سيد الاستغفار

هلال الهاجري
عناصر الخطبة
  1. فضائل الاستغفار .
  2. الاستغفار في حياة الأنبياء .
  3. أهمية اعتراف العبد بظلمه وإقراره بفضل الله عليه .
  4. سعة رحمة الله تعالى لمن تاب وأصلح. .

اقتباس

لا يتعاظمه ذنبٌ أن يَغفرَهُ، ولا حاجةٌ يُسأَلُها أن يعطيَها، لو أن أهلَ سماوتِهِ، وأهلَ أرضِهِ، وأولَ خلقِهِ وآخرَهم، وإِنْسَهم وجنَّهم، كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ منهم، ما زاد ذلك في ملكهِ شيئًا، قلوبُ العبادِ ونواصيهم بيدهِ، وأَزِمَّةُ الأمورِ معقودةٌ بقضائهِ وقدرِهِ،.. هو الأولُ الذي ليسَ قبلَهُ شيءٌ، والآخرُ الذي ليسَ بعدَه شيءٌ، والظاهرُ الذي ليسَ فوقَه شيءٌ، والباطنُ الذي ليسَ دونَه شيءٌ، أحقُّ مَن ذُكِر، وأحقُّ مَن عُبد، وأحقُّ مَن حُمِد، وأولى مَن شُكِر، وأنصَرُ مَن ابتُغِي، وأرأفُ مَن مَلَكَ، وأجودُ مَن سُئِل، وأعفَى مَن قَدِر، وأكرم مَن قُصِد، وأعدلُ مَن انتَقَم، حكمُه بعد علمهِ، وعفوهُ بعد قدرتهِ، ومغفرتُه عن عِزَّتهِ، ومَنْعُه عن حِكمتهِ، وموالاتُه عن إحسانهِ ورحمتهِ.

الخطبة الأولى:

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ .. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ ..

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

عنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- قَالَ: "سيِّدُ الاسْتِغْفارِ، أَنْ يقُولَ الْعبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لا إِلَه إِلاَّ أَنْتَ خَلَقْتَني وأَنَا عَبْدُكَ، وأَنَا على عهْدِكَ ووعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ ما صنَعْتُ، أَبوءُ لَكَ بِنِعْمتِكَ علَيَ، وأَبُوءُ بذَنْبي فَاغْفِرْ لي، فَإِنَّهُ لا يغْفِرُ الذُّنُوبِ إِلاَّ أَنْتَ، منْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِناً بِهَا، فَمـاتَ مِنْ يوْمِهِ قَبْل أَنْ يُمْسِيَ، فَهُو مِنْ أَهْلِ الجنَّةِ، ومَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وهُو مُوقِنٌ بها، فَمَاتَ قَبل أَنْ يُصْبِح، فهُو مِنْ أَهْلِ الجنَّةِ".

لا إلهَ إلا اللهُ .. إن كانَ قد جاءَ في الاستغفارِ فضائلُ عظيمةٌ .. وأجورٌ كريمةٌ .. فكيفَ بسيِّدِ الاستغفارِ؟ .. ولذلكَ ليسَ بينَ من قالَه صِدقاً ويقيناً وبينَ الجنَّةِ إلا نزولَ الموتِ وخروجَ الرُّوحِ.

تأملْ في "وأَبُوءُ بذَنْبي فَاغْفِرْ لي" .. إن الاعترافَ بالذَّنبِ قبلَ الاستغفارِ، هو من أعظمِ أسبابِ حصولِ المغفرةِ، فَكُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ –كثيرُ الخطأِ- وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ، ومن التَّوبةِ الشُّعورُ بالتَّقصيرِ،في عبادةِ العليِّ القديرِ،ولذلكَ نقولُ: "وأَنَا على عهْدِكَ ووعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ"، فمن يستطيعُ تحقيقَ كاملِ العباداتِ؟، ومن يستطيعُ الوفاءِ بالعُهودِ الغليظاتِ؟، فنأتي بما استطعنا ونستغفرُ اللهَ على ما فاتنا، ونندمُ ونعترفُ بأخطائنا، وكما جاءَ في الحديثِ: "النَّدَمُ تَوْبَةٌ".

وهذا أبونا آدمُ -عليه السَّلامُ-.. خلقَه اللهُ تعالى بيدِه .. ونفخَ فيه من روحِه .. وعلَّمه أسماءَ كلِّ شيءٍ .. وأسجدَ له ملائكتَه .. وأسكنَه جنتَه .. ومع ذلكَ كلِّه .. عصى الربَّ .. وخالفَ الأمرَ وأكلَ من الشَّجرةِ .. فأيُّ ذنبٍ هذا؟ .. ولكنَّ لما علمَ اللهُ –سبحانَه- ندمَه على ذلكَ وشعورَه بالتَّقصيرِ .. تلَّقى آدمَ وحَواءَ من ربِّهما كلماتٍ قليلاتٍ مُباركاتٍ.. (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا) .. اعترافٌ بالذَّنبِ والجناياتِ .. (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23].

طلبٌ للمغفرةِ .. فتحقَّقتْ النَّتائجُ المؤكَّداتُ .. (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) [طه: 122]، فليسَ التَّوبةُ والمغفرةُ فقطْ .. بل الاجتباءُ والاصطفاءُ حتى أصبحَ أفضلَ مما كانَ قبلَ المعصيةِ .. فما أعظمَ فضلَ اللهِ تعالى على اعترفَ بذنبِه واستغفرَ.

أتعرفونَ أبا بكرٍ الصِّديقِ -رضيَ اللهُ عَنْهُ-.. هل تعلمونَ أحداً مثلَه في الإيمانِ والعملِ .. ها هو يَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي، وَفِي بَيْتِي .. فماذا علَّمَه؟ .. قَالَ: "قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَبِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" .. فإذا كانَ دعاءُ أبي بكرٍ "اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَبِيرًا" .. فماذا عسانا أن ندعو؟ .. فبعدَ ذلك لا ينبغي أن يغترَّ بعملِه أحدٌ، أو يُزكي نفسَه أحدٌ.

منْ مِنَّا يا عبادَ اللهِ إذا رفعَ يدَه .. استشعرَ هذه المعاني .. ودعا دعاءَ المعترفِ بذنبِه النَّادمِ على تقصيرِه ولسانُ حالِه:

أَنَا الْعَبْدُ الَّذِي كَسَبَ الذُّنُوبَا *** وَصَدَّتْهُ الْأَمَانِي أَنْ يَتُوبَا

أَنَا الْعَبْدُ الَّذِي أَضْحَى حَزِينًا *** عَلَى زَلَّاتِهِ قَلِقًا كَئِيبَا

أَنَا الْعَبْدُ الْمُفَرِّطُ ضَاعَ عُمُرِي *** فَلَمْ أَرْعَ الشَّبِيبَةَ وَالْمَشِيبَا

أَنَا الْعَبْدُ السَّقِيمُ مِنْ الْخَطَايَا *** وَقَدْ أَقْبَلْتُ أَلْتَمِسُ الطَّبِيبَا

أَنَا الْغَدَّارُ كَمْ عَاهَدْتُ عَهْدًا *** وَكُنْتُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ كَذُوبَا

أَنَا الْمُضْطَرُّ أَرْجُو مِنْكَ عَفْوًا *** وَمَنْ يَرْجُو رِضَاكَ فَلَنْ يَخِيبَا

اسمع إلى أثرِ تلكَ الكلماتِ التي قيلتْ في بطنِ الحوتِ .. لمَّا كانتْ من قلبٍ نادمٍ قد أيقنَ الموتَ .. قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "دَعْوَةُ ذِي النّونِ، إذْ دَعَا وَهُوَ في بَطْنِ الحُوتِ: لا إلَهَ إلاّ أنْتَ سُبْحَانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ، فَإِنّهُ لَمْ يَدْعُ بـها رَجُلٌ مُسْلِمٌ في شَيْءٍ قَطّ، إلاّ اسْتَجَابَ الله لَهُ" .. هذا الاعترافُ بالظُّلمِ والإقرارُ الجميلُ .. إذا خالطَ الدُّعاءَ من العبدِ الذَّليلِ .. فإنَّه يصيبُ إجابةَ الكريمِ ذي العطاءِ الجزيلِ.

يا أهلَ الإيمانِ .. اعترافُ العبدِ المؤمنِ الذي خاضَ في شيءٍ من المحرماتِ، بأنه أجرمَ في حقِّ نفسِه بارتكابِ الموبقاتِ، هو أولُ أسبابِ تحصيلِ التَّوبةِ والهدايةِ من ربِّ السَّماواتِ،قالَ تعالى: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 102]، فإذا تابَ توبةً صادقةً تابَ اللهُ عليه وغفرَ له ذنوبَه،. كما جاءَ في الحديثِ: "فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبٍ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ".

ولذلكَ جاءَ في الحديثِ: "إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا، فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ، فَاغْفِرْ لِي، فَقَالَ رَبُّهُ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟، غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَقَالَ: رَبِّ، أَذْنَبْتُ، فَاغْفِرْهُ، فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟، غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا، قَالَ: رَبِّ، أَذْنَبْتُ آخَرَفَاغْفِرْهُ لِي، فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟، غَفَرْتُ لِعَبْدِي، غَفَرْتُ لِعَبْدِي، غَفَرْتُ لِعَبْدِي، فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ"، فالعبدُ لا بُدَّ له من الخطأِ،فإذا كانَ كلما أخطأَ اعترفَ بذنبِه واستغفرْ، فسيغفرُ اللهُ تعالى له.

وانظروا كيفَ تعاملَ إبليسُ مع الذَّنبِ.. فلم يعترفْ بالمعصيةِ .. ولم يعاتبْ نفسه .. ولم يتبْ منها .. بل لامَ ربَّه سبحانَ وتعالى: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف: 16] .. فلذلكَ طُردَ من ملكوتِ السمواتِ .. وأخرجَ من رحمةِ اللهِ محسوراً .. وأصبحَ مذموماً مخذولاً مدحوراً .. لكلِّ شرٍّ ورذيلةٍ قائداً.. وفي نارِ الجحيمِ خالداً.

وكذلكَ المنافقونَ لا يعترفونَ بذنوبِهم ولا يستغفرونَ .. فلما قالوا ما قالوا في رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ وأصحابِه .. ما ندموا ولا تابوا ولا اعتذروا .. وإنما قالوا كما أخبرَ اللهُ تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) [التوبة: 65].

فعليكم بسنَّةِ الأنبياءِ وأهلِ الإيمانِ .. وإياكم وسنَّةَ أهلِ النِّفاقِ والشَّيطانِ .. فلتكن ذنوبَنا بينَ أعينِنا .. ولنسشعرْ تقصيرَنا .. ففي ذلكَ النَّجاةُ والفلاحُ .. وفيها مغفرةُ العزيزِ الفتَّاحِ ..

ذكرَ ابنُ الجوزي -رحمَه اللهُ- قصَّةً لأبي نواسٍ بعدَ موتِه وهو المعروفُ بشاعرِ الخمرِ .. يَقولُ مُحَمَّدُ بْنُ نَافِعٍ: كَانَ أَبُو نُوَاسُ لِي صَدِيقًا فَمَاتَ فَرَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ، فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟، قَالَ: غَفَرَ لِي بِأَبْيَاتٍ قُلْتُهَا، هِيَ تَحْتَ الْوِسَادَةِ، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ فَإِذَا رُقْعَةٌ فِيهَا شِعْرٌ مَكْتُوبٌ وَهُوَ:

يَا رَبِّ إِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً *** فَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ عَفْوَكَ أَعْظَمُ

إِنْ كَانَ لا يَرْجُوكَ إِلا مُحْسِنٌ *** فَمَنِ الَّذِي يَدْعُو وَيَرْجُو الْمُجْرِمُ؟

أَدْعُوكَ رَبِّ كَمَا أَمَرْتَ تَضَرُّعًا *** فَإِذَا رَدَدْتَ يَدِي فَمَنْ ذَا يَرْحَمُ؟

مَا لِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ إِلا الرَّجَا *** وَجَمِيلُ عَفْوِكَ، ثُمَّ إِنِّي مُسْلِمُ

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، ونفعنا بهديِ سيدِ المرسلينِ، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كل ِّذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، الرحمنِ الرحيمِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن نبيَنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ .. أما بعدُ:

فَتأملوا كيفَ خُتمَ سيِّدُ الاستغفارِ .. (فَإِنَّهُ لا يغْفِرُ الذُّنُوبِ إِلاَّ أَنْتَ) .. فإذا اجتمعَ مع الاعترافِ بالذَّنبِ .. افتقارٌ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ وأنه الواحدُ القادرُ على مغفرةِ الذُّنوبِ .. تحقَّقَ ما يرجوه العبدُ من مغفرةِ الذَّنبِ وحصولِ الأجرِ .. وهذا لا يكونُ إلا مع استشعارِ عظمةِ اللهِ وغناه وجلالِه .. وأنه الملكُ القُّدوسُ العظيمُ .. الذي (يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن: 29]، يغفرُ ذنبًا، ويفرِّجُ همًّا، ويكشفُ كربًا، ويجبرُ كسيرًا، ويُغني فقيرًا، ويُعَلِّمُ جاهلًا، ويهدي ضالًّا، ويُرشِدُ حيرانًا، ويغيث لَهْفَانًا، ويَفُكُّ عانيًا، ويُشبعُ جائِعًا، ويَكْسُو عاريًا، ويشفي مريضًا، ويُعافي مبتلى، ويقبلُ تائبًا، ويجزي محسنًا، وينصرُ مظلومًا، ويقصمُ جبَّارًا، ويُقيلُ عثرَةً، ويَسترُ عَورةً، ويُؤَمِّنُ رَوعةً، ويرفعُ أقوامًا، ويضعُ آخرينَ.

لا بدَّ أن يكونَ في قلبِكَ أنَّه لا يتعاظمه ذنبٌ أن يَغفرَهُ، ولا حاجةٌ يُسأَلُها أن يعطيَها، لو أن أهلَ سماوتِهِ، وأهلَ أرضِهِ، وأولَ خلقِهِ وآخرَهم، وإِنْسَهم وجنَّهم، كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ منهم، ما زاد ذلك في ملكهِ شيئًا.

قلوبُ العبادِ ونواصيهم بيدهِ، وأَزِمَّةُ الأمورِ معقودةٌ بقضائهِ وقدرِهِ، الأرضُ جميعًا قبضتُهُ يومَ القيامةِ، والسمواتُ مطوياتٌ بيمينهِ، يقبضُ سماوتِه كلِّها بيدِهِ الكريمة، والأرضَ باليدِ الأخرى، ثم يَهُزُّهنَّ، ثم يقولُ: أنا المَلِكُ، أنا المًلِكُ، أنا الذي بَدَأْتُ الدُّنيا ولم تكنْ شيئًا، وأنا الذي أُعيدُها كما بَدَأتُها، هو الأولُ الذي ليسَ قبلَهُ شيءٌ، والآخرُ الذي ليسَ بعدَه شيءٌ، والظاهرُ الذي ليسَ فوقَه شيءٌ، والباطنُ الذي ليسَ دونَه شيءٌ، أحقُّ مَن ذُكِر، وأحقُّ مَن عُبد، وأحقُّ مَن حُمِد، وأولى مَن شُكِر، وأنصَرُ مَن ابتُغِي، وأرأفُ مَن مَلَكَ، وأجودُ مَن سُئِل، وأعفَى مَن قَدِر، وأكرم مَن قُصِد، وأعدلُ مَن انتَقَم، حكمُه بعد علمهِ، وعفوهُ بعد قدرتهِ، ومغفرتُه عن عِزَّتهِ، ومَنْعُه عن حِكمتهِ، وموالاتُه عن إحسانهِ ورحمتهِ.

فإذا اجتمعتْ تلكَ المعاني في قلبِ من يقولُ سيِّدَ الاستغفارِ .. فلا يكونُ بينَه وبينَ الجنَّةِ إلا الموتَ ولقاءِ العزيزِ الغفَّارِ.

اللهمَّ أنتَ ربُّنا لا إله إلا أنتَ، خلقتَنا ونحنُ عبيدُك ونحن على عهدِك ووعدِك ما استطعنا، نعوذُ بك من شرِّ ما صنعنا نبوءُ لك بنعمتِك علينا، ونبوءُ بذنوبِنا، فاغفر لنا إنه لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنتَ ..

اللهم إنا نسألُك علماً نافعاً وقلباً خاشعاً ولساناً ذاكراً، اللهم إنا نعوذُ بك من علمٍ لا ينفعُ، ومن قلبٍ لا يخشعُ، ومن عينٍ لا تدمعُ، ومن دعوةٍ لا تُسمعُ، اللهم إنا نعوذُ بك من هؤلاء الأربعِ، اللهم إنا نسألُك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم آتِّ نفوسَنا تقواها وزكِّها أنتَ خيرُ من زكاها، أنت وليُّها ومولاها، والقادرُ على كلِّ شيءٍ ..

اللهمَّ من أرادَ الإسلامَ والمسلمينَ بسوءٍ فأشغله بنفسِه، واجعلْ تدبيرَه تدميرَه يا سميعُ الدُّعاءِ، اللهم صلِ وسلمْ وباركْ على عبدِك ورسولِك نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه وسلم، سبحانَك ربِّنا ربِّ العزةِ عما يصفونَ وسلامٌ على المرسلينَ والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي