أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله

عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
عناصر الخطبة
  1. تحريم الدماء المعصومة في شريعة الإسلام .
  2. عصمة دماء المسلمين .
  3. خطورة الاستهانة بالدماء .
  4. جرأة الغلاة في الدماء .
  5. وصية عمرية عظيمة النفع. .

اقتباس

ماذا يصنع أقوام في زماننا هذا جهلوا دين الله -عز وجل- وشرعه فكانوا بُعد شديد عن أهل العلم والدراية بشرع الله -سبحانه وتعالى-، ثم يتجرؤون جرأةً عظيمة على دماء المسلمين إراقةً لها بل حتى في المساجد وعند أبواب المساجد، بل إلى قرب مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فماذا يصنع هؤلاء البغاة الظالمون المعتدون بلا إله إلا الله يوم القيامة يوم قَتلوا من قتلوا من أهل الإسلام..، ماذا يصنع هؤلاء بلا إله إلا الله يوم القيامة في دماءٍ كثيرة أراقوها دون خوفٍ من الله -عز وجل- ودون تفكر في العواقب الوخيمة والمآلات العظيمة التي يجنونها ويجرُّونها على أنفسهم بفعائلهم الشنيعة.

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمد لله؛ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فما ترك خيرًا إلا دلَّ الأمة عليه، ولا شرًا إلا حذَّرها منه؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أمَّا بعدُ أيها المؤمنون: اتقوا الله ربكم، وراقبوه -جل في علاه- في جميع أعمالكم مراقبة من يعلمُ أن ربَّه يسمعُه ويراه.

أيها المؤمنون: لقد جاءت شريعة الإسلام المباركة بتحريم الدماء المعصومة، وجاءت في هذا الباب بأشد التحذير وأعظمه والوعيد الشديد لمنتهك هذه الحرمة والمعتدي على الدماء، ولقد جاءت السنة في هذا الباب بأحاديث كثيرة تدل على خطورة الأمر وعِظمه.

ويجب على كل مسلم أن يعي خطورة هذا الأمر، وأن يتحقق من نفسه أن يكون خروجه من هذه الدنيا سليمًا معافى من أن يكون له يدٌ في دماء المسلمين ولا أيضا مشاركةٌ بتحريضٍ أو تأييدٍ أو تمالئ مع أهل الضلال والباطل، فإن المتمالئ مع أهل الضلال له نصيب من فعلتهم وإن لم يشارك معهم بيده، فإن الذي باشر قتل الناقة من قوم صالح -عليه السلام- أشقى القوم لكن الله -عز وجل- وصف الجميع بقوله (فَعَقَرُوهَا) وعمَّت العقوبةُ الجميع.

أيها المؤمنون: ومن كان له حظٌ من الإسلام ولو نزرًا قليلا وقدرًا يسيرا فإن دمه محرم ومعصوم جاءت الشريعة بتحريمه، بل حتى ولو لم يكن له في الإسلام إلا قول «أسلمتُ» فإن له في دمه هذه التحريم، وإن كان صنع ما صنع قبل أن يقول هذه الكلمة. ولنتأمل يا معاشر المؤمنين في هذا الباب ثلاثةَ قصص عظيمة جاءت في سنة النبي الكريم -عليه الصلاة والسلام- فيها موعظةٌ وعبرة ومزدجر:

الأولى: جاء في الصحيحين عن المقداد بن الأسود -رضي الله عنه- قال: «يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنَ الْكُفَّارِ فَقَاتَلَنِي، فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا، ثُمَّ لَاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ فَقَالَ أَسْلَمْتُ لِلَّهِ، أَفَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللهِ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟» قَالَ: رَسُولُ اللهِ --صلى الله عليه وسلم--: "لَا تَقْتُلْهُ"، قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ قَدْ قَطَعَ يَدِي، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَطَعَهَا، أَفَأَقْتُلُهُ؟»، فقَالَ رَسُولُ اللهِ --صلى الله عليه وسلم--: "لَا تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يقولها يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ".

والقصة الثانية عباد الله: جاءت في صحيح البخاري من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: بَعَثَ النَّبِيُّ --صلى الله عليه وسلم-- خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ رضي الله عنه إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا، فقالوا: صَبَأْنَا صَبَأْنَا، فَجَعَلَ خَالِدٌ رضي الله عنه يَقْتُلُ مِنْهُمْ وَيَأْسِرُ، ثم دَفَعَ إِلَى كُلِّ واحد أَسِيرَهُ فَأَمَرَه أَنْ يَقْتُلَه، فقال ابن عمر: «وَاللَّهِ لاَ أَقْتُلُ أَسِيرِي، وَلاَ يَقْتُلُ واحد مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ»، قال: فلما أتينا رسول الله --صلى الله عليه وسلم-- ذَكَرْنَا لهُ ذَلِكَ فقال --صلى الله عليه وسلم--: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ" قال ذلك مَرَّتَيْنِ صلوات الله وسلامه عليه.

فانظر يا عبد الله؛ الأول في القصة الأولى ليس له من الإسلام إلا «أسلمتُ لله»، والآخَرون في القصة الثانية ليس لهم إلا كلمة «صبأنا صبأنا» لم يحسِنوا أن يقولوا أسلمنا، فتبرأ النبي -عليه الصلاة والسلام- من صنيع خالد رضي الله عنه فيهم.

عباد الله: والقصة الثالثة وهي قصة عظيمة قد رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- قال: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ --صلى الله عليه وسلم-- إِلَى الحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَصَبَّحْنَا القَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، [وجاء في بعض الأحاديث أن ذلك الرجل كانت منه في تلك المعركة نكاية بالمسلمين وشدة في قتلهم، وكان لا يريد أحدًا منهم إلا أصابه].

 قَالَ: فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ «لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»، فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصَارِيُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ --صلى الله عليه وسلم--، فَقَالَ لِي: «يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟»، فقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا، فما كان يزيد -صلى الله عليه وسلم- على أن يقول له: «أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ!!» وجاء في رواية للحديث في صحيح مسلم أن أسامة -رضي الله عنه- قال: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ».

 فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ" أي: أن الذي لنا إنما هو الظاهر، ورب العالمين -جل في علاه- يتولى البواطن والسرائر، فإن كان قالها نفاقا أو قالها تعوذًا أو لغير ذلك من الأغراض فأمره إلى الله، وليس لنا إلا الظاهر، وأما سرائر العباد وبواطنهم فأمرها إلى الله -عز وجل- الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

وقد جاء في حديث آخر في القصة نفسها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: "كَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟" قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ اسْتَغْفِرْ لِي»، قَالَ: "كَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟" فما كان -عليه الصلاة والسلام- يَزِيدُهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ له: "كَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟".

أيها المؤمنون: ولقد نفع الله -عز وجل- أسامة بن زيد حِبِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابن حبِّه -رضي الله عنه-ما نفعًا عظيما، ولهذا جاء في بعض الروايات أنَّ أسامة قال: «يا رسول الله إن لله عليَّ عهدًا أن لا أقتل من يقول لا إله إلا الله أبدا»، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "بعدي يا أسامة" قلت «بعدك يا رسول الله».

ولهذا لما وقعت الفتنة في زمن علي -رضي الله عنه- بين علي ومعاوية اعتزل أسامة وكان من الصحابة الذين اعتزلوا الفتنة -رضي الله عنهم أجمعين-، وجاء في بعض الأخبار أن عليًا -رضي الله عنه- لقي أسامة في ذلك الوقت وقال له: «يا أسامة إنا كنا نعدُّك من أنفُسنا فما لك لا تدخل معنا؟» فقال: «يا أبا الحسن والله لو رأيتك ممسكًا بإحدى مِشفريِّ الأسد لأمسكتُ بمشفره الآخر حتى ننجو جميعا أو نهلك جميعا»، قال «وأما هذا الأمر الذي أنت فيه فوالله لا أدخل فيه أبدًا».

عباد الله: فماذا يصنع أقوام في زماننا هذا جهلوا دين الله -عز وجل- وشرعه فكانوا في منأى بعيد عن الفقه في دين الله، وفي بُعد شديد عن أهل العلم والدراية بشرع الله -سبحانه وتعالى-، ثم يتجرؤون جرأةً عظيمة على دماء المسلمين إراقةً لها بل حتى في المساجد وعند أبواب المساجد، بل إلى قرب مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

فماذا يصنع هؤلاء البغاة الظالمون المعتدون بلا إله إلا الله يوم القيامة يوم قَتلوا من قتلوا من أهل الإسلام وأهل الدين ممن نشأوا على دين الله ووُلدوا في الإسلام ونشأوا على الإسلام، ماذا يصنع هؤلاء بلا إله إلا الله يوم القيامة في دماءٍ كثيرة أراقوها دون خوفٍ من الله -عز وجل- ودون تفكر في العواقب الوخيمة والمآلات العظيمة التي يجنونها ويجرُّونها على أنفسهم بفعائلهم الشنيعة؟!

أيها المؤمنون عباد الله: إن الواجب على كل مسلم أن يتقي الله -عز وجل- وأن يدرك خطورة هذا الأمر وأنه ليس بالأمر الهين، فلا يكون له أدنى مشاركة في مثل هذه الشنائع العظائم؛ لا بقولٍ أو تأييد أو حتى محبةٍ ورضا بقلبه.

نسأل الله -عز وجل- بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يعيذ المسلمين أجمعين أينما كانوا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل.

الخطبة الثانية:

الحمد لله كثيرا، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد أيها المؤمنون: اتقوا الله تعالى.

عباد الله: كتب رجلٌ إلى عبد الله بن عمر -رضي الله عنه-ما أن اكتب لي بالعلم كله؛ فكتب إليه عبد الله بن عمر -رضي الله عنه-ما: «إن العلم كثير، ولكن إن استطعت أن تلقى الله يوم القيامة خفيف الظهر من دماء المسلمين، خميص البطن من أموالهم، كافَّ اللسان عن أعراضهم، ملازمًا لجماعتهم فافعل». ما أعظمها من وصية جمعت فقهًا عظيمًا وخيرًا عميما.

واعلموا -رعاكم الله- أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة.

وصَلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمّد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيما) [الأحزاب:56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ".

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد.

اللهم انصر من نصر دينك، اللهم أيِّد من نصر دينك، اللهم احفظ من نصر دينك، اللهم أعِذ المسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق ولي أمرنا لهداك.

اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي