فضل يوم عرفة

محمد بن إبراهيم النعيم

عناصر الخطبة

  1. فضل يوم عرفة للحاج ولغيره
  2. أعمال يوم عرفة للحاج ولغيره
  3. تجليات الرحمة والقدرة الإلهية يوم عرفة

الخطبة الأولى:

يوم عرفة، وما أدراكم ما يوم عرفة؟! إنه يوم مشهود، ويوم عظيم، أقسم الله به لمكانته في الإسلام، فقال -تعالى-: ﴿وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ(3)﴾ [البروج:1-3]. وقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْيَوْمُ الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَمَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَلا غَرَبَتْ عَلَى يَوْمٍ أَفْضَلَ مِنْهُ، فِيهِ سَاعَةٌ لا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يَدْعُو اللَّهَ بِخَيْرٍ إِلاَّ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، وَلا يَسْتَعِيذُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْهُ” رواه الترمذي.

ويُعد الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج، فمن فاته الوقفُ في وقته فقد فاته الحج، ووقته إذا زالت الشمس -أي: وقت الظهر- من يوم عرفة إلى أن يطلع الفجر من يوم النحر؛ فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ -رضي الله عنه- قَالَ: شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَتَاهُ نَاسٌ فَسَأَلُوهُ عَنْ الْحَجِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “الْحَجُّ عَرَفَةُ، فَمَنْ أَدْرَكَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ” رواه النسائي.

ومن الغريب -أيها الإخوة- أن كل الأيام تبدأ من الليل، فنحن نقول مساء الخميس بأنه ليلة الجمعة، ونقول ليلة رمضان ثم بعد ذلك يأتي رمضان، أي أن الأيام تبدأ من الليل، وهذا حكم عام، إلا في يوم واحد يشذ من هذه القاعدة، وهو يوم عرفة، فيوم عرفة لا يبدأ من الليل، وإنما يبدأ من الصباح وينتهي عند فجر عيد الأضحى، أي أن ليلة عرفة تبدأ بعد يوم عرفة، فاليوم الوحيد في السنة الذي يبدأ من النهار ولا يبدأ من الليل هو يوم عرفة.

وينقسم فضل يوم عرفة إلى شطرين: شطر يخص الحجاج، وشطر لغير الحجاج. فأما عن فضل يوم عرفة للحجاج فقد صحت عدة أحاديث: منها ما رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل سأله عن بعض فضائل الحج: “وأما وقوفك عشية عرفة فإن الله يهبط إلى سماء الدنيا فيباهي بكم الملائكة يقول: عبادي جاؤوني شعثا من كل فج عميق، يرجون جنتي، فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل، أو كقطر المطر، أو كزبد البحر، لغفرتها، أفيضوا عبادي مغفورا لكم ولمن شفعتم له“، أي: ولمن دعوتم له. رواه الطبراني وحسنه الألباني.

لذلك احرصوا على أن يدعو لكم الحجاج، خصوصا في يوم عرفة، فإن شفاعتهم لمن دعوا له مقبولة بإذن الله؛ لأن الله -تعالى- سيقول لهم: “أفيضوا عبادي مغفورا لكم ولمن شفعتم له“.

وروت عَائِشَةُ -رضي الله عنها- أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِم الْمَلائِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاءِ؟” رواه مسلم.

وجاء عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- بعرفات وقد كادت الشمس أن تؤوب، فقال “يا بلال، أنصت لي الناس“، فقام بلال فقال: أنصتوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأنصت الناس، فقال: “معشر الناس، أتاني جبرائيل -عليه السلام- آنفا، فأقرأني من ربي السلام وقال: إن الله -عز وجل- غفر لأهل عرفات، وأهل المشعر، وضمن عنهم التبعات“، فقام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: “يا رسول الله، هذا لنا خاصة؟”، قال: “هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة“، فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: “كثر خير الله وطاب!” رواه ابن المبارك وصححه الألباني.

ويُعد الدعاء في يوم عرفة من أفضل الأدعية، لذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر من الدعاء فيه، فقد روى أسامة بن زيد -رضي الله عنه- : “كنت رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- بعرفات فرفع يديه يدعو، فمالت به ناقته فسقط خطامها، فتناول الخطام بإحدى يديه وهو رافع يده الأخرى” رواه النسائي.

وأفضل الأدعية التي يسن أن يكثر منها في يوم عرفة ما رواه عمرو بن شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” رواه الترمذي.

وإن سألت وقلت إن هذا ليس دعاء وإنما هذا ثناء وتمجيد لله -عز وجل-، قال بعض أهل العلم: إن تَسْمِيَتهُ دُعَاء إِمَّا لأَنَّ الثَّنَاء عَلَى الْكَرِيم تَعْرِيض بِالدُّعَاءِ وَالسُّؤَال، وَإِمَّا لِحَدِيثِ “مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ” شرح الترمذي.

أيها الإخوة الحضور: وأما عن فضل يوم عرفة لغير الحاج، فهو في صيامه واستثماره بالعمل الصالح، فأما عن صيامه، فقد روى أبو قتادة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبلة، وصوم عاشوراء يكفر سنة ماضية” رواه الإمام مسلم.

وأما عن استثماره بالعمل الصالح؛ لأن العمل الصالح فيه أفضل من الجهاد، لأن يوم عرفة أحد أيام عشر ذي الحجة التي قال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-: “مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ“، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ” رواه الترمذي.

فيا إخوة يا كرام: إذا لم تكونوا من حجاج بيت الله هذا العام، فلا ينبغي أن تفوتوا عليكم الفضل الباقي، وهو كفارة ذنوب سنتين كاملتين لمن صام يوم عرفة، فبعض الناس يحملون قلوبا باردة قد يفوتون على أنفسهم فضل صيام يوم عرفة لأي سبب تافه، فيحرمون من فضل عظيم، ولا شك أن هذا من ضعف الإيمان، إذ إن من علامات ضعف الإيمان: عدم الاكتراث لفوات مواسم الخيرات، فإنك ترى البعض تسأله يوم عرفة: هل صمت اليوم؟ فاليوم يوم عرفة! فيقول: لا والله نسيت! أو: ما علمت! أو: كنت مشغولا! أو: ما تسحرت! هكذا يتعلل بكل برود، ولو أنه فاتته صفقة تجارية أو حتى مباراة رياضية لوجدته مهموما سائر يومه.

فإياك -أخي المسلم- أن تكون من هذا الصنف: المحروم من فضل الله، وإن كان هناك مشاغل تعيقك عن صيام يوم عرفة حاول أن تقطعها، فإن صيام نحو بضع ساعات ستكفر عنك ذنوب سنتين مليئتين بالذنوب والمعاصي، فينبغي ألا نفرط في هذا الفضل.

أخبروا إخوانكم وأقاربكم وجلساءكم عن هذا اليوم العظيم، وعن فضل صيامه؛ لتؤجروا معهم، فالدال على الخير كفاعله. جعلني الله وإياكم من المستمعين للقول والمتبعين أحسنه.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين، وقدوة الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله في أنفسكم، واغتنموا ساعات العمر ولحظاته، وتعرضوا لنفحات الله الجواد الكريم؛ فإن لله مواسم خيرات، يغفر فيها الذنوب والخطيئات، ويقيل العثرات، ويتجاوز عن السيئات، ويعظم فيها الأجر ويضاعف الحسنات، فلا تفوتكم هذه المواسم الخيّرات، فالأعمار محدودة، والأنفاس معدودة.

أيها الإخوة في الله: في يوم عرفة أخذ الله -عز وجل- الميثاق من ذرية آدم على أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنَعْمَانَ يَعْنِي عَرَفَةَ فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قِبَلاً قَالَ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ” رواه الإمام أحمد.

قال -تعالى-: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(174)﴾ [الأعراف:172-174].

فيوم عرفة يوم نتذكر فيه الميثاق الذي أخذه الله علينا يوم أخرجنا من صلب أبينا آدم، وأشهدنا أن لا نشرك به شيئا.

أيها الإخوة في الله: وفي يوم عرفة أكمل الله هذا التشريع، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا، فقد روى عمار بن أبي عمار قال: “قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا، وَعِنْدَهُ يَهُودِيٌّ، فَقَالَ: لَوْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ عَلَيْنَا لاتَّخَذْنَا يَوْمَهَا عِيدًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فِي يَوْمِ جُمعَةٍ، وَيَوْمِ عَرَفَةَ” رواه الترمذي. فيوم عرفة يوم عظيم على المسلمين، ويوم مشهود.

إن يوم عرفة إخوتي- يوم فخر للمسلمين، إذ لا يمكن للمسلمين في أي مكان أن يحتشدوا بهذا العدد في وقت واحد، ومن دول متفرقة، إلا في هذا المكان.

وإن في هذا الاجتماع آية عظيمة على قدرة الله -سبحانه وتعالى-، إذ يسمع دعاء كل هؤلاء في وقت واحد على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأجناسهم، ويعطي كل واحد سؤله دون أن تختلط عليه المسائل والحاجات أو تخفى عليه الأصوات والكلمات، سبحانه هو السميع البصير، العلي الخبير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور!.

اللهم وفقنا لهداك واجعل عملنا في رضاك. اللهم احفظ الحجاج في حلهم وترحالهم وردهم إلى أهلهم سالمين غانمين، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.

اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، وأمتنا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا، وارزقهم بطانة صالحة ناصحة يا رب العالمين…


تم تحميل المحتوى من موقع