إن مما يدعو للاعتبار والتفكر في آيات الله ما نعيشه، ونواجهه هذه الأيام من شدة حرارة الجو الذي ضاقت به صدور أقوام فتذمروا، وربما سخطوا وندبوا حظهم أن كانت بلادهم بهذه الحرارة. ولكن المسلم العاقل له نظرٌ آخر، نظر الاعتبار والتأمل في بديع حكمة الله. وإن لشدة الحر حكماً ودلالات كثيرة، فمن ذلك: بيان ضعف هذا الإنسان، فالواحد منَّا قد لا يستطيع أن يقف الدقائق المتواصلة المعدودة في وهج الظهيرة، وما أن يرتفع النهار حتى يبحث عن مكان يُكِنُّه، ويظلُّه عن الشمس، بل ويبحث لسيارته كذلك مكاناً ظليلاً.
الحمد لله أبان لعباده من آياته ما به عبرةٌ للمعتبرين، وهداية للمهتدين؛ وجعل في خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار آيات للمتقين.
أشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله – يا عباد الله- واحمدوه على ما أراكم من آياته التي تعرفون بها وحدانيته، وكمال ربوبيته، واستحقاقه للعبادة دون غيره.
فإن هذا الكون العظيم كتاب مفتوح، يقرأ بكل لغة، ويدرك في كل لحظة (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) [ق:8].
فهذه السموات رفعها الله بغير عمدٍ ترونها، وهذه الأرض بسطها وذللها، وقال تعالى: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [غافر: 57].
وهذا الليل المهيب، يغشاك بظلامه وسكونه المريب، فتفزع إلى ربك مستعيذاً بالله من شره، (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ)[الفلق:3].
ثم يعقبه صبح يتنفس مؤذناً ولادة يوم جديد، (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى) [الأنعام:60].
وهكذا الحال في مطلع الشمس والقمر وغروبهما، (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [يس: 38- 39].
إن هذه التغيرات في هذه المخلوقات العظيمة لهي رسالة لكل ذي عقل.
رسالة واضحة أن هذه الحياة الدنيا لا قرار لها، وداوم حالها من المحال فيها.
فمبناها على الزيادة والنقص، والفرح والحزن، فما تعطيك شيئاً إلا وقد أخذت منك أشياء! تناديك بلسان حالها: "لست لك بدار"، وتنبهك بتقلب أحوالها :"اعمل لما خُلقت له".
لو كانت الدنيا لنا لكانت لمن قبلنا، (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس:101].
إن العاقل البصير يرى في كل ما حوله آية تذكِّره بعظمة الله، وتقوده إلى الإخبات والإنابة إلى مولاه، فإن كان مما يوافق رغبته، ويفرح به قلبه، علم أنه مطالب بعبادة عظيمة، عبادة الشكر والاعتراف بالفضل لأهله، ثم سأل الله من فضله.
وإن كان بضد ذلك مما يحزن قلبه، ويضيق به صدره تذكر العبادة الأخرى، عبادة الصبر وحبس النفس عما يسخط الله، وانتظر فرج الله وتيسيره لأن مع العسر يسراً.
ومصداق هذا في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» (أخرجه مسلم: 2999).
عباد الله: إن الله خلق لعباده دارين، دار المرور يبقون فيها ما شاء الله أن يبقوا، في أعمار قدَّرها الله لهم، وفاوت بينهم لحِكَمٍ عظيمة، ودار قرار يستقرون فيها (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى:7].
وجعل ما في الدار الأولى من النعيم يذكِّر بنعيم الجنة، وما فيها من الألم يذكِّر بألم النار وعذابها.
وإن مما يدعو للاعتبار والتفكر في آيات الله ما نعيشه، ونواجهه هذه الأيام من شدة حرارة الجو الذي ضاقت به صدور أقوام فتذمروا، وربما سخطوا وندبوا حظهم أن كانت بلادهم بهذه الحرارة.
ولكن المسلم العاقل له نظرٌ آخر، نظر الاعتبار والتأمل في بديع حكمة الله.
وإن لشدة الحر – يا عبد الله – حكماً ودلالات كثيرة أدعوك في هذا المقام للنظر والتأمل في شيء منها:
فمن ذلك: أن الله جعل هذا الحر سبباً لتطهير الأرض، وتنقية الأبدان، وطيب الثمار ونضجها.
ومن ذلك: بيان ضعف هذا الإنسان المخلوق الذي ربما تكبَّر على بني جنسه، وأخذته العزة بالإثم.
فالواحد منَّا قد لا يستطيع أن يقف الدقائق المتواصلة المعدودة في وهج الظهيرة، وما أن يرتفع النهار حتى يبحث عن مكان يُكِنُّه، ويظلُّه عن الشمس، بل ويبحث لسيارته كذلك مكاناً ظليلاً.
وربما اعتذر عن دعوة يدعى إليها بأن الحر شديد، وآثر أن يبقى في بيته حتى لا يتأذى بشدة الحر.
ولا يقبل أن يشرب ماء إلا أن يكون مبرداً يدفع به ظمأ الهاجرة.
وبعض الناس ربما تغيرت أحوالهم، قل وساءت ألفاظهم لا لشيء إلا لأن الجو حار.
بل وصلت الحال أن يموت أقوام في بعض البلاد بسبب شدة الحر.
أليست هذه – يا عباد الله – أمثلة تبين لك ضعف هذا الإنسان، وقلة حيلته؟!!.
اللهمَّ عاملنا بعفوك.
ومن دلالات وحكم شدة الحر ما ثبت في "الصحيحين" من حديث أَبي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- :«اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ فِي الْحَرِّ – من سموم جهنم- وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ البرد من زمهرير جهنم». (أخرجه البخاري: 3260، ومسلم: 617).
ومن الحكم والدلالات في شدة الحر أن يتذكر الإنسان وهو يمسح العرق عن جبينه، ويزيل أذيَّته بمنديله، أن يتذكر قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا». قَالَ وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ. (رواه مسلم: 2864).
أجل ، يا عباد الله:
إن أشد ما نجده من الحر هو من فيح جهنم، هكذا أخبرنا نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- بهذا الأمر الغيبي، الذي يبعث في النفس المؤمنة مزيد إيمان وتصديق.
فشدة الحر تذكِّر –يا عباد الله– بمصير الكافرين، والعاصين في نار جهنم وهم يصطرخون فيها.
ولئن اجتهدنا في اتقاء هذا الحر الدنيوي أو تخفيفه فأصلحنا وسائل التكييف والتبريد في بيوتنا وسياراتنا وهذا حسن منَّا – إن شاء الله – ولكن ما هو اجتهادنا في اتقاء الحر العظيم والسموم المقيم (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) [التوبة:81].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: « نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ »، قَالُوا: وَاللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:« فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا». (رواه البخاري 3265، ومسلم: 2843).
ولقد جعل الله نارنا هذه – نار الدنيا – جعلها الله تذكرة لنار الآخرة (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً) [الواقعة:73].
فيا من تتلى عليه أوصاف جهنم، ويشاهد تنفسها كل عام- مرة أو مرتين - حتى يحس به، وهو مصرٌ على ما يقض دخولها، ألك صبرٌ على سعيرها وزمهريرها ؟
(رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) [الفرقان: 65- 66].
أقول قولي هذا ....
الحمد لله رب العالمين...
أما بعد: فاتقوا الله – يا عباد الله – واعلموا أن شدة الحر ليست عذراً في التكاسل عن واجب، ولا في الوقوع في محرم، بل ولا في التهاون والتخلف عن مستحب، ولقد كان الصحابة –رضي الله عنه– يبايعون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في المنشط والمكره، أي: في وقت نشاطهم وإقبالهم، ووقت كُرههم وإدبارهم، ومن ذلك ما قد يلحق بعض النفوس من فتور ورغبة عن الخير بسبب شدة الحر.
والأجر على قدر النصب والتعب.
وإن السلف الصالح لم يعرفوا شيئاً مما عرفناه من وسائل الراحة والتكييف، والتبريد، وكانوا أحرص الناس على العبادة، وكانت مساجدهم المفروشة بالحصباء، والمسقوفة بالجذوع والسعف، تمتلئوا بهم ، ويحضر إليها صغيرهم قبل كبيرهم.
وبلغت بهم الحال إلى ما حدَّث به خَبَّابٍ – رضي الله عنه -قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ حَرَّ الرَّمْضَاءِ،.. (رواه مسلم: 619).
يعني في أرجلهم إذا قاموا للصلاة.
وقال أَنَسِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي شِدَّةِ الْحَرِّ فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ وَجْهَهُ مِنَ الأَرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ. (رواه البخاري 1208، ومسلم: 620).
وحدَّث سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- أنهم يجمعون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أي: يصلون الجمعة- إذا زالت الشمس ثم يرجعون يتتبعون الفيء –أي: الظل-، وما ذاك إلا اتقاء لحر الشمس.
ولو ذهبنا نستعرض شيئاً من هديه -صلى الله عليه وسلم-، وهدي أصحابه، وكيف كانت همتهم في عبادة ربهم، وأنه لم يعقهم عن ذلك شدة حر، مع أخذهم بالأسباب المباحة لتخفيف شدته، فمن ذلك:
ما حدَّث به أَبو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ حَتَّى يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلاَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وَعبد الله ابْنِ رَوَاحَةَ. (رواه البخاري: 1945، ومسلم: 1122).
وروى مالك عن بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصب الماء على رأسه من العطش أو من الحر. (الموطأ: 651).
يعني وهو صائم.
بل إن شدة الحر لم تمنع النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحبه من الخروج للجهاد، ذروة سنام الإسلام، ففي صيف العام التاسع من الهجرة خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعه ثلاثون ألفاً من أصحابه مستجيبين لقوله تعالى: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا)[التوبة:41].
خرجوا لغزوة تبوك ولم يتخلف عن هذه الغزوة إلا منافق مغموس في نفاقه، أو رجل ممن عذر الله من الضعفاء؛ وأما ظروف هذه الغزوة فاستمع إلى ما قاله كعب بن مالك في ذلك.
قال:"وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُرِيدُ غَزْوَةً إِلاَّ وَرَّى بِغَيْرِهَا حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ غَزَاهَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَرٍّ شَدِيدٍ وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا وَعَدُوًّا كَثِيرًا".(أخرجه البخاري: 4418، ومسلم: 2769).
فهذه – يا عباد الله – إشارات تدلكم على أن شدة الحر فيه من آيات الله الشيء الكثير، وإنه لم يكن مانعاً يوماً من الدهر عن عمل صالح، وهكذا شأن أصحاب العقيدة، والإيمان الراسخ لا يفرحون بالثمار والظلال، بل يؤثرون الحر والظمأ والجوع في سبيل الله، فهي غنيمتهم التي يدخرونها لآخرتهم.
فاعتبروا وتأسوا بحال نبيكم -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، ومن سار على دربهم من السلف الصالح.
واعلموا أن ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه.
اللهمَّ قنا برحمتك عذاب الجحيم، واجعل منازلنا ووالدينا في جناتك جنات النعيم.
اللهمَّ أصلح أحولنا، وأحوال المسلمين في كل مكان، اللهمَّ ولِّ علينا خيارنا، وقنا شر أشرارنا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي