كنا قبل أيام نستبشر بقدوم رمضان، وها نحن اليوم نرى قربَ رحيله، وأزفَ تحويله، وهو ذاهبٌ عنا بأفعالنا وأقوالنا، فيا ليت شعري ماذا قد أودعتموه؟ وبأي الأعمال ودعتموه؟ أتراه يرحل شاهداً لنا أم علينا؟ أتراه يرحل عنا حامدا صنيعنا؟ أو ذامًّا تضييعنا؟! فهنيئًا لمن كان شهرُه شاهدًا له عند الله بالخير، شافعاً له بدخول الجنة والعتق من النار، وويل لمن كان شاهدًا عليه بسوء صنيعه، شاكيًا إلى ربه من تفريطه وتضييعه، فودّعوا شهركم بخير ختام؛ فإن الأعمال بالخواتيم...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ... أما بعد:
فاتقوا الله تعالى -أيها الناس- وتفكروا في سرعة مرور الليالي والأيام، واعلموا أنها تنتقص - بمرورها - من أعماركم، وتطوى بها صحائفُ أعمالكم.
أيها المسلمون: كنا قبل أيام نستبشر بقدوم رمضان، وها نحن اليوم نرى قربَ رحيله، وأزوفَ تحويله، وهو ذاهبٌ عنا بأفعالنا وأقوالنا، فيا ليت شعري ماذا قد أودعتموه؟ وبأي الأعمال ودعتموه؟ أتراه يرحل شاهداً لنا أم علينا؟ أتراه يرحل عنا حامدا صنيعنا؟ أو ذامًّا تضييعنا؟!
فهنيئًا لمن كان شهرُه شاهدًا له عند الله بالخير، شافعاً له بدخول الجنة والعتق من النار، وويل لمن كان شاهدا عليه بسوء صنيعه، شاكيًا إلى ربه من تفريطه وتضييعه، فودّعوا شهركم بخير ختام؛ فإن الأعمال بالخواتيم، فمن كان محسنًا في أول شهره فما أحسن التمام! ومن كان مسيئًا فما أجمل التوبة واستدراكَ ما بقي من الليالي والأيام.
أيها المسلمون: لقد شَرع لنا ربُنا -عزّ وجلّ- في ختام شهرنا عبادات جليلة، يزداد بها إيمانُنا، وتَكمل بها عباداتُنا، وتتم بها علينا نعمةُ ربنا.
وأول هذه العبادات: زكاة الفطر: التي فرضها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صاعًا من طعام، صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعيرٍ...، على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تُؤدّى قبل خروج الناس إلى الصلاة، كما روى ذلك ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين وغيرهما (صحيح البخاري ح:1503)، صحيح مسلم ح:984).
وفي السنن - بسند لا بأس به - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله زكاة الفطر طُهرة للصائم من اللغو والرفث، وطُعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات (أخرجه أبو داود ح:1609، وابن ماجه ح:1827، وصححه الحاكم ح:1488).
فأخرجوها -رحمكم الله- طاعةً لرسولكم -صلى الله عليه وسلم- الذي فرضها على جميع المسلمين، صغيرهم وكبيرهم، اللهم إلا الحمْل، فإن الإخراج عنه مستحبٌ لا واجب، ما لم يولد قبل غروب شمس ليلة العيد، فإن ولد قبل غروب الشمس وجب الإخراج عنه.
ومقدار ما يخرج عن الشخص: صاع من طعام البلد من الأرز أو التمر أو غيره من الطعام، ومقدار الصاع بالوزن المعاصر - على ما تفتي به اللجنة الدائمة في بلادنا وعليه أكثر المعاصرين - ما يقارب ثلاث كيلو جرامات، فطيبوا بذلك نفساً.
وأما من يُعْطَى الزكاة: فهم الفقراءُ خاصة، والأقاربُ المحتاجون أولى من غيرهم، كما تُعطى المدينين الذين لا يجدون ما يخرجونه بأنفسهم.
وأما وقتها: فقد سمعتَ قول ابن عباس - رضي الله عنهما - بأن تُخرج قبل الصلاة، وهو إشارة منه إلى أفضل أوقاتها.
وقد صح عن ابن عمر -رضي الله عنهما- كما في البخاري، أنه يجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين (صحيح البخاري ح:1511)، أي في اليوم الثامن والعشرين أو التاسع والعشرين، وحدّها إلى صلاة العيد، وأفضل أوقاتها: ما بعد صلاة الفجر من يوم العيد وقبل أن تُقضى الصلاة.
ومن أخّرها إلى ما بعد الصلاة - لغير عذر - فليست من زكاة الفطر بشيء، بل هي صدقة من الصدقات.
والأفضل إخراج صدقة الفطر في البلد الذي أدرك الإنسان العيدَ فيه، خاصة إذا كان المكان فاضلا كمكة أو المدينة، ولا بأس أن يوكل الإنسان غيره في إخراج الفطرة لو أراد السفر أو خشي من انشغاله.
أيها الإخوة: وأما عبادتكم الثانية التي شرع لكم أن تختموا بها شهركم، فهي عبادة التكبير، وهي التي حثّنا ربُّنا عليها بقوله: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[البقرة: 185]، فكبّروا الله –تعالى- شكرًا له على نعمة إكمال شهر الصيام من حين يبلغكم خبر دخول العيد، وكبّروه على نعمة الهداية لهذا الدين، والذي ما كنتم لتهدوا لولا أن هداكم له ..
كبروه في المساجد والبيوت والأسواق، ليقل أحدكم: الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد .. يجهر به الرجال، وتُسِر به النساء.
فأما ثالثة هذه العبادات: فهي صلاة العيد التي أمر بها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الرجالَ والنساء، حتى العواتق وذوات الخدور اللاتي ليس لهن عادة في الخروج، بل حتى الحُيّض - اللاتي ليس عليهن صلاة أصلاً - أُمرن أن يشهدن دعوة المسلمين، ويعتزلن مصلى العيد، لأن مسجد العيد مسجد تثبت له أحكام المساجد.
وفي الصحيحين من حديث أم عطية رضي الله عنها قالت: أَمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نخرجهن في الفطر والأضحى - العواتق، والحيض، وذوات الخدور - فأما الحيض فيعتزلن الصلاة - وفي لفظ: المصلى - ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، فقلت: يا رسول الله! إحدانا لا يكون لها جلباب، فقال: "لتُلبسها أختها من جلبابها". (صحيح البخاري ح:324، صحيح مسلم ح:890).
فأين أولئك الرجال الذين يقصّرون في شهود صلاة العيد، كيف وقد قال بعضُ أهل العلم بوجوبها على الأعيان!
أيها المسلمون: ما أبهى ذلك المنظر.. حينما يخرج المسلمون إلى صلاة العيد رجالاً ونساءً، صغارا وكبارا، تعبّدًا لله عز وجل، وامتثالا لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وابتغاء للخير، ودعوة المسلمين!
ألا ما أجمل منظر الرجال متنظفين متطيبين لابسين أحسنَ ثيابهم!
وما أحسن التزام النساء بحشمتهن، مبتعداتٍ عن التبرج والسفور.
عباد الله: ومِن سنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- أنه لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات، ويأكلهن وتراً - ثلاثا أو خمساً أو سبعًا - ، كما رواه البخاري (صحيح البخاري ح:953).
عن أنس رضي الله عنه، وقد قال الله عز وجل: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)[الأحزاب: 21].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ...
الحمد لله...، أما بعد:
أيها المسلمون: فهذا شهر رمضان أزف على الرحيل، وفي بقية أيامه ولياليه للنادمين مستعتَب، وللتائبين مسترجَع، عسى توبة ترفو من الصيام كلما تخرّق، عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق، عسى أسيرَ الخطايا يُطلَق، عسى من استوجب النار يُعتق، فاللهم اجعلنا من عبادك الموفّقين، المعتَقين.
أيها الأحبة:
هذا العيد يمر كما مرت أعيادٌ أخرى على إخوانٍ لنا في بعض البلاد، في أحوال لا تُشكى إلا على الله عز وجل، وإن شأن المؤمن أن يعيش العبوديةَ لله في جميع أحواله، لا يليهه وقتٌ عن عيش العبودية، فكما نعيش عبوديةَ الفرح في العيد، فثمة أنواعٌ أخرى من العبودية، ينبغي ألا تغيب عنا للسبب الذي تقدّم ذكره، بإكمال العِدة، وبالهداية للدين، ولغير ذلك من المعاني.
وفي الوقت ذاته، لا يفارقنا العيشُ مع حال إخواننا.. الذين يمر عليهم العيدُ وهم فيما علمتم من أحوال: حروب .. وخوف .. وتشريد .. وجوع .. وفاقة.. لا تُشكى إلا على الله.
أمرٌ آخر - أيها المؤمنون - : يمر العيد، وتتجدد في كل سنة الرسائلُ والأخبار والقصص المؤلمة عن علاقات اجتماعية قد تصرّمت بين والد وولد، وبين أخٍ مع أخيه، وبين ابن عم أو خال مع قريبه.. ينجح الشيطانُ في صرم حبالها، وقطع وصالها!
وإذا تأملتَ وفتّشت وجدتَ أن الأسباب - غالباً إن لم تكن كلها - لم تكن في أمر الدين، بل كلها قطيعة على أمور دنيوية، أو أشياء يمكن تجاوزها، وغض الطرف عنها.
أتحدث عن هذا - أيها الإخوة - ووالله إنني في كل سنة أتقطع ألماً على الرسائل التي تتجدد من هذا النوع بين الأقارب من الدرجة الأولى! فليت شعري إذا لم يجتمع المتقاطعون والمتهاجرون في رمضان وفي العيد فمتى؟! أيسرُّهم أن يُحرَموا من هذا الفضل الذي حدّث به النبيُّ -صلى الله عليه وسلم،كما في الصحيح - في قوله: "تُفتح أبواب الجنة يوم الاثنين، ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أَنظِروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا"؟ (صحيح مسلم ح:2565).
الدنيا - كلها أيتها المتخاصِمون - لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فبالله ما نصيبكم من هذا الجناح؟ وهل يستحق هذا النصيب الذي فرّق بينكم، أن تتقاطعوا وتُفرِحوا عدوكم اللعين بخصومتكم وقطيعتكم؟
ألم تسمعوا قول النبي -صلى الله عليه وسلم، والحديث في الصحيحين -: "لا يحل لمسلمٍ أن يَهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان: فيُعرض هذا ويُعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام"(صحيح البخاري ح:6077، صحيح مسلم ح:2560)، فرحم الله من كان سبباً في شيوع الرحمة وإغاظة الشيطان.
إن بعض الناس يتحدث في هذا المقام بمنطق الجاهلية فيقول: أنا إن عفوتُ عمن أخطأ عليّ، فإن هذا يُنقص من قَدْري!
أما منطق الإسلام، ومنطق أهل الإيمان، ومنطق الراجين ما عند الله عز وجل، فهو المنطق الذي قاله النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما زاد الله عبدا بعفو، إلا عزًّا"(صحيح مسلم ح:2588).
منطِقهم هو منطقُ أبي بكر رضي الله عنه حين نزل قولُه تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[النور: 22] فقال أبو بكر: بلى والله، إني أحب أن يغفر الله لي. (صحيح البخاري ح:4750، صحيح مسلم ح:2770).
ألا فليتذكر المتخاصمون عزّ يوسف في مقام العفو، وذلّ إخوته في مقام الخطأ، وكيف أبقى الله عز وجل ذكر يوسف إماماً يقتدي به كلُّ مؤمن.. وكيف أبقى الله موقفَ النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة، حين صفح عمن طردوه، وشرّدوه، وكانوا سببًا في مفارقة أحب البلاد إلى الله عز وجل، وأحب البلاد إليه -صلى الله عليه وسلم-، فمن تحبون أن يكون قدوتكم؟
أيها الإخوة: ويمر العيد، والشكوى تزداد من توسع كثيرٍ من النساء في الملابس التي لا تليق بالمرأة المسلمة المحتشمة، حتى صار الأمر - وللأسف الشديد - خارجاً عن حدّ الذوق والحياء الذي ينبغي أن تكون عليه المرأة المسلمة، حتى قالت لي إحدى الأخوات: أصبحت النساء اللاتي يلبسن اللبسَ الضافي الساتر كالغريبات في هذه الاجتماعات!
وأعرف عدداً ليس بالقليل - وآخرهن أخت راسلتني ليلة البارحة - صار هذا التوسع في الألبسة الخارج عن حدّ الذوق والحياء، صار سببًا في هجر عددٍ من النساء لاجتماعات عوائلهن وأُسَرهن؛ لأنهن لا طاقة لهن برؤية هذه، ولا قُدرة لهن على الإنكار.
والخطاب يوجَّه للرجال، الذين جعلهم الله قوّامين على النساء.. فاتقوا الله -يا معاشر الرجال- وكونوا قوامين حقاً بما فضّلكم الله، فإن النساء اللاتي يجتمعن في الأعراس والمناسبات هن بناتُكم وأخواتُكم وزوجاتُكم.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا القيام بعبوديته في كل أحوالنا، ونسأله كما بلغنا هذه اللحظات، أن يتم علينا النعمة ببلوغ آخره، وأن يغفر لمن كان معنا في أعوام مضت، أو أيام قليلة انصرمت، فتخطّفهم الموت، اللهم وتقبل منا ما وفّقتنا إليه من صيام وقيام، واغفر لنا ما وقع منا من زلل وتقصير.
اللهم اختم شهرنا برضوانك والعتق من نيرانك، اللهم اجعل شهرنا شاهدا لنا عند قيام الأشهاد، اللهم أنت المنعم المتفضل علينا بالإحسان قبل سؤاله، اللهم فكما ابتدأت إحسانك فأتممْه علينا، وأسبل علينا عفوَك كما عودتنا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي