إن استعجال الضوائقِ التي لم يحن موعدُها، والتنغيصَ بها على الحاضرِ؛ حمقٌ كبير في إدارة الحياة، وحتى لو كان المرء مصيباً فيما يتوقع ويستشرف من مستقبله؛ فإن إفساد الحاضر بشؤون المستقبل خطأ صرف، والواجب أن يستفتح الإنسان يومه، وكأنَّ اليوم عالمٌ مستقل بما يحويه من زمان ومكان ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين: في خضم أعباء الحياة المتلاحقة وأشغالها المرهقة، وفي زخم ما ينهال على المرء من تكاليفٍ وأعمالٍ، وما يتوالى على البشر من نوائب ومصائب - يضيق بعض الناس ذرعاً بواقعهم، ويظلون يتطلعون إلى أمنياتٍ رسموها في مستقبل أيامهم، ينتظرون أن يلدها الغيبُ ويبنون حياتهم عليها.
ثم تتأخر أمنياتُهم ولا يزالون على حالتهم من الترقب والوجل، لا يعيشون حياتهم ولا يبنون لمستقبلهم، وإنما يعيشون الآماني والأوهام، ويتوجسون وينتظرون الأقدار المجهولة، ضاربين لسعادتهم وسعادة ذويهم موعداً مجهولاً، لا يُدرَى هل تنجبُه الأيامُ والليالي أو يظلُّ أملاً كاذباً؟
تذوي زهرة أيامهم، ويُعجِّلون أسباب هرمهم، ويُشْقُون أهليهم وأولادَهم بانتظار المجهول، دون عمل منهم في أسبابه، أو سعي جاد في اكتسابه.
لمثل هؤلاء الرجال نقول: لماذا تخامرك الريبة ويخالجك القلق؟! وعلامَ تُشقي نفسَك وأهلَك وولدَك؟ خذ حديث الروح إلى الروح، فـ
حديث الروح للأرواح يسري *** وتدركه القلوب بلا عناء
هتفت به فطـار بلا جنـاح *** وشق أنينه صوت الفضاء
ومعـدنـه ترابـي ولكـن *** سرت في لحنه لغة السماء
عش -يا أخا الإسلام- في حدود يومك، فذاك أجدرُ بك وأصلحُ لحالك. أتخشى ألا تجد قوتَك بعد عامٍ؟! أم تخشى ألا تسافر في عطلة الصيف؟! أتخشى أن تفقد وظيفتك؟! أم تخشى أن يتوقف مصدرُ دخلك أو تطردَ من عملك؟ أم تخشى على مستقبل ذريتك؟ ومصيرهم بعد موتك؟
إذا كنت تخشى ذلك في المستقبل البعيد أو القريب - فعلامَ تُذهب السعادةَ عن حاضرك بأعباءِ مستقبلك؟! فكلُّ الناس يَرِد عليهم ما يَرِد عليك، ويجري عليهم ما يجري عليك، ولكل يوم رزق لله يُقسم، وهو الذي رزقك في أمسك، ورزقك في يومك، وسوف يرزقك في غدك، وسوف يرزق ذريتك من بعدك، فلا تبتئس، ولا تخف (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذريات:58] ، (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) [الذريات:22].
وفي مثل هؤلاء الذين يحزنون على مستقبلهم، ومستقبل أولادهم، ولا يشعرون بنعمة يومهم، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الترمذي وابن ماجة من حديث عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْأَنْصَارِيِّ -رضي الله عنه-: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ آمِنًا فِي سِرْبِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا".
وفي مثل هؤلاء القلقين على مستقبلهم وأرزاقهم وذرياتهم يقول الشاعر:
قد كان يكفيني ويكفي صبيتي *** أن يثمـر الزيتون والسمَّــاق
أو يخرج الرمان من أكمامـه *** واللـوز والتـفـاح والـدُّرَّاق
قد تقطع الأعناق عن أصحابها *** لـكنهـا لا تقطــع الأرزاق
ولرب سنبلة تفيض كرامـة *** ويكون فيهـا للنفـوس مـذاق
إنك تَملِكُ العالم كلَّه يومَ تجمعُ هذه العناصرَ كلَّها في يديك، فاحذر أن تحقِرها، أو تفرط فيها، فإن الأمانَ والعافيةَ وكفايةَ يومٍ واحدٍ فقط تتيح للعقل النير أن يفكِّر في هدوءٍ واستقامةٍ تفكيراً قد يغيِّر الله به مجرى التاريخ كلِّه? ناهيك عن حياة فرد واحد.
ذلك أن استعجال الضوائقِ التي لم يحن موعدُها، والتنغيصَ بها على الحاضرِ؛ حمقٌ كبير في إدارة الحياة، وحتى لو كان المرء مصيباً فيما يتوقع ويستشرف من مستقبله؛ فإن إفساد الحاضر بشؤون المستقبل خطأ صرف، والواجب أن يستفتح الإنسان يومه، وكأنَّ اليوم عالمٌ مستقل بما يحويه من زمان ومكان.
فاسع لليومِ ودعْ همَّ غدٍ *** فكلُّ يومٍ لك فيه مضطرب
وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصاً وتروح بطاناً".
وروي أن رجلاً قال لعبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-: "ألستُ من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم. قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم. قال: فأنت من الأغنياء، قال: فإن لي خادماً. قال: فأنت من الملوك".
وكانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادمٌ ودابةٌ وامرأةٌ؛ كُتِبَ ملكاً في الدواوين، كما روى ذلك أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري. وكما قال موسى لقومه: (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ) [المائدة: 20].
معاشر المسلمين: إن الاكتفاءَ الذاتيَّ، وحسنَ استغلالِ ما في اليد؛ من مالٍ أو صنعةٍ، ونبذَ الاتكالِ على المُنى والآمال العراض، هي نواةُ العظمةِ النفسيةِ، وسرُّ الانتصار على الظروف الصعبة.
واستمع إلى قول أبي حازمٍ عندما قال: "إنما بيني وبين الملوك يومٌ واحد!! أما أمسِ فلا يجدون لذته، وأنا وهم من غدٍ على وجلٍ، وإنما هو اليوم؛ فما عسى أن يكون اليوم"؟! ا.هـ.
إن لذائذ الماضي تفنى مع أمسِ الذاهب، فلا يستطيعُ أحدٌ إمساكَ بعضِها، فضلاً عن كلِّها، والغدُ في ضمير الغيب يستوي السادة والصعاليك في ترقبه والوجل منه، فلم يبق إلا اليومُ الذي يعيش العقلاء في حدوده وحدها، وفي نطاق اليوم يتحول إلى ملِكٍ مَنْ يملك نفسه ويُبصرُ قصده؛ فما وجه الهوان؟ وما مكان التفاوت؟!
ألا أيُّ هذا الذي ذهبت أيامه لا يطيب له عيش، ولا تصفو له حياة!! أتدري كيف يُسرق عمُرُ المرءِ منه؟ يذهل عن يومه في ارتقاب غده، ولا يزال كذلك حتى ينقضي أجلُه، ويده صفر من أي خير.
ألا ما أعجب الحياة!! يقول الطفل: "عندما أشِبُّ فأصبح غلاماً"، ويقول الغلام: "عندما أترعرع فأصبح شاباً"، ويقول الشاب: "عندما أتزوج وأكوِّن أسرة"، فإذا تزوج قال: "عندما أصبح رجلاً متفرغاً"، فإذا جاءته الشيخوخة تطلع إلى المرحلة التى قطعها من عمره، فإذا هى تلوحُ وكأنَّ ريحاً باردةً اكتسحتها اكتساحاً.
إننا -يا عباد الله- نتعلَّم -ولكن بعد فوات الأوان- أن قيمة الحياة في أن نعيش لحظتنا التي نحن فيها.
ما مضى فات والمؤمل غيب *** ولك الساعة التي أنت فيها
وفي مثل هؤلاء الذين ضيعوا أعمارهم سدى، وتركوا الأيامَ تُفلت من أيديهم، ولم ينتفعوا بحاضرهم فيما يصلح مستقبلهم، يقول الله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ) [الروم :55] ويقول: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) [النازعات:46]
فهؤلاء قومٌ أعطاهم الله المالَ والصحةَ وطولَ العمر، ولكنهم تركوا واجبات الوقت، التي هي مِرْقاةٌ للمستقبل في أكثر الأحيان، فكانت المفاجأة أن المستقبل أتاهم بغتة دون استعداد له ولا عمل.
إن كثيراً من الذين يستعجلون هموم مستقبلهم يحكم عليهم التاريخ بالفشل الذريع في حاضرهم ومستقبلهم، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في مرحلة الاستضعاف؛ يأمر أصحابه بالكف عن القتال، والاشتغال بالعبادة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؛ لما فيها من الإعداد الروحي للمستقبل المليء بالجهاد والفتوحات.
فكان من أتباعه من يستعجل القتال، ويقصِّر في الصلاة والزكاة، فلما نزلت آيات السيف، وأُمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقتال، كان من هؤلاء المستعجلين من يخشى الناس كخشية الله أو أشد خشية؛ ذلك بأنهم تقاعسوا عن واجب الإعداد الروحي في وقته، فخذلوا لما جاء القتال الحقيقي.
وفي هذا يقول الله -عز وجل-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [النساء:77].
وحث الإسلام على العمل الآن، وهو من العيش في حدود اليوم، ولكن من دون الغفلة عن المستقبل، فيعيش الإنسان ويعمل في يومه بما يحفظ ويبني مستقبله.
ولما أراد بعض الصحابة أن يعيش على الآمال في هموم المستقبل؛ أرشده النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى العمل؛ فعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: كُنَّا في جنازة في بقيع الغرقدِ، فأتى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَقَعدَ، وقعدنا حوله ومعه مِخصَرَة، فجَعَلَ ينْكُت بها ثم قال: "ما من نَفس مَنفُوسة، إلا وقد كَتَبَ الله مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كُتِبَتْ شَقِيَّة أو سعيدة"، فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نمكثُ على كتابنا وَنَدَعُ العمل؟ فمن كان مِنَّا من أهل السعادة، لَيَكونَنَّ إلى أهل السعادة، ومن كان مِنَّا من أهل الشَّقاوة، ليكُونَنَّ إلى أهل الشقاوة؟ فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "بل اعْمَلوا، فكلّ مُيَسَّر، فأمَّا أهل السعادة، فَيُيَسَّرون لعمل أهل السعادة، وأمَّا أهل الشقاوة، فَيُيَسَّرون لعمل أهل الشقاوة"، ثم قرأ: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّق بالحسنى* فَسَنُيَسِّره لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وكذَّب بالحُسنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) [الليل:10]، رواه البخاري ومسلم والترمذي واللفظ له.
فكان هذا السائل يريد أن يعيش الناس مترقبين لهموم مستقبلهم؛ فأرشده النبي -صلى الله عليه وسلم- لصناعة المستقبل، وبنائه بالعمل في الحاضر.
إن الإسلام يهيء أتباعه لصياغة الحياة الآخرة التي سيعيشونها بعد موتهم من خلال حياتهم، وما أودعوها من أعمالهم.
لقد جاءت تعاليم الإسلام مركِّزةً على بناء المستقبل واستشرافه، والتبصر فيه، والتخطيط لقضاياه، دون أن يكون هماً معوِّقاً عن العمل في اليوم واستغلاله والاستفادة منه، وأعظم مستقبل للإنسان هو المستقبل الأبدي، وأعظم مصير للإنسان هو المصير السرمدي.
وإذا كان الكثير من الناس اليوم يستشرف المستقبل الدنيوي ويفكِّرُ فيه، ويحزن ويفرح من أجله، ويدرس سنوات طويلة، ويكدح سنوات أطول من أجل تأمينه، وهو لا يتجاوز في الغالب ثلاثين سنةً أو أربعين سنة؛ فلماذا لا يؤمِّن كثيرٌ منا مستقبله في الآخرة، فالآخرة خير وأبقى، والآخرة هي الحيوان وهي المتاع لو كان الناس يعلمون.
وتأمين المستقبل في الآخرة أمر متاح لكل إنسان، ولا يحتاج إلى شفاعات أو وساطات؛ فمن عمل صالحاً فلنفسه، ومن أساء فعليها (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فأما الذين )فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) [الروم:15-16].
إن مستقبلك في الآخرة يمكن أن يؤمن في هذه الأيام التي تعيشها، وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، بالأعمال المستمرة غير المنقطعة؛ من الأوقاف، والعلم، والصدقات التي هي الاستثمار الحقيقي للمستقبل.
ومستقبلك في الآخرة مبني على الودائع التي أودعتها في يومك وليلتك من أعمال اليوم والليلة التي لا تنتظر بها حتى تشبَّ أو تهرمَ أو تشيخ؛ فكلُّ يومٍ بيومهِ، ما دام أن فيك نَفَساً يدخل ويخرج، وقلباً يتحرك وينبض - فأنت تسير إلى الجنة أو إلى النار.
ولست متوقفاً حتى تؤجل الأعمال الصالحة إلى أوقات متأخرة، إنك ما دمت معدوداً في الأحياء؛ فأنت تسير في الطريق دون توقف، وهذا الطريق يؤدي بك إلى السعادة أو الشقاوة.
وكلُّ يوم من حياتك يزيدك قرباً من الله تعالى ومن أجلك، ويقدمك إلى الجنة أو يؤخرك عنها، يقول الله عز وجل: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) [المدثر:37]. ولم يقل: يتوقف، فلا يوجد توقف في هذه الحياة، وإنما هي أيام وليالي، تسير بنا سيراً حثيثاً إلى جنة عرضها السماوات والأرض، أو إلى نار يأكل بعضها بعضاً، وتتلقَّفُ العصاة والمذنبين، وتقول هل من مزيدٍ هل من مزيد، نسأل الله أن يحرِّم وجوهنا جميعاً عليها، وأن يكتبنا من عباده المرحومين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة وعصيان؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلاة الله وسلامه على أشرف رسله وخاتم أنبيائه نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله:
إن دعوتنا لعيشِ الإنسان في حدود يومه، والحرصِ على تأمين مستقبله في الآخرة، لا يعنى الاستغراقَ في اللحظاتِ الحاضرةِ، والغفلةَ عن مصالح الدنيا المستقبَلة؛ ذلك أن اهتمام المرءِ بغده، وتفكيرَه فيه معدود في الحصافةِ ورجاحةِ العقل، ولكنَّ فرقاً كبيراً يترائى للعقلاء بين الاهتمام بالمستقبل وبين الاغتمام به؛ فالعاقل يهتم بالمستقبل ولكنه لا يغتم به، ولا يتعطل عن العمل في يومه بسبب هموم غده.
وكما أن الإسلام يحضُّ أتباعه على تأمين المستقبل الحقيقي في الآخرة، إلا أنه لا يأمرهم بإهمال الدنيا وتضييع معايشها، وفي القاعدة القرآنية المالية -التي ذكرها أولوا العلم والإيمان للباغية الهالك قارون- نبراسٌ للمؤمنين وميزان للصالحين: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) [القصص: 77].
وعندما يأمر الإسلامُ باستغلال الوفرة المالية في حال الغنى؛ من أجل الاستفادة منها في حال الفقر، ويمنع من الإسراف ويحذر منه، ويرغب في الاقتصاد ويحث عليه، فهو ينبه الإنسان إلى تأمين المستقبل والاهتمام به، وعدم إغفال جانبه.
وفي مستدرك الحاكم على الصحيحين من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل -وهو يَعِظُه-: "اغتنم خمساً قبلَ خمسٍ: شبابّك قبل هَرَمِك، وصحَّتَك قبل سَقَمك، وغِناك قبل فقرِك، وفراغَكَ قبل شغلك، وحياتَك قبل موتك".
وقال غنيم بن قيس: "كنا نتواعظُ في أوَّل الإسلام: ابنَ آدم، اعمل في فراغك قبل شُغلك، وفي شبابك لكبرك، وفي صحتك لمرضك، وفي دنياك لآخرتك، وفي حياتك لموتك".
وهذا لعمر الله هو الاستشراف الحقيقي للمستقبل.
نسألك اللهم أن تجعلنا يوم يقوم الأشهاد من الآمنين، وأن تجعلنا من الذين أعطوا الأمن في الآخرة وهم مهتدون.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا.
اللهم صل على محمد..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي