"لا إله إلا الله" هي الكلمة التي ورَّثها إمام الحنفاء لأتباعه إلى يوم القيامة، وهي الكلمة التي قامت بها الأرض والسموات، وفطر الله عليها جميع المخلوقات، وعليها أسست الملة، ونصبت القبلة، وجردت سيوف الجهاد، وهي محض حق الله على العباد، وهي الكلمة العاصمة للدم والمال والذرية في هذه الدار، والمنجية من عذاب القبر وعذاب النار،..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعملنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 ، 71].
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله.
عباد الله: في الحديث الذي رواه ابن حبان، والحاكم وصححه، عن أبي
سعيد الخدري –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "قال موسى –عليه السلام-: يا رب علمني شيئًا أذكرك وأدعوك به، قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله، قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا، قال: يا موسى لو أَن السموات السبع وعامرهن غيري، والأَرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله".
طلب موسى –عليه السلام- من ربه أن يُعلمه ذكرًا يُثني عليه، ويتوسل إليه به؛ فأرشده إلى قول: "لا إله إلا الله"؛ إذ هي أفضل الأذكار وأعظمها معنى، ولأجلها خلق الخلق، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، فهي ذكر ودعاء.
وهي الكلمة التي ورثها إمام الحنفاء لأتباعه إلى يوم القيامة، وهي الكلمة التي قامت بها الأرض والسموات، وفطر الله عليها جميع المخلوقات، وعليها أسست الملة، ونصبت القبلة، وجردت سيوف الجهاد، وهي محض حق الله على العباد، وهي الكلمة العاصمة للدم والمال والذرية في هذه الدار، والمنجية من عذاب القبر وعذاب النار، وهي المنشور الذي لا يدخل أحد الجنة إلا به، والحبل الذي لا يصل إلى الله إلا من تعلق بسببه، وبها انقسم الناس إلى شقي وسعيد، ومقبول وطريد، وبها انفصلت دار الكفر عن دار الإسلام، وتميزت دار النعيم من دار الشقاء والهوان، وهي العمود الحامل للفرض والسنة، و"من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة".
عباد الله: كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" عظيمة المعنى، ثقيلة الوزن، ولكن يختلف وزنها بحسب من صدرت عنه؛ فالمنافق يتلفظ بها، ولكنها لا تزن عند الله شيئًا؛ لأنه كاذبٌّ في قولها. والمؤمن يتلفظ بها؛ ولها وزن عظيم عند الله لصدقه مع الله فيها؛
فلو وضعت السموات السبع ومن فيهن من العمار غير الله، والأرضين السبع وما فيها في كفة الميزان؛ و"لا إله إلا الله" في الكفة الأخرى لرجحت بهن هذه الكلمة؛ وذلك لما اشتملت عليه من نفي الشرك وتوحيد الله الذي هو أفضل الأعمال وأساس الملة والدين؛ ولِما يجتمع لقائلها من الذكر والدعاء، وما يحصل له من تكفير الذنوب والخطايا؛ فمن قالها بإخلاص ويقين، وعمل بمقتضاها ولوازمها وحقوقها واستقام على ذلك دخل الجنة، فإن هذه الحسنة لا يوازنها شيء.
عباد الله: إن روح هذه الكلمة وسرَّها: إفراد الرب جل ثناؤه بالمحبة والتعظيم والخوف والرجاء، وتوابع ذلك من التوكل والإنابة والرغبة والرهبة؛ فلا يُحب سواه المحبة المقتضية للذل والخضوع؛ بل كل ما كان يُحب فإنما هو تبع لمحبته ووسيلة إلى محبته؛ ولا يخاف سواه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يرغب إلا إليه، ولا يرهب إلا منه، ولا يحلف إلا باسمه، ولا ينذر إلا له، ولا يتاب إلا إليه، ولا يطاع إلا أمره، ولا يحتسب إلا به، ولا يستعان في الشدائد إلا به، ولا يلتجأ إلا إليه، ولا يركع إلا له، ولا ينحني إلا له، ولا يذبح إلا له وباسمه، ويجتمع ذلك في عبارة واحدة وهي: أن لا يُعبد بجميع أنواع العبادة إلا هو سبحانه.
واعلموا -عباد الله- أن "لا إله إلا الله"، لا تنفع قائلها إلا بعد معرفة معناها، والعمل بمقتضاها، والسلامة مما يناقضها.
قيل للحسن البصري -رحمه الله-: إن أناسًا يقولون: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة؟! فقال: من قالها وأدى حقها وفرضها دخل الجنة.
وقال وهب بن منبه -رحمه الله- لمن قال له: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟! قال: بلى؛ ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان، فـإن جئت بمفـتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك.
أيها المسلمون: أخرج الإمام أحمد، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "أن نوحًا –عليه السلام- قال لابنه عند موته: آمرك بلا إله إلا الله، فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة لفصمتهن لا إله إلا الله".
وهي أفضل الذكر، ففي الحديث الصحيح: "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير". وللنسائي وابن ماجه وغيرهما: "أفضل الذكر لا إله إلا الله". وللترمذي وغيره: "دعوة أخي ذي النون: لا إله إلا أنت". وللترمذي أيضًا وحسنه وصححه الذهبي: "يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً؛ كل سجل منها مد البصر، ثم يقال: أتنكر من هذا شيئًا؟! فيقول: لا يا رب، فيقال: ألك عذر أو حسنة؟! فيهاب الرجل فيقول: لا يا رب، فيقال: بلى، إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظُلم عليك، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقال: إنك لا تُظلم؛ فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ليس كل من تكلم بالشهادتين كان بهذه المثابة؛ لأن هذا العبد صاحب البطاقة كان في قلبه من التوحيد واليقين والإخلاص ما أوجب أن عظم قدره حتى صار راجحًا على هذه السيئات.
وقال ابن القيم -رحمه الله-: الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض، قال: وتأمل حديث البطاقة، ومعلوم أن كل موحد له هذه البطاقة، والكثير منهم يدخل النار بذنوبه، بل اليهود أكثر من يقولونها، والذي يقولها ويخالفها أعظم كفرًا ممن يجحدها أصلاً، فإن الكافر الأصلي أهون كفرًا من المرتد.
وللترمذي وحسنه، عن أنس –رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "قال الله -تعالى-: يا ابن آدم؛ إنك لو أَتيتني بقراب الأَرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأَتيتك بقرابها مغفرة". أي: ثم مت حال كونك لا تشرك بي شيئًا، وهذا شرط ثقيل في الوعد بحصول المغفرة، وهو السلامة من الشرك قليله وكثيره، صغيره وكبيره، ولا يسلم من ذلك إلا من أتى الله بقلب سليم.
و"قراب الأرض" أي: ملء الأرض، فمن جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة، فإنْ أكمل العبد توحيده وأخلصه لله وقام بشروطه أوجب ذلك مغفرة ما قد سلف من الذنوب، ومنعه من دخول النار، فإن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب ولو كانت ذنوبه قراب الأرض، وفيه: سعة كرم الله وجوده، وكثرة ثواب التوحيد وتكفيره الذنوب.
عباد الله: ما لم يتحقق التوحيد وإخلاص العبادة وتمام الخضوع والانقياد والتسليم، فلا تقبل صلاة ولا زكاةٌ، ولا يصحُّ صومٌ ولا حجٌّ، ولا يزكو أيُّ عمل يُتقرب به إلى الله، قال -سبحانه-: (وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 88]، وقال تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا) [الفرقان: 23].
وإذا لم يتحقق التوحيد ويصدق الإِخلاص فلا تنفع شفاعة الشافعين، ولا دعاء الصالحين، حتى ولو كان الداعي سيد الأنبياء محمدًا –صلى الله عليه وسلم-، اقرؤوا إن شئتم: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ) [التوبة: 80].
فاتقوا الله -عباد الله- وحققوا إيمانكم، وأخلصوا أعمالكم، يهدكم ربكم، ويصلح بالكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ * قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) [الأنعام: 14 – 16].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه..
الحمد لله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، حَمى حِمى التوحيد، وسدَّ كل طريق يوصل إلى الشرك، فأظهر الله به دينه على الدين كله، ولو كره المشركون.. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
إن إسلام الوجه لله وإفراده بالعبادة يرتقي بالمؤمن في خُلقه وتفكيره، ينقذه من زيغ القلوب، وانحراف الأهواء، وظلمات الجهل، وأوهام الخرافة، ينقذه من المحتالين والدجالين، وأحبار السوء ورهبانه ممن يشترون بآيات الله ثمنًا قليلاً، التوحيد يحفظ الإنسان من الانفعالات بلا قيد أو ضابط.
عباد الله: توحيد الله هو العبودية التامة له وحده -سبحانه- تحقيقًا لكلمة الحق: لا إله إلا الله محمد رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: في لفظها، ومعناها، والعمل بمقتضاها، يقيم المسلم عليه حياته كلها، صلاته، ونسكه، ومحياه، ومماته.
توحيد في الاعتقاد، وتوحيد في العبادة، وتوحيد في التشريع، توحيد تُنقى به القلوب والضمائر من الاعتقاد في ألوهية أحد غير الله، وتنقى به الجوارح والشعائر من أن تصرف لأحد غير الله، وتنقى به الأحكام الشرائع من أن تتلقاها من أحد دون الله -عز وجل-.
والتوحيد هو أول الدين وآخره، وظاهره وباطنه وقطب رحاه، وذروة سنامه، قامت عليه الأدلة، ونادت عليه الشواهد، وأوضحته الآيات، وأثبتته البراهين، نصبت عليه القبلة، وأسست عليه الملة، ووجبت به الذمة، وعصمت به الأنفس، وانفصلت به دار الكفر عن دار الإسلام، وانقسم به الناس إلى سعيد وشقي، ومهتد وغويّ.
فحققوا التوحيد -عباد الله- وأخلصوا له العبادة تفلحوا.
ثم صلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي