للتوبة برهان

خالد القرعاوي
عناصر الخطبة
  1. خلْطُ المسلم العمل الصالح بالآخَر السيئ .
  2. أسباب ازدياد غفلتنا ووقوعنا في المعاصي .
  3. قصة الغامدية المبيّنة لصدق الخشية والتوبة .
  4. حقائق عن التوبة مستفادة من القصة .

اقتباس

إنَّ لِلإيمَانِ لَحَلاوَةً، وإنَّ لِلمَعْصِيَةِ فِي قَلْبِ المُؤمِنِ لَحَرَارَةً تَجْعَلُهُ سُرْعَانَ ما يَؤُوبُ وَيَتُوبُ، وَيقْلِعُ وَيَنْتَهِي، وَيَسْتَغْفِرُ وَيَنْدَمُ، وَيَعْزِمُ ألَّا يَعُودَ. هَكذا كانَتِ الغَامِدِيَّةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْها وَأَرضاهَا-، فَبِقَدْرِ مَا يَرُدُّها رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِقَدْرِ مَا تُسْرِعُ فِي العَوْدِ وَحُبِّ التَّطْهِيرِ!...

الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ علاَّمِ الغُيُوبِ، المَطَّلعِ على أَسرَارِ القُلُوبِ، نَشهدُ ألَّا إِلَهَ إلِّا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَه، (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) [سبأ:2].

وَنَشهَدُ أنَّ مُحمَّدًا عبدُ اللهِ ورسولُه إمامُ التَّائِبينَ، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله وأصحابه وَمَنْ اقتَفَى أَثَرَهُ فَكانوا للهِ مُتَّقينَ، ومَن تَبِعهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يوم الدِّين.

أَمَّا بَعْدُ: عباد الله، أوصِيكُم وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ -تعالى- حَقَّ التَّقْوَى، وَاسْتَمْسِكُوا مِنَ الإِسْلاَمِ بالعُرْوَةِ الوُثْقَى، وتَزَوَّدُوا فإنَّ خيرَ الزَّاد التَّقوى، (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُم خَافِيَةٌ) [الحاقة:18].

مَعاشِرَ المُسلمين: قَدَرُنا أنَّنا نُذنِبُ ونُخطئُ، ومَشيئَةُ اللَّهِ فِينا أنَّنا نُقصِّرُ ونُسيءُ؛ لأنَّ كلَّ بَني آدمَ خَطَّاءٌ، فلَم نكنْ يومًا ملائكةً لا يعْصونَ اللهَ مَا أَمَرَهُم ويَفْعَلُونَ ما يؤْمَرونَ، فَنحنُ بَشَرٌ مِن أَبٍ أَذْنَبَ وأَخطَأَ، وَلِنَفْسِه ظَلَمَ، وعليها اعتدى، ولِرَبِّهِ تابَ واهتَدَى.

نَحنُ جَميعاً الضَّعْفُ فِينا مَغروسٌ، والشَّيطانُ يَستَهْوِينَا، والهَوى يُغْرِينا، والنَّفسُ الأَمَّارةُ تَلعَبُ فِينَا، تَضعفُ نُفُوسُنا حِينًا، وتَعتَرِينا الغَفلَةُ زَمَناً طَويلاً.

فَكُلُّنا لَنا ذُنُوبٌ وسَيِّئَاتٌ، ومَعَاصٍ وخَطِيئاتٌ؛ فَمَن ذا الَّذي يَسلَمُ مِن تِلكَ الآفَاتِ؟!

مَنِ الَّذِي مَا سَاءَ قَطّْ؟ *** وَمَنْ لَهُ الحُسْنَى فَقَطْ؟

ولَقد أَدْرَكَ عُلَمَاءُ أهل السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ هَذا المعنى في بَني آدَمَ فَكَانوا وَسَطَاً وَعُدُولاً بَينَ طَرَفي نَقِيضٍ، فَنَحنُ نَعتَقِدُ أنَّهُ قَدْ يَجتَمِعُ بِالمُسْلِمِ إيمَانٌ وَكُفْرٌ، وطَاعَةٌ وَمعصِيةٌ، وَتقْوى وَفُجُورٌ، وَرَبُّكَ حَليمٌ غَفُورٌ شَكُورٌ.

إخواني: لا أُخفِيكُمْ سِرَّاً أنَّ الذي دَعَاني لِهذا الكلامِ مَا نَجِدُهُ مِنْ أنْفُسِنَا وإخوانٍ لنا مِنْ وُقُوعٍ فِي مَعاصٍ وَمُنْكَرَاتٍ هي -واللهِ- مِنْ الكَبائِرِ! لَمْ يَدُرْ بِخَلَدِنَا يَوْمَاً أنْ تُوجَدَ وَتَنْتَشِرَ؛ لَكِنْ، مَعَ تَسَارُعِ التَّقْنِياتِ وَتَنَوُّعِهَا وَخَطَرِهَا وَخفْيَتِها، وَمَعَ ضَعْفِ الأمْرِ بالمَعْرُوفِ والنَّهيِّ عَن المُنْكَرِ، وَمَعَ كَثْرَةِ خُرُوجِ النِّساءِ وَضَعْفِ الحِجَابِ لَدَى بَعْضِهِنَّ، وَوُجُودِ تَخَنُّثٍ وَشُذُوذٍ لَدَى بَعْضِ السُّفَهاءِ، وَمَعَ فَيضِ النِّعْمَةِ، وَحُصُولِ فَراغٍ كَبِيرٍ، وَقَعَ كَثِيرٌ مِنَّا في مَعاصٍ وَذُنُوبٍ اللهُ بِها عَليمٌ وَخَبِيرٌ.

فَمَا المَخْرَجُ مِنْ هذا المَأزَقِ؟ وَمَا الحَلُّ لِهذا الدَّاءِ العُضالِ؟ فَواللهِ! إنَّا نَجِدُ فِي نُفُوسِنَا حَرَارَةَ المَعْصِيَةِ، وَلَهِيبَ الإثْمِ والعُدْوانِ، نَرَى المَعاصِي أَحَاطَتْ بِنَا، وَعُقُوبَةَ اللهِ قَرِيبَةً مِنَّا، فالَّلهُمَّ يا واسِعَ الحِلْمِ والمَغْفِرَةِ تُبْ عَلينَا، وَتَجاوَزْ عَنْ زَلَلِنا وَتَقْصِيرِنَا فِي حَقِّكَ.

أيُّها الأَخُ المُؤمِنُ: أَظُنُّ أَنَّ قَلْبَكَ ارْتَجَفَ، وَنَفْسَكَ خَافَتْ، وَفَرَائِصَكَ ارْتَعَدَتْ؛ وَهَذا -بِإذنِ اللهِ- أَوَّلُ طَرِيقِ النَّجاةِ، وَسُلَّمُ الوُصُولِ لِمَرْضَاةِ اللهِ القَائِلِ: (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) [القيامة:2].

عِبَادَ اللهِ: لا مَنْجَى مِن اللهِ إلَّا إليهِ! (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الذاريات:50].

وَلَعَلَّ فِي بَعْضِ القَصَصِ أَلْف عِبْرَةٍ وَعِظَةٍ! كَيفَ لا تَكُونُ كَذَلِكَ وَقَدْ وَقَفَ وَبَاشَرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَحْدَاثَها خُطْوَةً بِخُطْوَةٍ.

كَانَ رَسُولُنا -صلى الله عليه وسلم- جَالِسَاً فِي المَسْجِدِ وَسَطَ أَصحَابِهِ كَالقَمَرِ وَسَطَ نُجُومٍ سَاطِعَةٍ؛ يُعَلِّمُهُم، وَيُؤَدِّبُهُم، وَيُفَقِّهُهُمْ، وَيُزَكِّيهِم؛ لَقَدْ اكْتَمَلَ المَجْلِسُ بِكِبَارِ الصَّحَابَةِ، وَإذْ بِامْرَأَةٍ مِنْ جُهَيْنَةَ مِنْ غَامِدٍ مِنَ الأَزْدِ مُتَحَجِّبَةٍ تَدْخُلُ عَليهِمْ المَسْجِدَ، أَقْبَلَتْ تَمْشِي رُويداً؛ فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ، وَسَكَتَ أَصحَابُهُ.

فَلَمَّا وَقَفَتْ أَمَامَهُمْ، قَالَتْ قَولاً مُفَاجِئَاً، بَلْ صَاعِقَاً؛ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنِّي حُبْلَى مِنَ الزِّنَا، إنِّي زَنَيتُ فَطَهِّرْنِي! أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ! يا اللهُ! إنَّهُ مَوقِفٌ عَصِيبٌ وَغَرِيبٌ وَمَهِيبٌ! ما الذي يَسْمَعُونَ؟ امْرَأَةٌ تَطْلُبُ المَوْتَ، وَتَفْضَحُ نَفْسَهَا، وَتَكْشِفُ سِتْرَهَا!.

لَقَدْ احْمَرَّ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَحَوَّلَهُ جِهَةَ المَيمَنَةِ، لَقَدْ شَاحَ بِوَجْهِهِ -صلى الله عليه وسلم- وَسَكَتَ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ شَيئَاً!.

وَكَأَنِّي بِتِلْكَ المَرْأَةِ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُطىً ثَابِتَةٍ، وَإِيمَانٍ رَاسِخٍ، وَفُؤَادٍ يَرْجُفُ وَجَلاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ لا مِنْ المَوتِ، نَعَمْ! لَقَدْ رَمَتْ خَلْفَ ظَهْرِها كُلَّ مَقَايِيسِ البَشَرِ؛ تَنَاسَتِ العَارَ، وَعُيُونَ النَّاسِ، وَكَلامَهُمْ، أَقْبَلَتْ تَطْلُبُ المَوتَ، فَهُوَ يَهُونُ إِنْ كَانَ مَعَهُ المَغْفِرَةُ وَالصَّفْحُ والرِّضْوانُ، فَتُعِيدُ عَليهِ أَنَّهَا حُبْلَى مِنَ الزِّنَا؛ ورَسُولُ اللهِ يَقُولُ: "وَيْحَكِ! ارْجِعِي فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ". لا يُرِيدُ أَنْ يَسْمَعَ كَلامَهَا، لا يُرِيدُ أَنْ يُثْبِتَ عَلَيها الحَدَّ، بَلْ أرَادَها أنْ تَتُوبَ فِيمَا بَينَهَا وَبَينَ اللهِ -تعالى-!.

وَلَكِنَّها تَعْزِمُ فَتَقُول يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَاكَ "تُرِيدُ أَنْ تُرَدِّدَنِي كَمَا رَددتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ!"، فَأخَذَتْ تُنَاشِدُ رَسُولَ اللهِ أنْ يُقِيمَ عَليها حُكْمَ اللهِ -تعالى-! فَقَالَ لَها -صلى الله عليه وسلم-: "اذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي"... لَعَلَّها تُعِيدُ النَّظَرَ فَتَسْتَتِرَ بِسِتْرِ اللهِ عَليها.

نَعَمْ، لَقَدْ رَجَعَتْ إلى بَيتِهَا، وَلَكِنَّ حَرَارَةَ الذَّنْبِ أَحَرَقَت فُؤَادَها، وَذِكْرَ اللهِ عَمَرَ وَقْتَهَا، وَصِدْقَ الَّلجَأِ إلى اللهِ عَدَّلَ مَسِيرَتَها؛ لَقَدْ حَمَلَتْ طِفْلَهَا تَسعَةَ أَشْهُرٍ، وَهِي تَعْلَمُ أَنَّها مُفَارِقَته، يَكْبُرُ جَنِينُها وَتَكْبُرُ آلامُها وَحَسَرَاتُهَا! وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ تُغَيِّرْ مَوقِفَهَا وَلَمْ تُبَدْلْهُ؛ لِسَانُ حَالِهَا:

فَاغْفِرِ الَّلهُمَّ رَبِّي ذَنْبَنَا *** ثُمَّ زِدْنَا مِنْ عَطَايَاكَ الجِسَامِ

لا تُعَاقِبْنَا فَقَدْ عَاقَبَنَـا *** قَلَقٌ أَسْهَرَنا جُنْـحَ الظَّـلامِ

وَمَا إنْ وَضَعَتْ طِفْلَهَا إلَّا وَجَاءَتْ مُسْرِعَةً إلى رَسُولِ الهُدَى والرَّحْمَةِ وَقَالَتْ: هَذَا طِفْلِي بَينَ يَدَيكَ فَطَهِّرْنِي يا رَسُولَ اللهِ، فَيَنْظُرُ إليهِ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَلْفُوفَاً بِخِرْقَةٍ، وَقَلْبُ الرَّسُولِ يَتَفَطَّرُ أَلَمًا وَحُزْنًا، وَيَنْظُرُ إلى أُمِّهِ وَيَقُولُ: لاَ نَرْجُمُهَا وَنَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ، "اذْهَبِي حَتَّى تُرْضِعِيهِ فَتَفْطِمِيهِ"، وَلِسَانُ حَالِ نَبِيِّنَا يَقُولُ: اذْهَبِي وَلا تَعُودِي.

فَأَمْضَتْ حَولَينِ كَامِلَينِ، وَمَا تَزْدَادُ إلًّا إِيمَانَاً وَتَسْلِيمَاً وَقُرْبَاً مِنْ اللهِ -تعالى- واشْتِيَاقَاً إلى (جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [آل عمران:133-136].

فَهَلْ انْتَهى الْمَشْهَدُ عِنْدَ ذَلِكَ؟ كلا وربي!.

أَقُولُ ما سَمِعتُمْ وأستَغْفِرُ اللَهَ لي وَلَكُمْ وَللمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍّ وَخَطِيئَةٍ فاستَغْفِرُوهُ؛ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخطبةُ الثَّانِيةُ:

الحمدُ للهِ شَدِيدِ الْمِحَالِ، نَشهدُ أَلَّا إِلَهَ إلاَّ اللهُ وحدَه لا شريكَ لَهُ الكَبِيرُ المتعَالِ، وَنشهَدُ أنَّ َنَبِيَّنا مُحمَّدَاً عبدُ اللهِ ورَسُولُهُ، حَذَّرَ من الغِوايَةِ والضَّلالِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليه وعلى جميعِ الصَّحبِ والآلِ، ومن تَبِعَهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يومِ المآلِ.

أمَّا بعدُ: فَأُوصِيكم ونَفسي بِتقوَى اللهِ وتَعظِيمهِ، ولا تَكُونُوا مِمَّن استَولَت عليهم الغَفَلَةُ، واستَحوَذَ عليهم الشَّيطانُ فَأنسَاهُم ذِكرَ اللهِ.

أيُّها المُؤمِنُونَ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ: إنَّ لِلإيمَانِ لَحَلاوَةً، وإنَّ لِلمَعْصِيَةِ فِي قَلْبِ المُؤمِنِ لَحَرَارَةً تَجْعَلُهُ سُرْعَانَ ما يَؤُوبُ وَيَتُوبُ، وَيقْلِعُ وَيَنْتَهِي، وَيَسْتَغْفِرُ وَيَنْدَمُ، وَيَعْزِمُ ألَّا يَعُودَ.

هَكذا كانَتِ الغَامِدِيَّةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْها وَأَرضاهَا-، فَبِقَدْرِ مَا يَرُدُّها رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِقَدْرِ مَا تُسْرِعُ فِي العَودِ وَحُبِّ التَّطْهِيرِ! رَدَّها رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لِتَبْقَى بَعِيدَةً عَنْ عينيهِ حَولَينِ كَامِلَينِ لَعَلَّها لا تَعُودُ؛ وَلَكِنَّها تَعُودُ وَمَعَهَا طِفْلٌ قَدْ فَطَمَتْهُ وَفِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ قَدْ مَسَكَتْهُ! هَا هُوَ يَأَكَلُ الطَّعَامَ بِنَفْسِهِ؛ أَلَيسَ هَذا مَا تُريدُ يا رَسُولَ اللهِ؟.

اللهُ أكبَرُ يا مُؤمِنينَ! عَجَبًا لِحَالِهَا! أَيّ إِيمَانٍ تَحْمِلُهُ؟ أَيّ إِصْرَارٍ وَعَزْمٍ تَمْلِكُهُ؟ ثَلاثُ سَنَوَاتٍ أو تَزِيدُ وَهِيَ تَرْجِعُ وَتَعُودُ! الأَيَّامُ تَتَعَاقَبُ، وَالشُّهُورُ تَتَوَالَى، وَأَجْزِمُ أنَّ لَهَا مَعَ كُلِّ لَحْظَةٍ أَلَماً، وَمَعَ كُلِّ لَيْلَةٍ قِصَّة!.

عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ جَعَلَتِ الْمَرْأةُ الغَامِدِيَّةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْها- رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَمَامَ أَمْرٍ وَاقِعٍ لا مَفَرَّ عَنْهُ ولا مَحِيْدَ؛ حِينَهَا نَادَى رَسُولُ اللهِ فِي أَصْحَابِهِ: "إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه"؛ مَنْ يَقُومُ عَلى الطِّفَلِ، يُرَبِّيهِ، وَيُطْعِمُهُ، وَيَسْقِيهِ، وَهُوَ رَفِيقِي فِي الجَنَّةِ؟ فَقَالَ أَنْصَارِيٌّ: "إِلَىَّ رَضَاعُهُ يَا نَبِيَ اللَّهِ". فَدَفَعَهُ إِلِيهِ.

ثُمَّ كَانَ مَا قَدَّرَ اللهُ وَحَكَمَ، لَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَحْفِروا لَهَا إِلَى صَدْرِهَا بَعْدَ مَا حَجَّبُوهَا، وَشَدُّوا عَلَيهَا ثِيَابَهَا، وَأَنْ يَدْفِنُوهَا إلى صَدْرِهَا ثُمَّ يَرْجمُوهَا بِالحِجَارَةِ عَلى رَأْسِهَا وَمَا ظَهَرَ مِنْهَا، فَبَدَأَ الصَّحابَةُ بِتَنْفِيذِ حُكْمِ اللهِ؛ تَطْهِيرَاً لَهَا، وابْتِغَاءَ الأَجْرِ مِنْ اللهِ -تعالى-، فَيَنْضَحُ دَمٌ عَلَى وَجْنَةِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَيسُبُّهَا، فَسَمِعَ نَّبِيُّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- سَبَّهُ إِيَّاهَا فَقَالَ: "مَهْلًا يَا خَالِدُ، لَا تَسُبَّهَا! فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ، لَقَدْ تَابَتْ تَوبَةً، لَو قُسِّمَتْ بَينَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَّ تَوْبَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلهِ -تعالى-؟!".

ثُمَّ غُسِّلَتْ وَكُفِّنَتْ وَصَلَّى عَليهَا رَسُولُ الرَّحْمَةِ والهُدَى -صلى الله عليه وسلم-.

حَقَّاً يَا مُؤمِنُينَ، إِنَّهُ مَشْهَدٌ مُؤَثِّرٌ، مَشْهَدُ امْرَأةٍ بَاعَتْ نَفْسَهَا لِلهِ -تعالى-، وَإِمَام لا يَتَنَازَلُ عَنْ حَقِّ اللهِ وَشَرْعِهِ، نَعْمْ، يُشْفِقُ عَلى العَاصِينَ، وَلَكِنَّهُ يُرَبِّي نُفُوسَ المُؤمِنِينَ عَلى قَولِ أحْكَمِ الحَاكِمِينَ: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:179].

أيُّها المُؤمِنُونَ بِاللهِ واليومِ الآخِرِ: القِصَّةُ تَربِيَةٌ لِلمُسلِمينَ على خَشْيَةِ اللهِ حَقَّاً وَصِدْقَاً، خَشْيَةٌ تَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَى عَمَلٍ مَحْمُودٍ، وَتَدْفَعُ إِلى العَمَلِ الصَّالِحِ، وَتُنَفِّرُ مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ وَإثْمٍ.

الخَشْيَةُ الحَقَّةُ تُرَبِّي قَلْبَ المُؤمِنِ أنْ يَنْظُرَ إِلَى عَظَمَةِ مَنْ عَصَى، لا إِلَى صِغَرِ المَعْصِيَةِ، قَالَ -جَلَّ وَعَلا-: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى) [الأعلى:10].

القِصَّةُ تَفْتَحُ لَنا بَابَ أمَلٍ كَبِيرٍ: أنَّ التَّوبَةَ تَكُونُ إلى اللهِ مُبَاشَرَةَ فَلا حَاجِزَ بَيْنَكَ وَبَينَ اللهِ -تعالى-، ولا وَاسِطَةَ بَيْنَكَ وَبَينَ اللهِ -تعالى-، فَمَا عَليكَ إلَّا صِدْقُ الَّلجَأِ إليهِ -سُبْحَانَهُ-.

وَتَأمَّلواُ قَولَ اللهِ -تعالى-: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء:110].

التَّوبَةُ بَابُ المُؤمِنِينَ، وَسُلوَانُ الخَائِفِينَ، التَّوبَةُ تَطْهِيرٌ مِنْ الذُّنُوبِ، وَجَبٌّ لِمَا قَبْلَهَا، وَ"التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لا ذَنْبَ لَهُ"، (أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة:74].

عبادَ اللهِ: عَظِّموا اللهَ بِقُلُوبكم وجوارِحكُم، واقدُرُوهُ حقَّ قَدرِهِ. ربَّنا ظَلمْنَا أَنفُسَنا، وإنْ لَم تَغفِرْ لَنا وَتَرْحمْنا لَنَكُونَنَّ مِن الخَاسِرينَ، اللهمَّ املأ قُلُوبَنا بِحُبِّكَ وتَعظِيمكَ يا رَبَّ العَالمينَ.

اللَّهُمَّ...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي