والضرب والقتل، والبطش بهم وسلب حقوقهم، قال تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [القصص: 4].
وعند تسلط عليه الشهوة يتعاطى أفعال البهائم، من الشَّرَه والحرص والنكاح والشبق، وسوء المعاملة وذهاب الغيرة وانتشار الفواحش، وغير ذلك، قال تعالى: (وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) [هود: 78]، وقوله تعالى: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) [الأعراف: 80، 81]،وقد جمعوا في جريمتهم هذه من الشبه بالبهائم أمورًا: من حيث أنهم لا يفرّقون بين أين يضعون شهوتهم في الجنس الذي أباحه الله وبين الذي حرّمه، وكذلك إتيانهم الفاحشة جهرة لا ستر فيه، كما تزاول ذلك البهائم.
ومن حيث اختصاصه عن البهائم بالتمييز، مع مشاركته لها في الغضب والشهوة، حصلت فيه شيطانية، فصار شريراً يستعمل التمييز في استنباط وجوه الشر، ويتوصل إلى الأغراض بالمكر والخداع، ويظهر الشر في معرض الخير، وهذه أخلاق الشياطين.
ومن حيث إنه في نفسه أمر رباني، فإنه يدعي لنفسه الربوبية، ويحب الاستيلاء ويرغب الاستعلاء في كل شيء، ويعشق الاستبداد في الأمور كلها، والتفرد بالرياسة والرأي، والانسلال عن ربقة العبودية والتواضع، وبهذا وصف الله تعالى فرعون في رده لموسى لما دعاه: (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) [الشعراء: 29]، قال تعالى: (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ* أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ) [الزخرف: 51، 52]، ويدعي لنفسه العلم والمعرفة والإحاطة بحقائق الأمور، والإحاطة بجميع الحقائق، والاستيلاء بالقهر على جميع الخلائق من أوصاف الربوبية، وفي الإنسان حرص على ذلك. وكل إنسان فيه شوب من هذه الأوصاف الأربعة.
نسأل الله أن يطهر قلوبنا، ويصلح أحوالنا، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم منه بالآيات والذكر الحكيم، وأجارني وإياكم من عذابه الأليم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه.
الحمد لله البر الرحيم، ذي الفضل العظيم، والإحسان الشامل الكامل العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العظيم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى الكريم، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه السالكين للصراط المستقيم.
أما بعد:
عباد الله: إن القلوب أوعية فخيرها أوعاها, وورد عن بعض السلف أنه قال: "القلوب آنية الله في أرضه، فأحبها إلى الله تعالى أرقّها وأصفاها"، وهذا مثل حسن، فإن القلب إذا كان رقيقًا لينًا كان قبوله للعلم سهلاً يسيرًا، رسخ العلم فيه وثبت وأثر، وإن كان قاسيًا غليظًا كان قبوله للعلم صعبًا عسيرًا، وما أحسن ما شبَّه به النبي -عليه الصلاة والسلام- أصحاب القلوب الخصبة القابلة لما جاءها به من الوحي، وما يقابلها من القلوب الوعرة التي لا تنتفع بما جاءها به.
عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ -عزَّ وجلَّ- مِنَ الْهُدَى، وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا، وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ" [البخاري(79) ومسلم(2282)].
وهكذا قلب المنافق، فقد روي أن عمر بن الخطاب قرأ هذه الآية (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا) [الأنعام: 125] بنصب الراء, وقرأها بعض من عنده من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (حَرِجًا) بالخفض، فقال عمر: "ائتوني رجلاً من كنانة واجعلوه راعيًا وليكن مدلجيًّا"، فأتوا به فقال له عمر: "يا فتى ما الحَرِجَة فيكم؟" قال : "الحرجة فينا الشجرة، تكون بين الأشجار لا يصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء"، فقال عمر: "كذلك المنافق لا يصل إليه شيء من الخير" [كنز العمال (2 / 596)].
ولا بد مع ذلك أن يكون القلب زكيا صافيًا سليمًا، حتى يزكو فيه العلم ويثمر ثمرًا طيبًا، وإلا فلو قبل العلم وكان فيه كدر وخبث أفسد ذلك العلم، وكان كالدغل في الزرع فإنه يمنع الحب من أن ينبت معه أو يزكو ويطيب، وهذا بيّن لأولي الأبصار.
والقلب لما كان يقبل الذكر والعلم، فهو بمنزلة الإناء الذي يُوضع فيه الماء، وإنما ذكر في هذا البيت الإناء من بين سائر أسماء القلب؛ لأنه هو الذي يكون رقيقًا وصافيًا، وهو الذي يأتي به المستطعم المستعطي في منزلة البائس الفقير, ولما كان ينصرف عن الباطل فهو زكي وسليم، فكأنه اثنان.
وما أحسن ما قاله سفيان الثوري حين سأله سائل عن علاج قلبه، فقد روي أنه جاء رجل إلى الإمام سفيان الثوري فقال: "إني أشكو من مرض القلب فماذا أفعل؟"، فقال له: "يا بني عليك بعروق الإخلاص، وورق الصبر، وعصير التواضع، ضع ذلك كله في إناء التقوى، وصب عليه ماء الخشية، وأوقد تحته نار الحزن، وصفّه بمصفاة المراقبة، وناوله بكفّ الصدق، واشربه في كأس الاستغفار، وتمضمض بالورع، وابعد نفسك عن الحرص والطمع تشفى من مرضك بإذن الله".
لقد خلق الله القلب لكي يكون الله محبوبه ومالكه وسيده وليس أحد سوى الله, إذ إن القلب لو دخل فيه مع الله أحد يفسد، وإن خلا من الله مات, يقول الله تعالى عن السماوات والأرض: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الأنبياء: 22] يقول ابن القيم: "كذلك القلب لو كان فيه غير الله فسد".
والقلب يغرق فيما يستولي عليه من محبوب أو مكروه أو مخوف، فالمحبوب يطلبه، والمكروه يدفعه, والخوف يحذره. والرجاء يتعلق بالمحبوب, والخوف يتعلق بالمكروه, ولا يأتي بالحسنات والمحبوبات إلاّ الله، ولا يذهب بالسيئات والمكروهات إلاّ الله، والله أعلم حيث يجعل رسالته: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يونس: 107].
فيا عباد الله: إن معرفة القلب، وحقيقة أوصافه أصل الدين، وأساس طريق السالكين: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور: 40]، فاحرصوا -أيها الأحبة- على حياة قلوبكم، وسلامتها.
اللهم املأ قلوبنا ثقة بك، وتوكلاً عليك، ومحبة لك، اللهم إنا نسألك إيمانًا صادقًا، ولساناً ذاكرًا، وقلبًا خاشعًا.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي