الإنفاق وعقدة نقص المال: معالجة قرآنية نبوية

عدنان مصطفى خطاطبة

عناصر الخطبة

  1. لماذا لا ننفق من أموالنا في سبيل الله؟ نظرة أهل المال للمال
  2. المال مال الله
  3. ومن أنفقتم من شيء فهو يخلفه
  4. علاج عقدة الخوف من نقص المال
  5. مفاسد إمساك المال وعدم إنفاقه

الخطبة الأولى

إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان.

وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله.

وبعد:

لماذا لا ينفق بعض المسلمين أموالهم في سبيل الله؟ لماذا لا ينفق بعض الناس من أموالهم على أرحامهم وأقاربهم المحتاجين؟ لماذا لا ينفق بعض الناس من أموالهم على الفقراء والمساكين؟ لماذا لا ينفق بعض الناس من أموالهم في بناء المساجد، وفي دعم دور القرآن الكريم، وفي بناء مراكز الدعوة والعلم؟ لماذا لا ينفق بعض الناس من أموالهم في إغاثة المنكوبين وإطعام الجائعين؟ لماذا لا يخرج بعض الناس زكاة أمواله؟ لماذا يتردّد بعضنا إذا أراد أن ينفق شيئا قليلا من ماله في سبيل الله، ولكن لا يتردد حينما ينفق كثيرا من ماله في سبيل الدنيا؟ لماذا يحسبها بعضنا كثيراً عندما يريد إخراج ماله لأجل الله، ولكنه لا يحسبها كذلك لما يخرج ماله لشراء حاجيات البيت؟!

أيها الأخوة: مهما حاولنا أن نجيب عن هذه الأسئلة، ومهما تنوعت إجاباتنا، ومهما اختلفنا في بيان الأسباب، فإننا جميعا نتفق على شيء واحد، وهو أن:

من لا ينفق ماله في سبيل الله؛ عنده عقدة نقص المال، عنده عقدة الخوف من نقصان ماله.

فكثير من الناس لا ينفق في سبيل الله؛ لأنه ينظر إلى ماله على أنه سينقص، فهو يدفع شيئا من ماله ولكن بلا مردود مادي كما يحصل معه حينما يدفع أمواله لتاجر، فهو يدفع نقودا، ويأخذ بضاعة، ولكنه هنا يدفع مالا، ولا يسترد مقابله شيئا ماديا محسوسا، وهذه هي عقدة نقص المال.

كثير من الناس لا ينفق في سبيل الله؛ لأنه ينظر إلى ماله على أنه سيقل.

كثير من الناس لا يخرج زكاة أمواله؛ لأن عنده عقدة الخوف من نقصان المال.

هؤلاء الذين يمسكون أموالهم ولا ينفقونها في سبيل الله ينظرون إلى الإنفاق في سبيل الله أنه تنقيص لكمية أموالهم، يعتبرون الإنفاق في سبيل الله خسارة وغرم، وفقدان لبعض أموالهم.

ولقد ذكر القرآن الكريم هؤلاء أصحاب النظرة المادية، هؤلاء الذين ينظرون إلى الإنفاق في سبيل الله، إلى إخراج الزكاة، إلى إطعام الفقراء، إلى التصدق على الأرحام بحساب مادي صرف.

ذكر القرآن الكريم هذا النموذج البخس من أولئك الذين يستسهلون كل إنفاق لأجل الدنيا، ولكنهم يستثقلون ويستعظمون كل إنفاق لأجل الله والدار الآخرة، فقال تعالى: ﴿وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا﴾[التوبة: 98].

أخبر تعالى أن منهم: ﴿مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ﴾ أي: في سبيل الله: ﴿مَغْرَمًا﴾ أي: غرامة وخسارة.

قال الطبري: “ومن الأعراب من يَعُدُّ نفقته التي ينفقها في جهاد مشرك، أو في معونة مسلم، أو في بعض ما ندب الله إليه عباده: ﴿مَغْرَمًا﴾ يعني: غرمًا لزمه، لا يرجو له ثوابًا، ولا يدفع به عن نفسه عقابًا“.

إذن: الإنفاق: غرم وخسارة ونقصان عند قوم.

فلماذا لا ينفقون؟ هو خوفهم من نقصان المال.

ما سبب حجبهم لأموالهم عن الفقراء وإمساكها عن أوجه البرّ والصدقات؟

هو خوفهم من أن يقل مالهم، فهو ينفقه في نظره دون أن يعود عليه بشيء مادي، ولكنه على استعداد أن يدفع أضعاف مال الصدقة للدنيا دون تردد؛ لأنه يعود عليه بنفع مادي محسوس.

فنظرته مادية ودنيوية بحتة، لا يعرف شيئا اسمه: التجارة مع الله -تعالى-، ولا يعرف شيئا اسمه: وما عند الله خير وأبقى.

وهذا هو ما راهن عليه الشيطان الذي بين الله لنا أساليبه وتأثيراته النفسية على من يريد الإنفاق، فقال سبحانه عنه: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء﴾[البقرة: 268] أي: يخوفكم الفقر، لتمسكوا ما بأيديكم، فلا تنفقوه في مرضاة الله.

أيها الأخوة: عقدة نقص المال، الخوف من أن يقلّ المال، هو سبب قوي وعميق، ويَسْكُن نفوس كثير من الناس، يحجزهم عن إنفاق مالهم في سبيل الله تحديدا، يمنعهم عن السخاء بالصدقة، والكرم بالعطا،ء والجود بالبذل.

ولذلك عالج الشرع هذه العقدة علاجاً قويما، مَنْ أصابه ومن أخذ به نفعه الله ما دام حيا، وأنفق من ماله ولو كان قليلا، عالج الشرع عقدة نقص المال والخوف من أن يقل المال علاجا نفسيا، وعقديا وواقعيا، يقتلع عقدة الخوف من نقص المال من جذورها.

أيها العبد المؤمن: تذكر حينما تخاف على: “مالِك من النقصان” فلا تنفق في سبيل الله، تذكّر: أن ربك -تعالى- هو المالك، هو المعطي، هو المتفضل، هو المنعم: فربك سبحانه هو مالكُ المال حقيقة وهو من ملكّكَ المال حقيقة، وهو من أعطاك ما في يديك من مال وتفضل به وأنعم به عليك.

نعم، يا مَنْ تملك المال ولا تنفقه، المال هو مال الله، قال الله -سبحانه-: ﴿وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾[النور: 33].

انظر ماذا يقول ربك: ﴿مِنْ مَالِ اللَّهِ﴾ قال الآلوسي في تفسيره: “وإضافة المال إليه -تعالى- ووصفه بإيتائه -تعالى- إياهم للحث على الامتثال بالأمر بتحقيق المأمور به، فإنّ ملاحظة وصول المال إليهم من جهته سبحانه مع كونه عز وجل هو المالك الحقيقي له من أقوى الدواعي إلى صرفه إلى الجهة المأمور بها“.

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال:” كنت أمشي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، ثم قال: يا محمد! مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فضحك، ثم أمر له بعطاء“.

فتأمل قوله: “من مال الله الذي عندك” وإقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- له.

وتذَكّر يا من تملك المال ولا تنفقه أن هذا المال الذي بين يدك هو من فضل الله عليك؛ كما قال ذلك ربك -سبحانه-: ﴿ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾.

وأن المعطي الحقيقي لك هو ربك -سبحانه-، كما قال تعالى عن نفسه: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى﴾ [النجم: 48] “أي: مَلَّك عباده المال، وجعله لهم قُنْيَة مقيما عندهم، وأعطى القنية، وهو ما يبقى ويدوم من الأموال ببقاء نفسه، أو أصله“.

وقال تعالى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا(12)﴾ [المدثر: 11- 12].

فالله هو مَنْ جعل له ذاك المال الذي كان في يديه، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع…”.

فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يؤكد تلك العقيدة بأن الله -تعالى- هو المعطي الحقيقي، فقال صلى الله عليه وسلم: “من آتاه الله مالاً” أي من أعطاه الله مالاً.

ولذلك فالمؤمن الذي يفهم كل هذا يدرك أنه وكيل لهذا المال الذي معه وأنه قيّم عليه، كما وصف ربنا -سبحانه- حال الإنسان مع المال وبين علاقته الصحيحة به وذلك بقوله تعالى: ﴿وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد: 7].

قال أهل التفسير: “أي جعلكم سبحانه خلفاء عنه عز وجل في التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقة، عَبّرَ جل شأنه عما بأيديهم من الأموال بذلك تحقيقاً للحق وترغيباً في الإنفاق، فإن من علم أنها لله -تعالى- وإنما هو بمنزلة الوكيل يصرفها إلى ما عينه الله -تعالى- من المصارف هان عليه الإنفاق، وجيء بالموصول في قوله: ﴿مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ دون أن يقول: وأنفقوا من أموالكم أو مما رزقكم الله؛ لما في صلة الموصول من التنبيه على غفلة السامعين عن كون المال لله جعلَ الناسَ كالخلائف عنه، في التصرف فيه مدةً مَّا، فلما أمرهم بالإِنفاق منها على عباده كان حقاً عليهم أن يمتثلوا لذلك، كما يمتثل الخازن أمرَ صاحب المال، إذا أمره بإنفاذ شيء منه إلى من يعيِّنه“.

فيا مَنْ تملك المال ولا تنفقه، ويا من عندك عقدة نقص المال، يا من تخشى على مالك أن ينقص ويقلّ إنْ أنت تصدقت وأنفقت وزكّيت وأعطيت لله، وفي سبيل الله: تذكر أن الله -تعالى- هو من أعطاك هذا المال الذي معك، وهو أعطاك إياه تفضلا منه سبحانه، ومِنّة منه سبحانه، ونعمة منه سبحانه، وأنك وكيل عليه مستخلف عليه، والله ناظر إليك كيف تتصرف بما أعطاك إياه، وعلى ما استخلفك عليه من مال، أليس هذا كفيل بأنْ يطرد من نفسك عقدة الخوف من نقصان مالِك.

أيها المؤمنون بالله، أيها الموقنون بلقاء الله، أيها المصدقون بكلام الله: نستطيع جميعا أن نتخلص من عقدة الخوف من نقصان المال، وأن نقدم على الإنفاق في سبيل الله غير هَيّابين ولا مُترددين، ولا مُوسوسين ولا مُقَتّرين، إذا صدقنا ربنا -سبحانه-، إذا أيقنا بكلام ربنا -سبحانه- حينما قال لكل من ينفق في سبيله بأنني سأعوّضك، سأعوّضك، سأُخْلِفُك لا محالة، استمعوا معي بقلوبكم إلى هذه الآية الكريمة التي لو لم ينزل غيرها في الإنفاق لكفى، لكفى والله، يقول الحق -سبحانه وتعالى-: ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [سبأ: 39].

اقرأ معي وردد معي: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾ ﴿فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾.

قال أهل التفسير: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾ “أي: مهما أنفقتم من شيء فهو يخلفه عليكم، يعطى بدله وما يقوم مقامه عوضاً عنه: في الدنيا بالبدل بالمال كما هو الظاهر ، أو بالقناعة، أو بغير ذلك من الخيرات والبركات، وفي الآخرة بالجزاء والثواب“.

وقال ابن عاشور: “وظاهر الآية أن إخلاف الرزق يقع في الدنيا وفي الآخرة“.

وقال ابن العربي: “قد يعوّض مثله أو أزيد، وقد يعوض ثواباً، وقد يدخر له وهو كالدعاء في وعد الإِجابة“.

وقال بعض أهل العلم: وقد يعوّض صحة وقد يعوّض تعميراً، ولله في خلقه أسرار. وقال علماء التفسير في أسرار هذه الآية: “وأكّد ذلك الوعد بصيغة الشرط وبجعل جملة الجواب اسمية وبتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي بقوله: ﴿فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾، ففي هذا الوعد ثلاثة مؤكدات، وجملة: ﴿وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ تذييل للترغيب والوعد بزيادة، لبيان أن ما يخلفه أفضل مما أنفقه المنفق. و﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ بيان لما في ﴿مَا﴾ من العموم، ﴿خَيْرُ﴾ بمعنى أخير؛ لأن الرزق الواصل من غيره -تعالى- إنما هو من فضله أجراه على يد بعض مخلوقاته، فإذا كان تيسيره برضى من الله على المرزوق ووعد به كان ذلك أخلق بالبركة والدوام“.

وزادك الله تطمينا، فقال لك سبحانه: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ﴾[البقرة: 272].

وقال سبحانه: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ﴾[الأنفال: 60].

قال السعدي:” ﴿مَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ قليلا كان أو كثيرا: ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ أجره يوم القيامة مضاعفا أضعافا كثيرة، ولا تنقصون من أجرها وثوابها شيئا“.

فيا من تُمْسِك خشية الفقر، ويا من تخشى على مالك أن يقلّ، ويا من تخاف نقص مالك، استمع إلى رسولك -صلى الله عليه وسلم- وهو يحدثك عن هذا العِوَض، وهو يعدك بأنْ يقابلك الله بالمثل؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إن الله قال لي: أنفق أنفِق عليك” وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لسيدنا بلال -رضي الله عنه-: “أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا“.

نعم -يا أيها الأخوة المؤمنون-: إن مَنْ يصدّق كلام الله هذا، وإن من يصدق كلام رسول الله هذا، لا يمكنه أن يمسك ماله فلا ينفقه في مرضاة الله خشية أن ينقص هذا المال، فربك -سبحانه- الذي لا تنفد خزائنه، وعدك بأنك إذا أنفقت في سبيله بأنه سيعوضك، وسيخلفك وسينفق عليك، فماذا تريد أكثر من ذلك؟ ممن تريد وعدا أعظم من وعد الله لك؟

فأنفق وتصدق وزكّ وأعطِ لله -تعالى-، والله سيعوضك وسيزيدك من حيث لا تحتسب، وإياك من شبه إبليس والأعراب المنافقين بأن الإنفاق: مفقرة ومخسرة ومغرمة.

أيها العبد المؤمن: تذكّر حينما تخاف على “مالِك من النقصان” فلا تنفق في سبيل الله، تذكّر: بأن الله وعدك وعدا لا يقدر عليه أحد من الخلق أجمعين، فقد وعدك بأن يضاعف ويضاعف لك أجر هذا المال الذي أنفقته، فإن كان في الأصل يستحق ألف حسنة وإذا بالله يضاعفه لك ليصبح سبعمائة ألف حسنة، فأي جزاء هذا يا عباد الله، وأي تقتير وبخل وإمساك للمال يبقى بعد ذلك؟ استمع إلى وعود ربك الحق -سبحانه وتعالى-: ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً﴾ [البقرة: 245].

﴿مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ [الحديد: 11].

﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ [الحديد: 18].

﴿إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ﴾[التغابن: 17].

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “من أنفق نفقة في سبيل الله كتبت له بسبعمائة ضعف“.

وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود: أن رجلا تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “لتأتين يوم القيامة بسبعمائة ناقة مخطومة“.

وفي رواية: قال: “لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة“.

وبين لك -أيها العبد المؤمن- الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمراً عجباً، يا من تنفق ابتغاء وجه الله -تعالى-، بين لك أن النفقة لا تبقى بحجمها الطبيعي، ولا بوزنها المادي، ولا بقيمتها وثمنها الدنيوي، فقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: “من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله إلا الطيب فإن الله بتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل“.

فبالله عليكم من يستطيع أن يتصدق بجبل عظيم من التمر؟ وبالمقابل من يستطيع أن يعرف أجر جبل عظيم من التمر أنفق في سبيل الله؟ فيا الله كم يربح المسلم وكم يكبر حينما يصدق كلام ربه -سبحانه- وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- فتجده ينفق ويطعم ويتصدق ويزكي وهو ضاحك مستبشر، وكم بالمقابل يخسر ويصغر من لا يوقن بكلام ربه -سبحانه-، وبكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- فتجده لا ينفق ولا يتصدق ولا يزكي، وإذا أراد أن ينفق فإنه يقتّر ويبخل ويقلّل ويحسبها ألف حساب ويعطي وهو عابس مكفهر.

ويا أيها الممسك عن الإنفاق ويا أيها المقتر: وإن مما يجعلك تتخلص من عقدة الخوف من نقص المال وتنفق في سبيل الله: أن تتذكر بأن الملائكة تدعو لك إذا أنفقت في سبيل الله، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ كما في الحديث الصحيح: “ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا…”.

وأن نفقتك هذه هي التي تحرق ذنوبك؛ ففي الحديث الصحيح عن جابر -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لكعب بن عجرة: “يا كعب بن عجرة الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار“.

وإنها هي التي تنفعك في المحشر، وما أدراك ما المحشر؛ فعن عقبة بن عامر – رضي الله عنه – كما في الحديث الصحيح قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس” قال يزيد: فكان أبو الخير مرثد: “لا يخطئه يوم إلا تصدق فيه بشيء ولو بكعكة أو بصلة“.

وأعجب من كل ذلك أن زكاتك لمالك تُخْرِج ما فيه من ضرّ وشرّ؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الذي رواه الطبراني وابن خزيمة في صحيحه: “من أدّى زكاة ماله فقد ذهب عنه شره“.

أقول قولي هذا وأستغفر الله…

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

يا مَن تخشى على مالك من النقصان، ويا مَن تمسك مالك عن الفقير والمسكين، ويا مَن تريد أن يبقى مالك كثيرا: تذكّر كلما أمسكت مالك ولم تنفق في سبيل الله أن ملائكة الله تدعو عليك وعلى مالك؛ ففي الحديث الصحيح الذي يرويه الإمام أحمد، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “ما طلعت شمس قط إلا وبجنبيها ملكان يناديان اللهم من أنفق فأعقبه خلفا ومن أمسك فأعقبه تلفا“.

وتذكر أن الله سيجازيك بالمثل؛ ففي الحديث الصحيح عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “لا توكي فيوكي عليك“.

وفي رواية: “أنفقي أو انفحي أو انضحي ولا تحصي فيحصي الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك“.

قال شراح الحديث: معناه: “تصدقي من نصيبك: “ولا توعي” أي: لا تمنعيه بالإيعاء والإدخار، ويروى: “ولا توكي فيوكى عليك“، والإيكاء: شد رأس الوعاء بالوكاء، وهو الرباط الذي يربط به، أي: لا تمنعي ما في يدك، فتنقطع مادة بركة الرزق عنك، فإن مادة الرزق متصلة باتصال النفقة، ومنقطعة بانقطاعها. “وانفحي” بفتح الفاء، أي أعطي: “وانضحي” بكسر الضاد، أي أعطي أيضا وهو أبلغ من: “انفحي“، “ولا تحصي” أي لا تمنعي، وقيل: لا تعديه فتستكثريه فيكون سببا لانقطاع إنفاقك، فيحصي الله عليك، هو من المشاكلة على حد: ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ﴾ [آل عمران: 54] “وارضخي” أي أعطي بغير تقدير: “ولا توعي فيوعي الله عليك” أي لا تمسكي المال في الوعاء، فيمسك الله فضله وثوابه عنك”.

هذا كله فضلا عما ينتظر مانع حق الله في ماله الذي ملكه أصلا إياه؛ كما قال ذلك ربنا بنفسه -سبحانه-: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ(35)﴾[التوبة: 34-35].

أو ليس إمساك المال وعدم الإنفاق منه في سبيل الله -تعالى- بعد ذلك هو من أعظم الشر بأن تعذب به نفسه، وبأن يحرق جسدك بطريقة مؤلمة ومخزية وطويلة.

وأخيرا: فإني أقول لكل مسلم ولكل من يملك مالا قلّ أو كثر أنفق في سبيل الله وأطعم وأخرج حق الله الذي فيه، ولا تمسك خشية الفقر، ولا خوفا من الخسران، ولا تسويفا ولا تقتيرا ولا بخلا، أنفِق تصديقا منك لنبيك -صلى الله عليه وسلم-، تصديقا منك بقسم نبيّك -صلى الله عليه وسلم- الذي أقسم فقال صلى الله عليه وسلم: “ثلاث أقسم عليهن، وأحدثكم حديثاً فاحفظوه” وقال منها: “ما نقص مالُ عبدٍ من صدقةٍ…”.

وطبّقَ ذلك واقعياً في حياته في درس عملي أعطاه في بيته صلى الله عليه وسلم ولأهل بيته فكما في الحديث الصحيح، عن أبي ميسرة عن عائشة: أنهم ذبحوا شاة فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “ما بقي منها؟ قالت: ما بقي منها إلا كتفها، قال: بقي كلها غير كتفها“.

لأجل هذا -يا أيها الإخوة- كان الإنفاق من أكبر براهين الإيمان؛ لقول رسول -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم: “والصدقة برهان” أي دليل على إيمان صاحبها.

وبذلك -يا عباد الله-: تنتهي من نفوسنا عقدة نقص المال، وتموت من صدورنا وسوسة الخوف من الفقر، وتتبخر من عقولنا مقولة أن المال يقلّ، وتزول من حساباتنا عقيدة الأعراب الفاسدة أن النفقة مغرم.

ويَبقى في عقولنا أن المال هو مال الله، ويَبقى في عقيدتنا أن المعطي والمغني هو الله، وأنّ الله يخلف على المنفق في الدنيا ويضاعف له الأجر في الآخرة، ويَبقى في قلوبنا قسم رسولنا -صلى الله عليه وسلم- ينبض بقوله: “ما نقص مال من صدقة” وتبقى كلماته صلى الله عليه وسلم تصدح في دنيانا الفانية: “أنفق بلالاً، ولا تخش من ذي العرش إقلالا“.

اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئا، يا رب العالمين.


تم تحميل المحتوى من موقع