لهذا اشتاقوا لرمضان

عمر بن عبد الله المقبل
عناصر الخطبة
  1. منزلة رمضان .
  2. شوق الصالحين لرمضان .
  3. أسباب مشوقة لرمضان .
  4. أحوال المحرومين في رمضان .
  5. الحث على المبادرة بالتوبة واستغلال رمضان .

اقتباس

رمضان الذي جاء على فاقة، جاء بعد عامٍ من الانتظار؛ أحبّه الصالحون، وامتلأت قلوبهم شوقاً له، لمِا علموا فيه من صنوف الجود الإلهي والكرم الرباني، شهرٌ تتضاعف فيه الأجور، ويفيض فيه الربُّ على عباده من نفحاته...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي أكرمنا وهو أهل الجود والامتنان، وأنعم علينا بمواسم الفضل والإحسان، ضاعف فيها الأجور، وأنال العاملين له الرحمةَ والرضوان.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يتفضل بالنعم ويرضى بالقليل من الشكران، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله، عَمَر حياته بأنواع الطاعة والبر والإحسان، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم العرض على الكريم الرحمن.

أما بعد:

فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-.

إخوة الإسلام: فليلتان أو ثلاث ليال تفصلنا عن الهبة الربانية، والمنحة الإلهية، إنها شهر رمضان، الذي جعله الله مرتعاً لأوليائه، وجنةً لأحبابه، تتقلب قلوبُهم فيه بأنواع الطاعات، وتتنعّم جوارحُهم بأصناف القربات؛ إنها الفرحة بقدوم رمضان الذي جعله الله موضعًا لنزول أعظم كتاب على خير رسو، أعظم ما نزل من السماء: القرآن كلامُ الرحمن: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة: 185].

رمضان الذي جاء على فاقة، جاء بعد عامٍ من الانتظار؛ أحبّه الصالحون، وامتلأت قلوبهم شوقاً له، لمِا علموا فيه من صنوف الجود الإلهي، والكرم الرباني، شهرٌ تتضاعف فيه الأجور، ويفيض فيه الربُّ على عباده من نفحاته.

ما لهم لا يشتاقون، وقد سمعوا قول نبيهم -صلى الله عليه وسلم-: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" [البخاري ح(1901)، مسلم ح(760)].

وقوله: "ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" [البخاري ح(37)، مسلم ح(759)].

أَيُلامون على هذا وهم يعلمون أن الذي يَعدُهم بهذه الكنوز ليس قناةً فضائية، ولا صحيفةً سيّارة، بل الذي يَعدُهم بها ربُّهم على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-؟!

أَيُلامون على هذا وهم يسمعون حديثَ المصطفى عليه الصلاة والسلام: "إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين" [البخاري ح(1899)، مسلم ح(1079)].

لا -والله- لا لوم عليهم! فهم يعلمون أن أبواب الجنة ما فُتحت، وأن أبواب النار لم تُغلق من أجل الملائكة! ولا من أجل الجبال! ولا من أجل الشجر! ولا من أجل الدواب! بل فُتحت أبوابُ الجنة من أجلهم هم وإخوانهم المؤمنين إنسهم وجنّهم.. نعم! من أجلهم من بين مخلوقات السماوات والأرض! ولا أُغلقت أبواب النار إلا لأجلهم هم.. أفَيُلامُ هؤلاء على فرحهم وسرورهم، وغبطتهم وحبورهم؟!

لقد فرحوا بقدوم رمضان ليقينهم بأنه فرصةٌ لزيادة التقوى، وترقيع ما وقع ويقع منهم أثناء العام، فلقد سمعوا قول ربهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183].

وسمعوا قولَ ربهم على لسان نبيهم -صلى الله عليه وسلم-: "كل عمل بن آدم يضاعف، الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله -عز وجل-: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامَه من أجلي" [مسلم ح(1151)].

لقد أيقنوا من هذه النصوص أن تركَ الطعامِ والشراب والنكاح وسائر الطيبات، ليس مقصوداً لذاته، وأن التقرب إلى الله -تعالى- لا يتم إلا بفعل الطاعات -وعلى رأسها الفرائض- وترك المحرمات؛ كما قال جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: "إذا صمت فليصم سمعك، وبصرك، ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم فطرك وصومك سواء" [الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد (ص: 461)].

لقد علموا أنه من الحرمان أن يكون يوم الفطر ويوم الصوم سواء، فكيف بمن يكون يوم صومه أسوأ من يوم فطره؟! يقولون هذا وهم يرون فئاماً من الناس يزداد تقصيرُهم في الصلاة، وتضيع أوقات نهارهم بالنوم، وليلِهم بالسهر على التوافه إن سلمتْ من المحرمات!

هذا بعضٌ من حال المشتاقين لرمضان، الفرحين به، الذين اغتبطوا بقدومه، والسؤال: كيف يلحق الإنسانُ بهم؟

والجواب: أن لذلك سبلاً كثيرة، منها:

1- معرفة فضائله الكثيرة، وخصائصه العظيمة، وهي كثيرة مشهورة، وتذكّر ما أعدّه الله -تعالى- للمقبِلين عليه، والراغبين في إقالة العثرات، ومضاعفة الحسنات، ورفع الدرجات، وإجابة الدعوات.

2- تقصير الأمل، بأن يُشعر المرءُ نفسَه بأن هذا آخر رمضان له في حياته، ومَن يدري! ربما كان هذا كذلك، واسألوا أنفسَكم -إخواني-: أين من كان معكم العام الماضي من النساء والرجال؟ كانوا ينافسونكم في صالح الأعمال، ويخالطونكم في سائر الأحوال، أمَا طحنتهم رحى المنون ولم تنفع الآمال؟ وقطعت منهم الأعمار والآجال؟ وخلوا في ضرائحهم مُرتهنين بما قدَّموا من أعمال؟

ووالله لو قدّر لكم أن تسألوهم الآن لقالوا لكم بلسان الحال: ليتنا معكم! ليتنا نقدر على قراءة وجه من القرآن! ليتنا نصلي ركعة من قيام رمضان! ليتنا نقدر على الصدقة وصلة الأرحام!

3- استقبال الشهر استقبال المودّعين، نعم! فإن الإنسان إذا عمل عملاً، أو زار مكاناً، أو اجتمع إلى شخص، واستشعر أثناءَ ذلك أنه لن يعود إليه مرةً أخرى؛ فإن هذا الشعور يضاعِف في نفسه شعوراً آخر بضرورة اغتنام تلك الفرصة التي قد لا تتكرر؛ ولهذا فإن الصحابة -رضوان الله عليهم- لما استمعوا من النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى موعظة؛ ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، وقالوا: "كأنها موعظة مودّع فأوصنا" [سنن الترمذي ح(2676) وقال: "حسن صحيح"].

تصور -أيها المسلم- أنك تستقبل ضيفاً عزيزاً، وهو يستضيفك، وتعلم أنك بعد أيام قلائل ستودعه فلا تراه أبداً! كيف ستستقبله؟ وكيف ستحسن صحبتَه؟ وتُكرم مثواه؟!

تعال معي -أيها الأخ المبارك- نستحضر أحاسيسَ الوداع من الآن، لعلنا نَدَع بها دَعةً تُتلف أيامنا، وعِدَة من الأماني تضعف إيماننا.

تعال نخص هذا الشهر الكريم بمزيد اعتناء، وكأننا نصومه صيام مودع!

ليكن همّنا تحقيق معنى صومه: "إيماناً واحتساباً"؛ ليغفر لنا ما تقدم من ذنوبنا، وما أكثرها!

لنكن على ختم القرآن ختمة يصلح بها القلب أكثر من حرصنا على مجرد التكثير الخالي من ذلك.

ليكن رمضان فرصةً لانطلاق أيدينا بالسخاء، كلٌ حسب قدرته وطاقته، ولا تنتظر أن يطرق بابَك الضعفاءُ والفقراء، بل ابحث عنهم، فإنك ستجد متعففين كُثُر.

هذه -أيها الكرام- بعضٌ من مشاعر وأحاسيس المشتاقين لرمضان، وكيف يكون العيشُ مع هذا الشهر حقّاً؟ وما حال الصنف الآخر؟

هذا ما سنعرفه في الخطبة الثانية -إن شاء الله-.

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...

الخطبة الثانية:

الحمد لله ...

أما بعد:

فلئن كان الكثيرون يشتاقون حقاً، ويُترجمون شوقَهم بالأعمال لا بمجرد الأقوال؛ فثمة أناسٌ محرومون من اغتنام بركة رمضان -أعاذنا الله من حالهم-.

قومٌ إذا جاء رمضان انقلبوا إلى قُطّاع للطريق، وهم أشد من قطاع الطريق المعروفين بسرقة المال والعدة! إنهم قطّاع الطريق على السالكين إلى الله والدار الآخرة! إنهم لا يسرقون المال، ولا الطعام، ولكن يسرقون ما هو أغلى من ذلك، إنهم يسرقون من الإنسان دينَه، وحياءَه، ووقتَه، يقفون في طرُقٍ شتى، ويلبسون ثياباً متنوعة لصد الناس عن سبيل الله، تارة باسم الطرب، وتارة باسم الفن، وأخرى باسم الترفيه، وهكذا .. حتى يمضي هذا الموسم الأخروي العظيم وهو لا يشعر؛ لأن قطّاع طريق الآخرة خدّروه بسمومهم، وحقنوه بأفيون الأفلام والمسلسلات، وحشيش المنوعات والأغنيات.

وقومٌ محرومون من بركته، فغالب نهارهم نومٌ وتفريط في الواجبات، وفي الليل تقطيع له بالسهر واللغو!

يدخل رمضان ويخرج وما ذاقوا أجمل ما فيه، إنه برد التقوى، ونعيم القرآن، سدّوا منافذ التنعّم بهذه النعم بذنوب الجوارح.

فيا هؤلاء: أدركوا أنفسكم، فليس للإنسان إلا عمرٌ واحد، وتذكّروا أن الله أبى أن يجعل نعيم القلب وسروره فيما حرّم على عباده، بل جعلها في طاعته، والأنس بمناجاته، والتنعم بلذيذ خطابه، الباب مفتوح، وفضلُ الله يغدو ويروح، والمحروم من رأى السالكين إلى الجنة يبادرون لكل طاعة، وهو نائم على فراش الغفلة.

ولا تنتظر من أرباب الفضائيات الماجنة أن يقفوا عن صدهم عن سبيل الله، فلقد قضى الله أن يكون لكل دار دعاة: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِه) [البقرة: 221]، فاهرب منهم هربك من النار، فما أسرع أن يقال: مات فلان!


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي