أهمية الدعاء.. وما يشرع في ذي القعدة

صالح بن مقبل العصيمي
عناصر الخطبة
  1. أهمية الدعاء .
  2. شروطه .
  3. آدابه .
  4. ما يشرع في ذي القعدة .

اقتباس

إنَّ منْ أعظمِ العباداتِ وأَجَلِّهَا عبادةَ الدُّعَاءِ؛ فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى الإيمانِ والإخلاصِ، والتوحيدِ واليَقينِ، قالَ -تَعَالَى-: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر:60]...

الخطبة الأولى:

إنَّ الْـحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتِغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنَا، وسيئاتِ أعمالِنَا، مَنْ يهدِ اللهُ فلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ.

وأشهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ وَخَلِيلُهُ، وَصَفْوَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، صَلَّى اللهُ عليه، وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.

أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- حقَّ التَّقْوَى، واعلَمُوا أنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى.

وَاعْلَمُوا بِأَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. وَعَلَيْكُمْ بِالْـجَمَاعِةِ؛ فَإِنَّ يَدَ اللهِ مَعَ الْـجَمَاعَةِ، وَمَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ.

عبادَ اللهِ: إنَّ منْ أعظمِ العباداتِ وأَجَلِّهَا عبادةَ الدُّعَاءِ؛ فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى الإيمانِ والإخلاصِ، والتوحيدِ واليَقينِ، قالَ -تَعَالَى-: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر:60]، فَهَذَا وعدٌ مِنَ اللهِ -جلّ وعلا- أَنَّهُ سَيجيبُ الدَّاعيَ إِذَا دَعَاهُ، حيثُ عَلَّقَ في هذهِ الآيةِ الإجابةَ بالدُّعاءِ، بتعليقِ الـمُسَبَّبِ بالسَبَبِ، وبِأَنَّ مَنْ تَركَ الدُّعَاءَ فإِنَّهُ مِنْ أهلِ الاستِكبارِ، ولا أقبحَ مِنْ هَذا الاسْتِكبَارِ! فَكيفَ يستكبرُ مخلوقٌ عَنْ دُعَاءِ خالِقِهِ ورازِقِهِ، ومُوجِدِه ِمنْ عَدَمٍ، وخالِقِ العالَمِ كُلِّهِ؟ فَلا شكَّ أنَّ هَذَا لا يفعلُهُ إِلا مخبُولٌ أصابَهُ العَتَهُ والجُنُونُ!.

وَقَالَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: "مَنْ لمْ يسألِ اللهَ يَغضبْ عليهِ" أخرجَهُ البُخَاريُّ في الأدبِ المُفْرَدِ بِسَندٍ صَحِيحٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: "مَنْ لَا يَدْعُو اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ"، وَلَا يَغْضَبُ اللهُ إِلَّا عَلى تَرْكِ فِعْلٍ وَاجِبٍ، أَوْ فِعْلِ شَيْءٍ مَحَرَّمٍ.

فَاللهُ -سُبحانَهُ وَتعَالَى- قَرِيبٌ منْ عبادِه، يعلمُ سرَّهمْ وَنَجْوَاهُمْ، قالَ -تَعَالَى-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة:186]. وهذا وعدٌ منْهُ -سُبحانَهُ وَتعَالَى-، بإجابةِ الدعاءِ، وهو لا يخلفُ الميعادَ، وقالَ -تَعَالَى-: (قُلْ مَا يَعْبَؤُاْ بِكُمْ رَبِّى لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) [الفرقان:77].

بلْ وَنَصَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، على أنَّ الدُّعاءَ هوَ العبادةُ، حيثُ قالَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: "الدعاءُ هوَ العبادةُ -ثمَّ قرأَ-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)" رواهُ أبو داودَ بسندٍ صحيحٍ.

وَقَالَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: "ليسَ شيءٌ أكرم على اللهِ -تَعَالَى- مِنَ الدّعَاءِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُه بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَمَعْنَى قَولِهِ: أكرمُ، يَعْنِى: أنفع تَأثِيرَا، وَأَكْثَر فَضْلًا؛ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّذَلُّلِ والانكِسَارِ، والاعترافِ بفضْلِهِ وكمالِ قوتِهِ وغِناهُ -عزَّ وجلَ-، وعلوِ منزلةِ الدعاءِ عندَهُ.

والدعاءُ، كما قالَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: "ينفعُ مما نزلَ ومما لمْ ينزلْ، فعليكمْ -عبادَ اللهِ- بالدعاءِ" رواه الترمذيُّ وغيرُه بسندٍ صحيحٍ؛ وَلِذَا قَالَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- "أَبْخَلُ النَّاسِ الَّذِي يَبْخَلُ بِالسَّلَامِ، وَإِنَّ أَعْجَزَ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ بِالدُّعَاءِ" رَوَاهُ البخاريُّ فِي الْأدَبِ الْمُفْرَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.

وَلِلدُّعَاءِ شُرُوطٌ وَآدَابٌ: وَأَوَّلُ هَذِهِ الشُّرُوطِ وَالْآدَابِ: الْإِخْلَاَصُ لله -جلّ وعلا-، لِقولِهِ -تَعَالَى-: (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [غافر:14]، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: "إِجَابَةُ الدُّعَاءِ تَكُونُ عَنْ صِحَّةِ الاعْتِقَادِ، وَعَنْ كَمَالِ الطَّاعَةِ؛ لِأَنّهُ عَقَّبَ آيَةَ الدُّعَاءِ بِقولِهِ: (فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)".  

وَلِذَا ذكرَ اللَّهُ أَنَّ أهْلَ الشِّرْكِ وَالْكَفْرِ إذاَ وَقَعُوا فِي الْكُرَبِ أَخْلَصُوا لَهُ، قَالَ -تَعَالَى-: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت:65].

الثانِي: أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ بِتَضَرُّعٍ وَخُفيةٍ، لِقولِهِ -تَعَالَى-: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [الأعراف:55].

وَكَلَمَّا كَانَ الدُّعَاءُ سِرًّا بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ فَهُوَ أقْرَبُ إِلَى الْإِخْلَاَصِ، وَفِيهِ السَّلَاَمَةُ مِنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ. كَذَلِكَ؛ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّعَاءِ تَذَلُّلٌ وَاسْتِكَانَةٌ، وَخُشُوعٌ وَانْكِسَارٌ بَيْنَ يَدَي اللَّهِ، لِأَنّهُ أعْظَمُ إيمَانًا وَتَعْظِيمًا، وَخُشُوعًا، وَتَضَرُّعًا، وَإِخْلَاَصًا؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُخْلِصِ وَالْخَاضِعِ جَدِيرٌ أَلَّا يُسْتَجَابَ دُعَاؤُهُمْ، فَيُكْرَهُ -كَمَا نَصَّ أهْلُ الْعِلْمِ- عِنْدَ الدُّعَاءِ رَفْعُ الصَّوْتِ، وَالنِّدَاءُ، وَالصِّيَاحُ، وَالصّرَاخُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ سُوءِ الْأدَبِ مَعَ اللَّهِ.

وَمِنْ جَهْلِ بَعْضِ النَّاسِ وَقِلَّةِ فِقْهِهِ، يَظُنُّ أَنّهُ إِذَا رَفَعَ صَوْتَهُ بِالدُّعَاءِ كَانَ أَحْرَى بِالْإِجَابَةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَاللَّهُ -تَعَالَى- يَعْلَمُ السِّرَّ، وَأَخْفَى؛ وَلِذَا قَالَ -تَعَالَى-: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) [الأعراف:205].

الثَّالِثُ: عَدَمُ الْاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ؛ لِقولِهِ -تَعَالَى-: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ). وَصُورُ الْاِعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ كَثِيرَةٌ، مِنهَا رَفْعُ الصَّوْتِ الْمَبَالغُ فِيهِ، وَالصُّرَاخُ، أَوْ أن يَسْأَلَ اللَّهَ مَسَائِلَ لا تَجُوزُ، كَأَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يَكُونَ ملَكًا أو نبيًّا، أَوْ أَنْ يَتَنَطَّعَ فِي السُّؤالِ، أَوْ يُفَصِّلَ التَّفَاصِيلَ الدَّقيقَةَ فِي الدُّعَاءِ؛ وَفَّى الْأثَرِ، حَيْثُ سَمِعَ أحَدُ الصَّحَابَةِ ابْنَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِي أَسْأَلُكَ الْقَصْر الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ إِذَا دخلتُهَا، فَقَالَ لَهُ وَالِدُهُ: أي بُنَيَّ، سَل اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَتَعَوّذْ بِهِ مِنَ النَّارِ، فإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يَقُولُ: "إِنّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الْوُضُوءِ وَالدُّعَاءِ" رَوَّاهُ أَبُو داوودَ وَغيرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.

وَمِنْ الْاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ سُؤَالُ اللَّهِ الْمَعُونَةَ عَلَى اِرْتِكَابِ الْمُحْرِمَاتِ، كَمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَسْرَقَ فَيَسْأَلَ اللَّهَ التَّيْسيرِ، أَوْ كَمِنْ يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُيَسِّرَ لهُ الْحُصُولَ عَلَى الْخَمْرِ، أَوْ الزِّنَا، أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْمُحْرِمَاتِ.

الرَّابعُ: أَلَا يَكُونَ الدُّعَاءُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: "لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَاَدِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى خَدَمِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِ سَاعَةً نِيلَ فِيهَا عَطَاءٌ فَيُسْتَجَابُ مِنكُمْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الدُّعَاءِ جَلْبُ النَّفْعِ وَدَفْعُ الضّرِّ، وَالدُّعَاءُ عَلَى هَؤُلَاءِ ضُرٌّ مَحْضٌ، وَلِذَا نَجِدُ بَعْضَ النَّاسِ يَدْعُو عَلَى أَوْلَاَدِهِ بِالْخَيْبَةِ وَالْخُسْرَانِ وَالْمَرَضِ وَالْمَوْتِ ثُمَّ يَنْدَمُونَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَعَوِّد نَفْسَكَ عَلَى الدُّعَاءِ لهُمْ، لَا عَلَيهِمْ.

الخامسُ: عَدَمُ تَعَمُّدِ السَّجْعِ فِي الدُّعَاءِ، فَلَا يَظُنُّ مَنْ بَالَغَ فِي السَّجْعِ أَنْ فِي دُعَائِهِ حُضُور قَلْبٍ وَذِلَّة وَضَرَاعَة، بَلْ فِيهِ اِنْشِغَالُ القلبِ باستحضارِ السَّجْعِ؛ جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ نَصِيحَةِ ابْنِ عبَاسٍ -رَضْيَ اللَّه عَنهُمَا- لِأَحَدِ أَصْحَابِهِ: "فَاْنْظُر السَّجْعَ مِنَ الدُّعَاءِ فَاِجْتَنِبْهُ، فَإِنّي عَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وَأَصْحَابَهُ لَا يَفْعَلُونَ إلا ذَلِكَ" يعني: لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب.

السَّادسُ: الْجَزْمُ فِي الدُّعَاءِ، وَالْيَقِينُ فِي الْإِجَابَةِ، قَالَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: "إذا دَعَا أحَدُكُمْ فَلْيَعْزِم المَسْأَلَةَ، وَلا يَقُولَنَّ: اللَّهُمَّ إنْ شِئْتَ، فَأَعْطِنِي، فَإنَّهُ لا مُسْتَكْرِهَ لَهُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ بِاللَّهِ فِي الْإِجَابَةِ؛ وَلِذَا قَال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: "ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غافلٍ لاهٍ"رواهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.

السَّابعُ: عَدَمُ اسْتِعْجَال الْإِجَابَةِ، فَالْمُؤْمِنُ يُفَوّضُ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ، ملْحَّا عَلَيهِ، مُستيقِنا الْإِجَابَةَ مِنهُ، مُفَوّضَا أَمْرَهُ إِلَيْهِ، مُتَوَكِّلَا عَلَيهِ، وَلَيْسَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُحَدِّدَ لِلْإِجَابَةِ مَوْعِدًا؛ لِذَا قَالِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: "يُسْتَجَابُ لِأحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ؛ يقولُ: دَعَوْت فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي" رَوَاهُ البخاريُّ وَمُسْلِمٌ، وَفي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: "مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ"، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: يَقُولُ: "قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَهَذَا يَدُلُ عَلَى جَهْلِ الدَّاعِي بِرَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَعَلَى ضَعْفِ يَقِينِهِ وَتَضَجُّرِهِ وَمَلَلِهِ.

وَلِذَا؛ من الْأَخْطَاءِ فِي الدُّعَاءِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: اللَّهُمَّ لَا تُغَادِرْ هَذَا الْجَمْعَ إلا بِذَنْبِ مَغْفُورٍ، فَهَذَا مِنَ الْاِسْتِعْجَالِ، وَيُسْتَعَاضُ عَنهُ بِالْقَوْلِ، اللَّهُمَّ لَا تَدَعْ لَنَا ذَنَبَا...

الثَّامِنُ: الْوضُوءُ قَبْلَ الدُّعَاءِ، إِذَا تَيَسَّرَ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ الْأدَبِ وَحُسْنِهِ، حَيْثُ ثَبَتَ عَنهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فِيمَا رَوَى البخاريُّ وَمُسْلِمٌ أَنّهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- حِينَمَا بَلَغَهُ قَوْلُ أَبِي عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَ اِسْتِشْهَادِهِ يَوْمَ حُنَيْنٍ: "أَقْرِئِ النَّبِيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- السَّلاَمَ، وَقُلْ لَهُ: اسْتَغْفِرْ لِي"، فَدَعَا -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ" رَوَاهُ الْبًخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَلَوْ دَعَا مِنْ غَيْرِ وُضُوءٍ فَلَا بَأسَ.

التَّاسِعُ : اِسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، إِذَا تَيَسَّرَ ذَلِكَ، وَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ الْآدَابِ، حَيْثُ رَوَى البخاريُّ، أَنَّ النبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- "اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَا عَلَى نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ"، وَرَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ النبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- "اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ يَوْمِ بَدْرِ"، وَثَبَتَ عَنهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أَنّهُ دَعَا غَيْرَ مُسْتَقْبِلٍ الْقِبْلَةَ، وَكَمَا قَالَ القرطبيُ: "فَإِنْ شَاءَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَحَسَنٌ، وَإِنْ شَاءَ فَلَا".

العَاشِرُ: رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الدُّعَاءِ، فِي غَيْرِ خُطْبَةِ الْجُمْعَةِ؛ لِذَا قَال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: "إِنَّ رَبَّكُمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إذاَ رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا"، رَواهُ أَبُو داودَ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ. وَجَاءَ بأسانيدَ صَحِيحَةٍ: "صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ حَتَّى يَضَعَ فِيهُمَا خَيْرًا"، فَاللَّهُ -سُبحانَهُ وَتعَالَى- لَا يُرَدُّ الدُّعَاءَ الذي رفعت فِيهِ الأيدي فَارِغَةً مَنِ الْعَطَاءَ، فَفِي رَفْع الْيَدَيْنِ إيقاظٌ لِلْقُلبِ، وَعَدَمُ الْغفلةِ، وَاِسْتِشْعَارُ الْعَبْدِ لِعَظَمَةِ خَالِقِهِ وَعُلُوِّهِ عَلَى خلقِهِ، فَلَهُ أَنْ يَرْفَعَ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ، وَإِنْ شَاءَ اِبْتَهَلَ إِلَى رَبِّهِ بِرَفْعِ يَدَيْهِ مَدًّا نَحوَ السَّمَاءِ حَتَّى يُرى بَيَاضُ إِبطَيْهِ.

الحَادِي عَشَرَ:، حُضورُ الْقَلْبِ فِي الدُّعَاءِ؛ لِقَوْلِهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، "فَإِن اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ لِعَبْدٍ دَعَاهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ غَافِلٍ" رَوَاهُ أُحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَفِى رِوَايَةٍ: "وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ" رَوَاهُ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "إِنّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ مسَمِّعٍ، وَلَا مُرَاءٍ، وَلَا لَاعِبٍ، إلا دَاعٍ دُعَاءً يَثْبُتُ مِنْ قَلْبِهِ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي الْأدَبِ الْمُفْرَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ. فَغفلَةُ الْقُلبِ حَالَ الدُّعَاءِ تُبْطِلُ قُوَّتَهُ، وَتُضْعِفُ أَثرَهُ، فَإذاَ لَمْ يُمْكِنْ للدَّاعِي أَنْ يُحَضِّرَ قلبَهُ وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ إلا الدُّعَاءُ، فَالدُّعَاءُ أَفْضُلُ مِنْ تَرْكِهِ، لَكِنْ يَحْرصُ عَلَى حُضورِ قَلْبِهِ قَدْرَ الْإِمْكَانِ.

الثَّانِي عَشَرَ: أَنْ يَبْدَأَ بحَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيهِ، فَلَا يليقُ أَنْ يُنَاجِيَ اللَّهَ -سُبحانَهُ وَتعَالَى- دُونَ أَنْ يُثْنِيَ عَلَيهِ، وَقَدْ سَمِعَ رَسُولُ اللَّه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، رَجُلا يَدْعُو فِي صَلاتِهِ لَمْ يَحْمَدْ رَبَّهُ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- , فَقَالَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: "عَجِلَ هَذَا"، ثَمَّ دَعَاهُ فقالَ لهُ: "إذاَ صَلَّى أحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ رَبِّهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، ثُمَّ يَدْعُو بِمَا شَاءَ" رَوَّاهُ أَبُو داوُدَ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.

الثَّالِثُ عَشَرَ: أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، وَدَلَّ عَلَيهِ الدَّليلُ السَّابِقُ، وَجَاءَ فِي الْأثَرِ الذي رَوَاهُ الطبرانيُ وَغيرُهُ، عَنْ عَلِيٍّ -رَضِي اللَّهُ عَنهُ-: " كُلُّ دُعَاءٍ مَحْجُوبٌ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَى النبيِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، وَهَذَا الْأثَرُ لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْلُوَ الدُّعَاءُ مِنَ الصَّلَاَةِ عَلَى النبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فِي أَوَلِهَ أَوْ آخرِهِ.

فَالَّذِينَ يُخَاطِبُونَ الْمُلُوكَ وَالْوجهَاءَ يَبْدَؤُونَ بِالثَّنَاءِ عَلَيهِمْ قَبْلَ سُؤَالِهِمْ، وَلِلَهِ الْمَثَلُ الْأعْلَى، فَهُوَ -سُبحانَهُ وَتعَالَى- أوْلَى وَأَجْدَرُ بِهَذَا الْمَقْصدِ الْعَظِيمِ، فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَلَا يُقَدِّمَ الْوَسِيلَةَ قَبْلَ الْغَايَةَ، بِاِسْتِعْجَالِهِ، فَوَسِيلَتُهُ لِتَحْقِيقِ غَايَتِهِ حَمْدُهُ لِرَبِّهِ، وَثَنَاؤُهُ عَلَيهِ، وَصَلَاَتُهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-.

الرَّابعُ عَشَرَ: أَنْ يَبْدَأَ الدّاعِي بِنَفَسِهِ إذاَ دَعَا لِغيرِهِ، لِمَا رَوَاهُ الترمذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنّهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- "كَانَ إِذَا ذَكَرَ أحَدًا فَدَعَا لَهُ بَدَأَ بِنَفْسِهِ"، وَحَثَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ، قَالَ -تَعَالَى-: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) [محمد:19]، وَلِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحشر:10].

وَلَكِنْ؛ إِذَا دَعَا لِإِنْسَانٍ دَعْوَةً خَاصَّةً، فَلَيْسَ بِلَاَزِمٍ أَنْ يَدْعُوَ لِنَفَسِهِ؛ كَدُعَائِهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- لِأَنَس وَلِغَيْرِهِ، أَمَّا إذاَ كَانَ سَيَدْعُو لِنَفْسِهِ وَغَيْرِهِ فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ، فَلَا يُؤْثِرُ عَلَيْهَا أحَدًا بِمَا يُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ.

الْخَامسُ عَشَرَ: الْإلْحَاحُ فِي الدُّعَاءِ، وَلِذَا كَانَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: "إذاَ دَعَا دَعَا ثَلَاثًا، وَإذاَ سَأَلَ ثَلَاثًا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَمِنْ الْإلْحَاحِ فِي الدُّعَاءِ تكْرَارُ الطَّلَبِ.

وَهَذَا مَا تَيَسَّرَ، أَعَانَنَا اللَّهُ عَلَى ذَكَرِهِ وَشُكْرِهِ وَحُسْن عِبَادَتِهِ.

جَعَلَنِـي اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ المقبولِينَ، ونَفَعَنِـي وَإِيَّاكُمْ بِالقرآنِ العظيمِ.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْب فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَخَلِيلهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً.

أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَاسْتَمْسِكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى.

عِبَادَ اللَّهِ: نَحْنُ فِي بِدَايَةِ الشَّهْرِ الثَّانِي مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَهُوَ شَهْرُ ذِي الْقِعْدَةِ، وسُمِّيَ بِهَذَا الْاِسْمِ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَقْعُدُ فِيهِ عَنِ الْغَزْوِ لِلتَّرْحَالِ، وَطَلِبِ الْكَلَأ، حَتَّى يَتَمَكَّنُوا مِنْ تَجْهِيزِ أَنَفَسِهِمْ، وَتَذْليلِ قعداتِهم وَتَرْوِيضِهَا لِلرُّكوبِ إِلَى الْحَجِّ.

وَهُوَ ثَانِي أَشْهُرِ الْحَجِّ الَّتِي قَالَ اللَّهُ -عزَّ وَجَلّ- فِيهَا: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ) [البقرة:197]، وَوَرد فِيهِ فَضِيلَتَانِ لَا يُزَادُ عَلَيهُمَا.

الْفَضِيلَةُ الْأُولَى: إِنَّهُ مَنِ الْأَشْهُرِ الَّتِي يَدْخُلُ الْحَاجُّ فِيهَا لِلنُّسُكِ سَوَاء كَانَ مُتَمَتِّعًا أَوْ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنُا، وَغَالَبُ مِنْ يحْرِمُونَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ يُحْرِمُونَ مُتَمَتِّعِينَ؛ وَلِذَا لَمَّا حَجَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فِي أَوَاخِرِ ذِي الْقِعْدةِ كَانَ قَارِنًا، ثُمَّ أَمَرَ أَصحَابَهُ أَنْ يُحِلُّوا إِحْرَامَهُمْ إِلَى التَّمَتُّعِ؛ رَفِقَا بِهَمْ وَرحمةً، قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: "لَوْ اِسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَحَلَلْتُ مَعَ النَّاسِ حِينَ حَلُّوا" رَوَاهُ البخاريُّ.

الْفَضِيلَةُ الثَّانِيَةُ: الْاِعْتِمَارُ فِيهِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ عُمَرِ النبِيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- كَانَتْ فِي ذِي الْقعدةِ، حَتَّى عمرتُهُ الَّتِي قرنهَا بِحِجَّتِهِ أَحَرَمَ بِهَا فِي ذِي الْقعدةِ، وَكَانَتْ عُمَرُهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أَرْبَعًا: عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَّةِ وَلَمْ يتمَّهَا بَلْ تَحَلَّلَ مِنهَا وَرَجَعَ، وَعُمْرَةُ الْقَضَاءِ مِنْ قَابِل، وَعُمْرَةُ الْجِعْرانَةِ عَامَ الْفَتْحِ فِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ لَمَّا قَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ، وَعُمْرَتُهُ فِي حَجَّةِ الْودَاعِ؛ كَمَا دَلَّتْ عَلَيهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ جَمَاهِيرُ أهْلِ الْعِلْمِ.

بَلْ فَضَّلَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ عمرةَ ذِي الْقعدةِ عَلَى عمرةِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ النبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- اِعْتَمَرَ فِي ذِي الْقعدةِ؛ وَلِذَا كَانَ كَثِيرٌ مَنِ السَّلَفِ يَحْرِصُ عَلَى أَدَاءِ الْعمرةِ فِي ذِي الْقعدةِ؛ اِقْتِدَاءً بالنبِيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-.

وَيُسْتَحَبُّ فِي الْعمرةِ سِيَاقَةُ الْهَدَيِ؛ وَهَذِهِ سُنَّةُ غَفَلَ عَنهَا كَثِيرٌ مَنِ النَّاسِ، مَعَ تَيَسُّرِ سِيَاقَةِ الْهَدْيِ فِي الْعُمْرَةِ أَكْثَرَ مِنهَا فِي الْحَجِّ، بَلْ وَفِى زَمَانِنَا هَذَا سِيَاقَتُهُ أَيْسَرُ، وَلكن الْعَجَلَةَ وَاِنْشِغَالَنَا عَنْ كَثِيرٍ مَنِ السُّنَنِ، حَرَمَنَا مِنهَا وَمَنْ فَضْلِهَا، إلا مِنْ رَحِم رَبُّكَ.

وَسِيَاقُ الْهَدْي فِي الْعمرةِ، فِعْلُ النَّبِيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وَأَصْحَابِهِ الْكرَامِ، وَدَليلُ سِيَاقَةِ الْهَدْيِ فِي الْعُمْرَةِ، مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي صَحِيحه، حَيْثُ قَال: "خَرَجَ النَّبِيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- زَمَنَ الحُدَيْبِيَةِ مِنَ المَدِينَةِ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِذِي الْحُلَيْفَةِ، قَلَّدَ النَّبِيُّ، -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، الْهَدْي وَأَشْعَرَ وَأَحْرَمَ".

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي صَحِيحِهِ، أَنَّ ابْنَ عَمَرَ -رَضِيَ اللَّه عَنهُمَا-: "أَهَلَّ بِعمرةٍ ثُمَّ اشْتَرِى الْهَدْي مِنْ قُدَيْدٍ".

وَسُئِلَ الشَّيْخُ الْعَلَاَمَةُ ابْنُ الْعُثَيْمِينِ: هَلْ مِنَ السّننِ المندثرةِ ذَبْحُ الْهَدْي بَعْدَ الْعمرةِ؟ فَأَجَابَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: نَعَمْ، هَذِهِ مِنَ السّنَنِ المندثرةِ، لَكنْ لَيِسَ منَ السُّنَّةِ أَنّكَ إِذَا اعْتَمَرَتَ اشْتَرِيتَ شَاةً وَذَبَحْتَهَا، السُّنَّةُ أَنْ تَسُوقَ الشَّاةَ مَعكَ تَأْتِي بِهَا مِنْ بِلَادِكِ، أَوْ عَلَى الْأقلِّ مِنَ الْمِيقَاتِ، أَوْ مِنْ أَدْنَى حِلٍّ عندَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَيُسْمَى هَذَا سَوق الْهَدْي، أَمَّا أَنْ تَذْبَحَ بَعْدَ الْعمرةِ بِدُونَ سَوْقٍ، فَهَذَا لَيْسَ مِنَ السّنةِ. اِنْتَهَى كَلَاَمُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ. قُلْتُ: وَمِنْ أَدْنَى الْحِلِّ، يَشْمَلُ جُزْءًا مِنَ الشَّرَائِعِ، وَعَرَفَةَ، وَالتَّنْعِيمَ، وغيرَها.

وأنصحُ نَفْسي وإِخْوَانِي مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ بِنَشْرِ السُّنَنِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْبِدْعِ؛ فَالسُّنَن تَقُومُ عَلى أنْقَاضِ الْبِدَعِ، وَالْبِدَعُ تَقُومُ عَلَى هدْمِ السُّنَنِ، وأَنَصْحُ كُلَّ اِمْرِئٍ يَتَيَسَّرُ لَهُ الْاعْتِمَارُ فِي ذِي الْقعدةِ أَنْ يَعْتَمِرَ؛ اقْتِدَاءً بالنبيِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، وَلَوْ سَاقَ مَعهُ هَدْيًا كَانَ أكَمَلَ، وَأفْضَلَ.

وَصَلُّوا وَسَلِمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-.                                   

اللَّهُمَّ...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي