وغَيَّرَ رسولُ الله الطَّريقَ، فَسَلَكَ طَرِيقَاً وَعراً بين الشِّعابِ لِيَتَحاشى القِتَالَ ولِيَحقنَ الدِّمَاءَ، فَلَمَّا رأى خالدُ بنُ الوليدِ ذلِكَ تَحَرَّكَ بِفُرسَانِهِ واعترضَ لهم، فتحَوَّلُوا إلى طَرِيقِ الحُدَيْبِيةِ بَدَلاً من التَّنعيم، فَخَرَجَت قريشٌ إلى الْحُدَيْبِيَةِ، وعَسْكَرَتْ دَاخِلَ الْحَرَمِ مُصَمِّمةً على الْمَنْعِ والقِتَالِ.
الحمدُ لله رَزَقَ المؤمنينَ فَتْحَاً مُبِينَاً، وَهَدَاهُمْ إليه صِراطاً مُستقيماً، نَشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحده لا شريكَ له ربَّاً عليماً حكيماً، ونشهدُ أنَّ محمداً عبد ُالله وَرَسُولُه أَرْسَلَهُ اللهُ شَاهِدَاً وَمُبَشِّرِاً ونَذَيرَاً، صلَّى الله وسلَّم وَبَارَكَ عليه وعلى آله وأصحَابِه، ومن اتَّبعَ سبيلَهم وسلّم تَسلِيماً مَزيداً.
أمَّا بعدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]
عبادَ اللهِ: مَنْ مِنَّا مَنْ لا يَشْتَاقُ إلى بيتِ اللهِ الحرامِ؟ وإبراهيمُ الخليلُ -عليه السلامُ- قَدْ دَعَا اللهَ فَقَالَ: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم:37]. قالَ الشَّيخ السَّعديّ: "إنَّ اللهَ جَعَلَ في الحجِّ سِرَّاً عَجِيبَاً جَاذِبَاً لِلقُلوبِ، فلا تَقْضِي منهُ وَطَرَاً على الدَّوامِ، بل كُلَّمَا أَكْثَرَ العبدُ التَّرَدُّدَ إليه ازدادَ شُوقُهُ وَعَظُمَ وَلَعُهُ وَتَوْقُهُ إليهِ".
أيُّها الكرامُ: هذا الشَّوقُ يكونُ لعامَّةِ النَّاسِ، فَكَيفَ بِمَنْ وُلِدوا في مكة، وَطَافُوا بينَ أَركانِ بيتِ الله المُعَظَّمِ، وَشَرِبُوا من ماءِ زَمْزَمِه المباركِ لِسِنِينَ طَوِيلَةٍ؟.
حَقَّاً؛ لقد أَخَذَ الشَّوقُ برسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابتِه الكرامِ كُلَّ مَأْخَذٍ بَعْدَ غَيابٍ دَامَ سِتَّ سنواتٍ لم يُؤدُّوا فيه حَجَّاً ولا عمرةً، والبيتُ إنِّما هو بيتُ الله، فليسَ لِكُفَّارِ قُرَيشٍ أَنْ يَمنَعُوا أَحَدَاً لَبَّى نِدَاءَ اللهِ.
ومِن الْمُبَشِّرَاتِ ِأنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- رَأَى يَوْمَاً فِي المَنَامِ أَنَّه دَخَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ المَسْجِدَ الحَرَامَ، وَأَخَذَ مِفْتاحَ الكعبة، وَطَافُوا وَاعتَمَرُوا، وَحَلـَّقَ بَعْضُهم وَقَصـَّرَ آخَرُونَ؛ فاستبشرَ الرَّسُولُ بِذِلِكَ وَبَشَّـرَ أَصحَابَهُ؛ فَفَرِحُوا وَحَسِبُوا أنَّهم دَاخِلُونَ مَكَّةَ عَامَهُم هذا.
وفي شَهْرِ ذِي القعدَةِ من السَّنةِ السَّادسةِ للهجرةِ النَّبويةِ أعلنَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في الحاضرةِ والباديةِ أنَّه يريدُ مَكَّة لِأَدَاءِ العُمْرةِ فَقَطْ فلا يُريدُ غَزْواً ولا حَرْباً، ركِبَ ناقتَهُ القَصْواءَ وَخَرَجَ بِأَلْفٍ وَأَرْبَعمِائَةِ رَجُلٍ وَمَعَهُ زَوجَتُهُ أُمُّ سَلَمةَ -رضي اللهُ عنها-، وَسَاقَ مَعَهُ مِنْ الهَدْي سَبْعِينَ بَدَنَةً، وَأَحْرَمَوا مِنْ ذِي الحُلَيفَةِ، وأهلَّ بالعمرةِ وقال: "لبيكَ اللهمَّ لبيك لبيكَ! لا شريكَ لكَ لبيكَ! إنَّ الحمدَ والنِّعمةَ لكَ والملكُ، لا شريكَ لكَ"، فأخذَ النَّاسُ يُلبُّون، وَأَمَامَ أَعْيُنِهم بَيتُ اللهِ الحَرَامِ.
وانتشر خَبَرُ خُرُوجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة َ مُعتَمِرَاً مُسالِماً، ولكنَّ قُرَيْشَاً غَاظهَا هَذَا الخُرُوجُ واعْتَبْرَته تَحديا صَارِخا يَمَسُّ كرامتَها وأَحَقِيتَها في البيتِ الحرامِ، فاجتمعوا وَقَرَّروا أَلاَّ يَدخُلَ مُحَمَّدٌ وَأَصحَابُهُ مَكَّة عنوَةً عامَهم هذا، فأعلنوا حالةَ الحربِ، وخَرَجُوا بِأَطفَالِهم وَنِسَائهم دَلِيلاً على بَسَالتِهم وطولِ مُقامِهم، وَأَمـَّـروا خالدَ بنَ الوليدِ، وحَشَدوا ما يُقاربُ ثمانيةَ آلافِ مُقَاتلٍ، وَعَسْكَرُوا في عَددٍ من المواقع حَولَ مَكَّةَ، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "يا ويحَ قُرُيش! لَقد أَكلَتهُمُ الحَرْبُ، ماذا عليهم لو خَلَّوا بيني وبينَ سَائِرِ النَّاسِ؟ فإن أَصَابُونِي كان الذي أَرَادُوا، وإنْ أَظْهَرَنِي اللهُ عليهم دَخَلُوا في الإسلامِ وهم وَافِرُونَ، وإنْ لم يَفْعلُوا قَاتَلُوا وبِهم قُوَّةٌ، فماذا تظنُّ قريشٌ؟ والله إنِّي لا أَزَالُ أُجَاهِدُهُم على الذي بَعَثَنِي اللهُ لَهُ أَو تَنْفَرِدَ هَذِهِ السَّالِفَة!".
فاستشارَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه وقال: "أَتَرونَ نَمِيل إلى ذَرَارِي هؤلاءِ الذينَ أعانُوهم فَنُصِيبَهم؛ فإنْ قَعَدُوا قَعَدوا مَوتُورينَ مَحزُونينَ، وإنْ نَجوا يَكُن عُنقٌ قَطَعَها اللهُ؟ أَمْ تُريدِونَ أنْ نَؤُمَ هَذا البيتَ فَمَنْ صَدَّنا عنهُ قُاتَلْنَاهُ؟"، فَقَالَ أبو بَكْرٍ: "يا رسولَ اللهِ، إنَّما جِئْنا مُعتَمرِينَ، وَلَمْ نَجئْ لِقِتالِ أَحَدٍ، ولكنْ مَنْ حالَ بَينَنَا وبينَ البيتِ قاتَلْنَاهُ"، فقالَ -صلى الله عليه وسلم- : "فَرُوحُوا"، فصاروا يُلَبُّونَ ويُهلِّلُونَ.
وغَيَّرَ رسولُ الله الطَّريقَ، فَسَلَكَ طَرِيقَاً وَعراً بين الشِّعابِ لِيَتَحاشى القِتَالَ ولِيَحقنَ الدِّمَاءَ، فَلَمَّا رأى خالدُ بنُ الوليدِ ذلِكَ تَحَرَّكَ بِفُرسَانِهِ واعترضَ لهم، فتحَوَّلُوا إلى طَرِيقِ الحُدَيْبِيةِ بَدَلاً من التَّنعيم، فَخَرَجَت قريشٌ إلى الْحُدَيْبِيَةِ، وعَسْكَرَتْ دَاخِلَ الْحَرَمِ مُصَمِّمةً على الْمَنْعِ والقِتَالِ.
وَأَثْنَاءَ سَيرِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بَرَكَتْ ناقتُهُ، وَكَانَت مِنْ أَجْوَدِ النُّوق ِالْمَطَاويِعِ، فَقَالُوا: خَلأَتِ القَصْوَاء! يعني: حَرَنت، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- : "ما خَلأتْ، وما هو لها بِخُلُقٍ، ولكنْ حَبَسَها حابسُ الفيلِ عن مَكَّةَ".
اللهُ أكبرُ! لقد رَأَى -صلى الله عليه وسلم- بِنُورِ اللهِ -تعالى- وَأَدْرَكَ مَا لَمْ يُدْرِكْهُ القومُ، عند ذلكَ قال: "والذي نفسي بيده! لا يَسْأَلُونِي خُطةً يُعظِّمونَ فيها حُرُمَاتِ اللهِ إلا أعطيتُهم إيَّاها، ولا تَدْعُوني قُريشٌ إلى خُطْةٍ يَسألُونِي فيها صلةَ َالرَّحمِ إلا أعطيتُهم إيِّاها".
ثُمَّ زَجَرَ نَاقَتَهُ فَوَثبتْ، فأمَرَ أصحَابَهُ فَنَزَلُوا على بِئْرِ الْحُدَيبِيَةِ، وكانت قَلِيلةَ الْماءِ، فانْتَزَعَ سَهْمَاً فَجَعَلَهُ فيها فَجَاشَ بالرَّي؛ فارتَووا جَمِيعاً.
أعوذُ بالله من الشَّيطانِ الرَّجِيمِ: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ? وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [الفتح:26].
أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستغفروه من كلِّ ذنبٍ؛ إنَّه هو الغَفُورُ الرَّحيمُ.
الحمد لله لا رادَّ لقضائِه، ولا مُعقِّبَ لحكمِه، له الملكُ وإليه تُرجعونَ، نَشهدُ ألَّا إِلَهَ إلَّا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ يُحِقُّ الْحَقَّ ويُبطِلُ البَاطِلَ ولو كَرِهَ الكَافِرون.
ونشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه الصَّادِقُ الأَمينُ، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله وأصحابِهِ والتَّابعينَ، وَمَنْ تَبِعَهُم بِإحسَانٍ وإِيمَانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
أَمَّا بعدُ: أيُّها المُؤمِنُون، لقد أعلنَ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- لقُرَيشٍ أنَّه جاءَ زائراً للبيتِ، وَأَرْسَلَ مَبْعوثَهُ إليهم فَرَدُّوه، فَأرْسَلُوا إلى رَسُولِ اللهِ بُديلَ بنَ وَرْقَاءَ في رِجَال ٍمِنْ خُزاعةَ، وبَيَّنَ لَهُ أنَّ قريشاً تَعْزِمُ صَدَّهُم، فَأَوضَحَ لهم الرَّسُولُ أنَّه جَاءَ زَائِرَاً مُعْتَمِرِاً فَلْتَحْذَرْ قريشٌ من الحربِ والموَاجَهةِ، واقتَرَحَ أنْ يَكُونَ بَينهُم هُدنةٌ إلى وَقْتٍ مَعْلُومٍ.
فَعَادَ بُديلٌ إلى قُريشٍ وَقَال لَهُم: "إنَّكُم تَعجَلُون على مُحمَّدٍ، إنَّه لَمْ يَأْتِ لِقِتَالٍ، وإنَّما جاء زائراً". فلم يُعجبْهم كلامهُ، واتَّهَمُوهُ بِالتَّواطُؤ والخِيَانَة.
ثُمَّ أَرْسَلَتْ عُروةَ بنَ مَسْعُودٍ، وهو سَيِّد من ثَقِيفٍ، فَقَالَ: يَا مُحمَّدُ، هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِن العَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَـَه قَبلَكَ؟ وَأَيْم اللهِ! لَكَأنِّي بِهؤلاءِ -يعني الصَّحَابَةَ- قَدْ انْكَشَفُوا عَنْكَ! إنِّي لا أرى مَعَكَ إلاَّ أوبَاشاً من النَّاس خَلَيقاً بهم أن يَفِرُّوا ويَدَعُوكَ. فقالَ له أبو بكرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "امْصُصْ بظَرَ اللاَّتِ! أنحنُ نَفِرُّ ونَدَعَهُ؟"، وكان عروةُ يُمسِكُ بلحيةِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- ويُخاطِبهُ ويستَجدِيهِ، وكان المغيرةُ بنُ شُعبةَ الثَّقَفيّ -رضي الله عنه-، واقِفَاً على رأسِ الرَّسولِ، وكُلَّما مدَّ عُروة يَدَهُ لِلِحيةِ رَسُول ِالله قامَ المغيرةُ بقرعِ يدهِ بقائمِ السَّيفِ ويقولُ: "اكفُفْ يدَك عن مَسِّ لِحيةِ رسولِ اللهِ قَبْلَ ألَّا تَصِلَ إليك".
فَعَادَ الوَسِيطُ إلى قُريشٍ فَنَصَحَهُم أنْ يُخلُّوا بينَهُ وبينَ البَيتِ، وأخبرَهم عن حبِّ الصَّحابةِ لِمحمدٍ وعن وحْدَتِهم، وقالَ: "اعلموا أنَّكم إنْ أردتُم السَّيفَ بَذَلُوهُ لكم!"، فلم يُعجبهم كلامُه.
ثم بَعَثت قُرَيشٌ الحُلَيسَ الكنَانِي، فَلَمَّا رَآهُ الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ هذا مِن قَوْمٍ يَتَأَلَّهُونَ، فابعثوا الهديَ في وجهِه"، وأمرَ أصحابَه فَرَفَعُوا أَصْواتَهم بالتَّلبيةِ، فلما رآهم على هذه الحالِ عادَ من وَسَطِ الطَّريق ِواعتبرَ قُريشاً أنَّهم ظالِمونَ ومُعتدونَ.
عندَ ذلكَ تَخَلْخَلَت صُفُوفُ قُريشٍ، فَعَمَدَ مُتمَرِّدِونَ من الْمُشركينَ إلى مُعسكرِ المسلمينَ ليلاً وَغَدَرُوا بِهم، إلا أنَّ حُرَّاسَ الْمُسلِمينَ استطاعوا أن يأسِروهم جميعاً، فأُحضروا أمامَ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مُقَيَّدينَ، غيرَ أنَّ رسولَ اللهِ عَفَا عنهم جَمِيعَاً وَأَطْلَقَ سَرَاحَهُم، مِمَّا زَادَ موقِف قريشٍ حَرَجاً؛ وبهذا أنزلَ اللهُ قولَه: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) [الفتح:24].
بعدَ ذلك رأى رسولُ الله أنْ يَبْعَثَ عُثمَانَ بنَ عفانَ -رضي الله عنه- لهم، فاجتمعَ عُثمَانُ بِسَادَاتِ قريشٍ، وَعَرَضَ عليهم إمَّا الدُّخولَ في الإسلامِ وإمَّا إقامة َسَلامٍ بينهم وتَرْك النبيِّ كَسَائِرِ العَرَبِ؛ ولكنَّ قريشاً رفضت ذلكَ، وقالوا لهُ: إنْ أردتَ أن تَطُوفَ أنتَ بالبيتِ فافعل، أمَّا صاحِبُكَ فلا، فقالَ: "ما كنتُ لأفعلَ حتى يطوفَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-".
تَصَوَّرُوا -عباد الله-: بَقِيَ الصَّحابةُ مُحرِمِينَ مَحصُورِينَ في الْحدَيبِيةِ قُرْبَ الحرَمِ عشرينَ ليلة قد شَعثَتْ شُعُورُهم، واتَّسخت أبْدانُهم، ونَفَدَ طَعَامُهُم، وَضَاقَتْ حِيَلُهم، وفَشِلت جميعُ مَسَاعِي السِّلْمِ معَ قُريشٍ.
وعندَ انتشارِ خبرِ مَقْتَلِ عثمان بن عفان -رضي الله عنه- تَحوَّلَ موقفُ الرَّسُولِ، فأعلنَ الحربَ وأخذ يُبَايِعُ أصحابَه تحتَ الشَّجرةِ، يُبَايِعُهم على الموتِ وألاَّ يَفِرُّوا.
ثم أخذَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بيدِه اليمنى فَضَرَبَ بِها يَدَه الأخرى وقال: "هذه يدُ عثمانَ". (لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) [الفتح:18]. حِينَهَا بَشَّرَ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أصحابَهُ أنَّه لن يَدخُلَ النَّارَ أحدٌ بايعَ تحتَ الشجرةِ.
عند ذلك ضاقَ المشركونَ ذَرْعاً وخَافُوا وأَدْرَكُوا خُطُورَةَ المرحلةِ، فَأَرسَلُوا سُهيلَ بنَ عمروٍ على مُصَالَحَةِ الرَّسُولِ، فلما رآه رسولُ اللهِ مُقبلا قال: "قد سَهَّلَ اللهُ أمرَكُم، لقد أرادَ القومُ الصُّلْحَ".
أيُّها المؤمنونَ: لقد كانت هناك مفاوضاتٌ طويلةٌ، وَأحْدَاث وَمَوَاقِفُ غَرِيبَةٌ، وصلحٌ كُتبت شُرُوطُه، فَكيفَ تَلَقَّى الصَّحابةُ هذا التَّحوُّلَ السَّرِيعَ؟ وهل كان هذا الصُّلحُ هَزيمَةً أم نَصْرَاً؟ هذا ما نتعرَّفُ عليه -بإذنِ اللهِ تعالى- في جمعةٍ قادمةٍ.
فاللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِكَ ورَسُولِكَ محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعينَ.
اللهم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي