أكثر اهتمامات الناس اليوم وحديث مجالسهم منصب على دائرة الاهتمام لا التأثير؛ فتجدهم يقضون الساعات الطوال في نقاش أزمة المرور, ووضع الحلول لها, وانتقاد المسئولين, وتارة يحللون الوضع في سوريا -فرَّج الله عن أهلها-، ويقترحون حلولاً للخلاص من هذه الحرب, أو يقضون المجالس الطويلة في النقاش في انقلاب تركيا والأسباب التي أدت إليه ثم الأسباب التي أدت لفشله, وهكذا دواليك, لكنهم في المقابل يغفلون كثيرًا عن النقاش عما يتعلق بدائرة التأثير, نادرًا ما نجد في مجالسنا من يتحدث عن أسباب الإعانة مثلاً على القيام لصلاة الفجر, أو الأساليب الناجحة لتربية الأبناء...
الحمد لله الذي خلق الإنسان من سلالة، وركَّب بلطف حِكمته مفاصله وأوصاله، وزيَّنه بالعقل والحلم وأزال عنه ظلماء الجهالة، فسبحان من اختارهم لنفسه، ونعَّمَهم بأنسه وأجزل لهم نواله، ويسّر مولاه لعبده سبيل السعادة وحقق آماله، وأجزل نصيبه من التوفيق وقَبِل أعماله.
وأشهد أن لا اله إلا الله, وحده لا شريك له, له الملك, وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي *** جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته *** بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلتَ ذا عفو عن الذنب لم تزل *** تجودُ وتعفو منَّة وتكرما
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبدُ الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله.
يروى عن شفيع الخلق طرَّا *** حديثاً فيه للمضني دليلُ
هو المختار من كل البرايا *** هو الهادي البشيرُ هو الرسولُ
عليه من المهيمن كل وقت *** صلاة دائما فيها القبول
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.. إذا جلست هذه الأيام في مجلس العام.. فحاول أن ترصد ما يدور في هذا المجلس من أحاديث.. ثم تناوله بالتحليل..
في مجالسنا تتعدد مشارب الناس.. وتختلف أحاديثهم.. يجلسون بالساعات متقابلين.. لا ينتهي حديثهم.. فكل موضوع يجر إلى آخر.. وكل قصة تستدعي أخرى.. ولو جلسوا أيامًا..
فدعونا في هذا اليوم نتحدث عن أحاديث المجالس, نرصد الأحاديث والمتحدثين, ونضعهم على ميزان الشرع, لنميز بين الطيب والرديء.
وقبل الشروع في ذلك ينبغي أن نتذكر أن من أعظم نعم الله تعالى على الإنسان نعمة اللسان: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ) [البلد: 8- 9], فامتنَّ الله تعالى على عباده بأن جعل لهم لساناً به يتذوقون حلو الطعام من مره, ومالحَه وحامضَه, وفي نفس الوقت فإن هذا العضو الصغير يستطيع به الإنسان أن يبين ويعبر عما في نفسه, وهذا البيان بحد ذاته نعمة أخرى تستوجب الشكر: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ *خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن: 1- 4].
فكم من شخص لديه لسان في فمه لكن لا يستطيع أن ينطق بما يريد, فتراه يبذل مجهودًا عظيمًا ليعبر عن أبسط الأشياء التي نعبر عنها نحن بكل سهولة, فلله الحمد والشكر.
وإذا كان اللسان والبيان نعمتان من الله -تبارك وتعالى- فإنه ينبغي ألا تستعمل هاتين النعمتين إلى فيما يريده الله سبحانه, فهذا شكر النعمة الحقيقي, ولا يكفي الشكر باللسان إن لم توظَّف النعم في ما يريده المنعِم ويحبُّه.
وعودًا على ما بدأناه من أحاديث المجالس.. فهذا أوان الشروع في المقصود من رصد الأحاديث والمتحدثين:
فمن أعظم ما يكون في المجالس.. وهي فاكهة المجالس كما يقال.. الغيبة.. وهي كما عرفها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما عند مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "ذكرك أخاك بما يكره".
الغيبة آفة المجالس, سهلة على اللسان, سريعة لذيذة, حتى إنك لتجد كثيرًا من الصالحين يتورعون عن كثير من المحرمات لكنهم يتساهلون في أمر الغيبة. (وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) [الحجرات: 11].
قال ابن عبَّاس -رضي الله عنهما-: "اذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، ودَع منه ما تُحِبُّ أن يَدَع منك".
وأقبحُ القبائحِ الوخيمة *** الغيبةُ الشنعاءُ والنَّمِيمَة
فتلك والعياذُ بالرحمنِ *** موجبةُ الحلولِ في النيرانِ
الغيبة -أيها الإخوة- لا يشترط أن تكون في موضوع كبير وإنما تكفي أحياناً إشارة.. لتكون غيبة يأثم بها صاحبها.. وتكتب في سجلاته.. حتى تعرض عليه يوم الحساب.. جاء عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: قلت للنَّبي -صلى الله عليه وسلم-: حسبك من صفيَّة كذا وكذا، -كأنها تشير إلى أنها امرأة قصيرة- فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لقد قلتِ كلمةً لو مُزِجَت بماء البحر لمزجته".
قال ابن عثيمين -رحمه الله-: "معنى مزجته: خالطته مخالطة يتغير بها طعمه، أو ريحه، لشدة نتنها، وقبحها، وهذا من أبلغ الزواجر عن الغِيبة".
من اعتاد غيبة الناس وهتك أستارهم.. هتك الله ستره:
لا تلتمسْ مِن مساوي النَّاسِ ما ستروا *** فيهتكَ الله سترًا مِن مساويكا
واذكرْ محاسنَ ما فيهم إذا ذُكِروا *** ولا تَعِبْ أحدًا منهم بما فيكا
إذا كنت في مجلس وسمعت غيبة فناصح المغتاب, وتذكر أنه لا يحل لك سماع الغيبة, بل إن بعض أهل العلم ذهب إلى أن قائل الغيبة وسامعها في الإثم سواء, فإن انتصح المغتاب فبها ونعمت, وإلا فقم من المجلس, كان ميمون بن سياه البصري لا يغتاب، ولا يدع أحدًا يغتاب، ينهاه فإن انتهى، وإلا قام.
وسمعَك صُنْ عن سماع القبيح *** كصون اللسان عن القول به
فإنَّك عند استماع القبيح *** شريك لقائله فانتبه
أيها الإخوة.. ومن الأحاديث التي تدور في المجالس ما يدور من أخبار وتحليلات سياسية, أو حديث في الشأن العام كبعض الأحداث المحلية والداخلية, وهموم الوطن والمواطن, فهذه الأحاديث إن كان المقصد منها التوعية والتبصرة وفقه الواقع كما يقال فأمر طيب حسن.
لكن ينبغي أن يتنبه الإنسان إلى أن كثيرًا من الأخبار التي تدور ليس لها خطام ولا زمام, ولا وجود لها في أرض الواقع, ولا مصدر لها, وإنما هي أخبار كاذبة مصدرها رسالة طائشة في الواتساب, أو معرف مجهول في التويتر أو الفيسبوك, فيكون ناقل الكذبة أحد الكاذبين, ويزداد الأمر خطورة عندما يتصل هذا الخبر بسمعة بعض الأشخاص من الحكام أو المسئولين أو الناس العاديين, فيُلاك عرض ذلك المسكين بفرية صلعاء, لا أصل لها ولا أساس.
لا تذكرِ النَّاسَ إلا في فضائلِهم *** إيَّاك إيَّاك أن تذكر عيوبَهم
كم فيك عيب تناجي اللهَ يسترُه *** مَن يغتبِ الناسَ لا يسلمْ شرورَهم
كلُّ الخلائقِ خطَّاءٌ طبائعهم *** التائبون بشرعِ الله خيرُهم
الهمزُ واللَّمزُ لا تحمد عواقبُه *** من يعلم السرَّ علام غيوبهم
ومما ينبغي التنبيه إليه أن البعض يحب الأخبار المخيفة التي تُحِدث الإرجاف بين الناس, فتارة يهول من الخطر المحدق بالبلاد, وتارة يصور الأمن بالمنفلت وأن الناس لم تعد تأمن أموالها وأعراضها, وأخرى يبث الأراجيف من الخطر الاقتصادي المحدق بالبلد وأن الناس سيرجعون فقراء قريباً, إلى آخر هذه الأراجيف التي لا تستند على معلومة أكيدة, ولا فائدة من ذكرها بين الناس على فرض صحتها, وإنما غاية ما يحصل بها إثارة الخوف والفزع في قلوب الناس, ويدخل في إطار الحرب النفسية التي يطمح لها الأعداء.
جاء في الحديث الذي أخرجه أبو داوود وغيره عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كفى بالمرءِ إثمًا أن يُحدِّثَ بكلِّ ما سمِع".
متى تُطبِق على شفتيك تَسلمْ *** وإن تفتحْهما فقلِ الصَّوابا
فما أحدٌ يُطيل الصَّمت إلَّا *** سيأمنُ أن يُذمَّ وأن يُعابَا
فقلْ خيرًا أو اسكتْ عن كثيرٍ *** مِن القول المُحلِّ بك العقابا
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, قد قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ وراقبوه في السر والنجوى, واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى.
فيا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.. يذكر بعض المختصين في علم الإدارة أن حول الإنسان دائرتين: دائرة الاهتمام ودائرة التأثير, فأما دائرة الاهتمام فهي الأمور التي يهتم بها الإنسان لكنه لا يستطيع أن يغير فيها, أما دائرة التأثير فهي الأمور التي يهتم بها الإنسان ويستطيع أن يغير فيها.
فعلى سبيل المثال اهتمام الإنسان بزحام السيارات في الصباح أو زحامهم عند المستشفيات, أو بضعف مخرجات التعليم, ونحو ذلك, اهتمامه بهذه الأمور طبيعي ولا بأس به, ويدخل في نطاق دائرة الاهتمام والتي يهتم بها الإنسان ولا يملك فيها قراراً للتغيير.
بينما من الممكن أن يُمثل لدائرة التأثير باهتمام الإنسان بمستقبله وتربية أبنائه وتأمين الحياة السعيدة لهم, واهتمامه بعباداته وعلاقته مع ربه, فهذه يملك الإنسان فيها قرارًا لتغييرها وتحسينها وتطويرها.
الملاحظ أن أكثر اهتمامات الناس اليوم وحديث مجالسهم منصب على دائرة الاهتمام لا التأثير؛ فتجدهم يقضون الساعات الطوال في نقاش أزمة المرور, ووضع الحلول لها, وانتقاد المسئولين, وتارة يحللون الوضع في سوريا -فرَّج الله عن أهلها-، ويقترحون حلولاً للخلاص من هذه الحرب, أو يقضون المجالس الطويلة في النقاش في انقلاب تركيا والأسباب التي أدت إليه ثم الأسباب التي أدت لفشله, وهكذا دواليك, لكنهم في المقابل يغفلون كثيرًا عن النقاش عما يتعلق بدائرة التأثير, نادرًا ما نجد في مجالسنا من يتحدث عن أسباب الإعانة مثلاً على القيام لصلاة الفجر, أو الأساليب الناجحة لتربية الأبناء, أو الفرص المالية التي يمكن للإنسان استغلالها لتحسين دخله المادي, ونحو ذلك.
إن الحديث في دائرة الاهتمام يجب أن لا تتجاوز نسبته 10% من حياة الإنسان, بينما التسعين بالمائة المتبقية ينبغي أن تكون في دائرة التأثير.
إذا أردنا لأنفسنا نجاحاً وفلاحًا وصلاحاً فلنجعل مجالسنا مفيدة خيرة يُذكر فيها اسم الله كثيرًا, أخرج أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة", وروى معاذ بن جبل أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لم يتحَسَّرْ أهلُ الجَنَّةِ إلَّا على ساعةٍ مرَّتْ بهم لم يذكُروا اللهَ تعالى فيها".
إذا كنت عن أن تحسن الصَّمت عاجزًا *** فأنت عن الإبلاغ في القول أعجزُ
يخوض أناس في المقال ليُوجزوا **ولَلصمتُ عن بعض المقالات أوجزُ
أيها الأحبة.. وقبل ختام أي مجلس.. لا تنسوا كفارة المجلس, روى الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من جلس في مجلسٍ فكثُر فيه لغَطُه فقال قبل أن يقومَ من مجلسِه ذلك: سبحانك اللهمَّ وبحمدِك، أشهدُ أن لا إله إلا أنتَ، أستغفرُك وأتوبُ إليك؛ إلا غُفِرَ له ما كان في مجلسِه ذلك".
كلمات يسيرة ترقع ما حصل من لغط في المجلس, فالغافل كل الغفلة من ترك هذا الذكر, والعاقل كل العقل من حافظ عليه ونقشه في صدره.
عوِّد لسانك قول الخير تحظَ به *** إنَّ اللسان لما عوَّدتَ معتادُ
موكلٌ بتقاضي ما سننتَ له *** فاخترْ لنفسك وانظر كيف ترتادُ
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.. اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فاللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي