إنه ما نحلَ والدٌ ولدَه نحلةً أفضلَ من أدبٍ حسنٍ، فيجبُ على الوالدِ الشفيقِ على وَلَدِه، الراغبِ في صلاحِ ثمرةِ فؤادِه يجب عليه أمرُ أولادِه بكلِّ خيرٍ وفضيلةٍ ونهيُهم عن كلِّ شٍّ ورذيلةٍ، رغِّبُوهم في الخيرِ وحثُّوهم عليه وزهِّدوهم في الشرِّ ونفِّروهم منه، فإذا...
إن الحمد لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد:
فإنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-.
اتقوا اللهَ -عباد اللهِ- واشكروه جلَّ شأنُه على أن منَّ عليكم بنعمةِ الولدِ، فله عليكم في ذلك عظيمُ الفضلِ والمنِّ: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) [الشورى: 49 - 50].
أيها المؤمنون: إن لهذه النعمةِ حقًّا عظيماً، وفرضاً أكيداً، فإن اللهَ ابتلاكم بالنِّعَمِ ليختبرَكم أتشكرون أم تكفرون؟ وإن أولادَكم ذكوراً وإناثاً أمانةٌ عندَكم، أمرَكم اللهُ بحفظِهم ورعايتِهم ووقايتِهم من أسبابِ الفسادِ والزيغِ، فقالَ تعالى ذِكرُه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6].
فاتقوا الله -عباد الله-، فكلُّكُم راعٍ وكلُّكُم مسؤولٌ عن رعيَّتِه.
أيها المؤمنون: إن المتأمِّلَ لنصوصِ الشرعِ يدركُ أن صلاحَ الولدِ وفسادَه يرجعُ في الغالبِ إلى والدَيهِ؛ ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كلُّ مولودٍ يولدُ على الفطرةِ، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانِه" [صحيح البخاري: 1385].
فولدُك -يا عبدَ الله-، ولدُك من ذكرٍ أو أنثى إنما هو نتاجُ جهدِك وثمرةُ تربيتِك، فإن الأصولَ عليها يَنْبتُ الشجرُ.
أيها المؤمنون: إن الواجبَ على الآباءِ والأمهاتِ -أيها المؤمنون- أن يأخذوا أولادَهم بمبادئِ الآدابِ، ليأنسوا بها في صِغَرِهم، وينشؤوا عليها منذُ نعُومةِ أظفارِهم، فتكونُ لهم كالسَّجايا عند كِبرِهم، لأنَّ نشأةَ الصغيرِ على الشيءِ تجعله متطبِّعاً به، ف:
إنَّ الغصونَ إذا قوَّمْتَها اعتدلت *** ولا يلينُ إذا قوَّمتَه الخَشبُ
فاتقوا اللهَ -عباد اللهِ-، وبادِروا إلى تأديبِ أولادِكم وإصلاحِهم، قبل تراكُمِ الأشغالِ، وتفرُّقِ البالِ، وصعوبةِ تغييرِ الأحوالِ.
بادروا إلى تأديبِهم وتعليمِهم محاسنَ الأخلاقِ والشِّيَمِ، وحفظِهم من سيِّئِها، فإنه ما نحلَ والدٌ ولدَه نحلةً أفضلَ من أدبٍ حسنٍ، فيجبُ على الوالدِ الشفيقِ على وَلَدِه، الراغبِ في صلاحِ ثمرةِ فؤادِه يجب عليه أمرُ أولادِه بكلِّ خيرٍ وفضيلةٍ ونهيُهم عن كلِّ شٍّ ورذيلةٍ، رغِّبُوهم في الخيرِ وحثُّوهم عليه وزهِّدوهم في الشرِّ ونفِّروهم منه، فإذا بلغَ الولدُ ذكراً كان أو أنثى سنَّ التمييزِ، فبادِرُوا إلى أمْرِه بالصلاةِ وترغيبِه فيها وحثِّه عليها؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "مُروا أولادَكم بالصلاةِ لسبعٍ، واضربوهم عليها لعَشْرٍ" [مجموع فتاوى ابن باز: 29/186].
واعلموا -أيها المؤمنون- أن سببَ تضييعِ كثيرٍ من الأولادِ للصلاةُ، وعدمَ عنايتِهم بها، هو تفريطُ الوالدَينِ في هذا التوجيهِ النبويِّ، فاتقوا اللهَ -عباد اللهِ-، فـكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيته.
أيها المؤمنون: إنَّ من أهمِّ أسبابِ صلاحِ الأولادِ: حفظَهم من قرناءِ السُّوءِ، وأصحابِ الشرِّ، الذين يَهدِمُون الفضائلَ، ويشيِّدون الرذائلَ، يأمرون بالمنكرِ وينهوْن عن المعرُوفِ، فاحفظوا أولادَكم، ذكوراً وإناثاً من صحبةِ هؤلاء، فإنهم قذى العينِ، وبلاءُ العمرِ، ونَكَدُ الدُّنيا والآخرةِ: (الأخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ) [الزخرف: 67].
فاتقوا الله -عباد الله-، فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته.
أيها المؤمنون: إن من أبلغِ وسائلِ التأثيرِ على الأولادِ وتربيتِهم على البرِّ والتقوى: أن يكون الوالدان قدوةً حسنةً لأولادِهما في المبادرةِ إلى الخيراتِ، والانكفافِ عن المعاصي والسيئاتِ، فإن الأولادَ إذا رأوْا من والدَيْهم الاجتراءَ على المعاصي والسيئاتِ، والتَّلطُّخَ بأوضارِ الخطايا والموبقاتِ، ضعُفَ قدرُ ذلك في نفوسِهم، وحمَلَهم ذلك على مقارفةِ تلك السيئاتِ، فصدقَ عليهم قولُ القائلِ: أبٌ غيرُ بَرٍّ وابنُه غيرُ واصلِ.
فاتقوا الله -عباد الله- فـكلُّكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته.
أما بعد:
فاتقوا اللهَ -عبادَ اللهِ-، فـكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته.
أيها المؤمنون: إن من العجائبِ التي تذهِلُ العقول وتطيرُ الألبابَ وتفطرُ الأكبادَ: أن كثيراً من الآباءِ والأمهاتِ، هم سببُ شقاءِ أولادِهم في الدنيا والآخرةِ، وذلك بإهمالِهم وتركِ تربيتِهم وتأديبِهم، بل وبإعانتِهم على شهواتِهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فأيُّ خيانةٍ أعظمُ من هذه الخيانةِ.
فاتقوا الله -عباد الله- فـكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته.
أيها المؤمنون: إن من المشكلاتِ الكبرى التي تعاني منها كثيرٌ من المجتمعاتِ: غفلةَ أولياءِ الأمورِ عن رعايةِ أولادِهم وتربيتِهم، وإن لهذه الغفلةِ معالَم كثيرةً نراها في سلوكِ أولادِنا، ذكوراً وإناثاً، ولا شكَّ أن هذه المظاهرَ ثمرةُ تفريطِنا وعدمِ قيامِنا بالأمانةِ، فأسألكم باللهِ العظيمِ -يا عباد اللهِ-، هل الأب الذي تركَ لأولادِه الحبلَ على غاربِه، يخرجون متى يشاؤون، ومع من يريدون، يسهرون الليلَ وينامون النهارَ، يواقعون السيئاتِ ويضيعون الصلواتِ، هل قام بالأمانةِ وحفظها أم أنه أبٌ غيرُ برٍّ وابنُه غيرُ صالحٍ؟!
وأسألكم باللهِ -يا أيها المؤمنون- هل الأبُ الذي يسَّر لولدِه سُبلَ الانحرافِ، فأدخلْ إلى بيتِه أسبابَ الزيغِ والفسادِ، ووسائلَ التدميرِ والإهلاكِ، هل نصح لولده وأهله أم أنه أبٌ غيرُ برٍّ وابنُه غيرُ صالحٍ؟!
فاتقوا الله -عباد الله-، واتقوا يوماً ترجعون فيه إليه، فـكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فإن المسلمَ الحقَّ والمؤمنَ الصادقَ يهمُّه ويكرِّثُه مسلكُ أولادِه نحو ربِّهم؛ ولذا فإن من دعاءِ عبادِ الرحمنِ الذي ذكرَه اللهُ عنهم: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) [الفرقان: 74].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي