بيع ثمار النخيل

محمد بن صالح بن عثيمين
عناصر الخطبة
  1. بعض نعم الله على خلقه وكيفية شكرها .
  2. نعمة ثمار النخيل وكيفية شكرها .
  3. وقت بيع ثمار النخيل والأعناب .
  4. أقسام بيع ثمار النخيل على الشجرة .
  5. حكم استبدال ثمرة نخلة بثمرة نخلة أخرى .
  6. بعض صور عيوب ثمار النخيل وحكم كل عيب .
  7. حكم بيع ثمرة البساتين مساهمةً على الشركاء .

اقتباس

أيها الناس: إن أكبر نعمة أنعم الله عليكم: أن هداكم للإيمان والإسلام، مخلصين لله –تعالى-، متبعين لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقد كان قوم يتخبطون العشواء في دينهم ما بين مغضوب عليهم علموا الحق، واستكبروا عنه، وضالين جهلوا الحق فلم يهتدوا إليه.

الخطبة الأولى:


 
الحمد لله الكريم المنان، المتفضل على عباده بأصناف النعم وأنواع الإحسان.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الديان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، المبعوث بالهدى والرحمة وصلاح القلوب والأبدان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليمًا.
 
أما بعد:
 
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، واشكروه على ما أنعم به عليكم من النعم العظيمة.
 
نعم الدنيا، ونعم الدين، نعم كثيرة وافرة: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)[النحل: 18].
 
اشكروا الله على هذه النعم، فإن الشكر سبب لمزيدها وبقائها، وإن كفر النعم سبب لنقصها وزوالها، قال الله -تعالى-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم: 7].
 
وقال سبحانه: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ)[النحل: 112].
 
أيها الناس: إن شكر الله على نعمته، هو: القيام بطاعته.
 
أن تفعلوا ما أمركم الله به، وتتركوا ما نهاكم عنه، سواء في كتابه، أو في سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فإن: (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ) [النساء:80].
 
(وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا)[الأحزاب:36].
 
إن العاصي ليس بشاكر لربه، ولو قال شكرًا لله بلسانه، فأيُّ فائدة لشكر الإنسان ربه بلسانه وهو مقيم على معصيته؟
 
أفلا يخشى من شكر ربه بلسانه، وهو مقيم على معصيته أن يقال له: كذبت إنك لم تشكر ربك حق شكره؟.
 
أيها الناس: إن أكبر نعمة أنعم الله عليكم: أن هداكم للإيمان والإسلام، مخلصين لله –تعالى-، متبعين لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقد كان قوم يتخبطون العشواء في دينهم ما بين مغضوب عليهم علموا الحق، واستكبروا عنه، وضالين جهلوا الحق فلم يهتدوا إليه.
 
وإن من نِعَم الله عليكم هذا الأمن والاستقرار، وقد أصيب قوم بالخوف والقلق والقتال.
 
وإن من نعم الله عليكم ما يسره لكم من أنواع الأرزاق تأتيكم رغدًا من كل مكان، وقد كان قوم لا يستطيعون لقمة العيش إلا بتعب وعناء، وربما ماتوا من الجوع والإقلال.
 
وإن من نعم الله عليكم ما أخرجه لكم من ثمرات النخيل والأعشاب تتفكهون بها رطبًا جنيًّا، وتدخرونها تمرًا وزبيبًا، فاعتبروا بما فيها من قدرة الله وحكمته ورحمته، حيث أخرجها لكم من هذه الجذوع والغصون، مأكولًا طريًّا شهيًّا: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[يس: 82].
 
فاشكروا الله -تعالى- على هذه النعم، واستعينوا بها على طاعته، وإياكم أن تكون نعم الله عليكم سببًا لأشركم وبطركم، وفسوقكم عن أمر ربكم، فإن ذلك أقوى معول لهدمها، وأقوى سبب لزوالها.
 
أيها الناس: إن من شكر الله على نعمته بهذه الثمار: أن تتمشوا في بيعها وشرائها على ما سَنَّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ابتغاءً لثواب الله، واتباعًا لشريعته، وطلبًا للخير والبركة في أموالكم.
 
ولقد بيَّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متى تباع هذه الثمار، وكيف تباع، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تتبايعوا هذه الثمار، حتى يبدو صلاحها، ولا تبيعوا الثمر بالتمر"[البخاري (2087) مسلم (1555) الترمذي (1228) النسائي (4526) أبو داود (3371) ابن ماجة (2217) أحمد (3/250) مالك (1304)].
 
نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البائع والمشتري عن بيع الثمرة، حتى يبدو صلاحها؛ لأنها قبل صلاحها أكثر عرضةً للآفات، وأزيد نموًّا، فتحصل الجهالة فيما زاد.
 
ونهى عن بيع الثمر بالتمر؛ لأن ذلك ربًا، أو وسيلةً إليه.
 
والصلاح في ثمر النخل: أن يحمر أو يصفر، والصلاح في العنب أن تظهر فيه الحلاوة، ويطيب أكله.
 
فمن باع شيئًا من ثمار النخيل والأعناب على شجره قبل بدو صلاحه، فقد عصى نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، والبيع باطل، والثمرة للبائع لا يحل للمشتري أن يتصرف فيها بشيء، والثمن للمشتري لا يحل للبائع أن يتصرف فيه بشيء.
 
وبيع ثمار النخيل على شجره ينقسم ثلاثة أقسام:
 
 أحدها: أن يبيعه تفريدًا كل نخلة وحدها، فإن كان فيها لون ولو واحدة جاز بيعها، وإلا وجب الانتظار حتى تلون.
 
القسم الثاني: أن يبيعه أنواعًا كل نوع وحده جميعًا، مثل أن يبيع السكري كله جملة واحدة، فإن كان فيه لون ولو في نخلة واحدة منه جاز بيعه جميعًا تبعًا للملون منه، وإلا وجب الانتظار به، حتى يظهر فيه اللون.
 
القسم الثالث: أن يبيع البستان كله جملةً واحدةً بجميع أنواعه، فإن كان اللون قد ظهر في جميع الألوان، ولو في نخلة واحدة، من كل نوع جاز بيعه، وإلا وجب الانتظار فيما لم يظهر اللون في نوعه، حتى يلون.
 
فإذا كان البستان ثلاثة أنواع برحيًّا وسكريًّا وأمهات حمام فباعه جميعًا جملةً واحدةً، ولم نجد شيئًا ملونًا من البرحى، فإن البيع يصح في السكري، وأمهات الحمام، دون البرحى.
 
ولا يجوز إبدال ثمرة نخلة بثمرة نخلة أخرى، سواءً كانت من نوعها أم لا، وسواءً كانت أقل منها أم أكثر، وسواءً كان مع أحدهما زيادة دراهم أم لا؛ لأنه لا يجوز بيع الثمر بالتمر خرصًا، لكن لو جدّ شخص ثمرة نخلة لشخص آخر غلطًا، فقال له: خذ ثمرة نخلتي، وأن أضمن ثمن ما حددته للبائع، فرضي بذلك، فلا بأس.
 
وإذا حدث عيب في الثمر بعد بيعه، فإن كان بسبب من المشتري فلا ضمان على البائع، مثل أن يكون المشتري غير عارف بالخرف فيخرفها، فتختلف من خرفه، أو يؤخر جدها عن وقته فيصيبها مطر أو غيره، فلا ضمان على البائع.
 
وإن كان العيب مجرد قضاء وقدر لا سبب من العبد فيه، كالغُبير والحشف الحاصل من شدة الحر، فضمان نقصها على البائع؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا بعت من أخيك ثمرًا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا بم تأخذ مال أخيك بغير حق"[مسلم (1554) النسائي (4527) أبو داود (3470) ابن ماجة (2219) الدارمي (2556)].
 
فيقوم النقص على البائع، ويسقط من الثمن بقسطه، فإذا كان النقص ربعًا أسقط عن المشتري ربع الثمن، وإن كان أقل أو أكثر أسقط عنه بنسبته، وعلى هذا فلو اشترى شخص ثمرة نخلة بمائتين ثم باعها على شخص آخر بثلاثمائة ثم نقصت النصف، فإن المشتري الثاني يأخذ مائة وخمسين من المشتري الأول نصف ما دفع إليه، والمشتري الأول يأخذ مئة فقط من الذي باع عليه؛ لأنها نصف ما دفع إليه، ولا يحل له أن يجعل المئة والخمسين كلها على البائع؛ لأن ذلك ظلم حيث رجع عليه بثلاثة أرباع الثمن.
 
وهذه مسألة جهلها كثير من الناس، حيث ظنوا أن النقص كله يكون على البائع الأول، ولم يتفطنوا أن النقص بالنسبة.
 
وإذا حدث العيب في الثمرة، وأحب المشتري أن يردها، ويأخذ الثمن، فله الحق في ذلك، إلا أن يكون قد شرط عليه عند العقد أنه إن حدث بها عيب تثمن بدون رد وقَبِلَ، فإنه يثمن له ولا يردها؛ لأن المسلمين على شروطهم، إلا شرطًا أحل حرامًا، أو حرم حلالًا.
 
وإذا كان العيب موجودًا عند البيع، ورضي به المشتري، فلا شيء له على البائع، ولو زاد العيب فيما بعد؛ لأنه دخل على بصيرة.
 
وإذا كانت الثمرة سليمةً عند البيع، فشرط على المشتري أنه إن حدث بها عيب، فالبائع برئ منه، فالشرط باطل، ولا يبرأ البائع به؛ لأن هذا الشرط غرر وجهالة.
 
أيها الناس: لقد اعتاد كثير من أهل البساتين أن يبيعوا ثمرة بساتينهم مساهمةً على الشركاء، ثم يخرج عليها الشركاء تفريدًا.
 
وفي رأينا أن عدم البيع عليهم أحلَّ؛ لأن الغالب فيما بيع على الشركاء أن يحصل فيه المناجشة من أجل زيادة الثمن طلبـًا للربـح، وقد: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن النجش"[البخاري (2035) مسلم (1516) النسائي (4497) ابن ماجة (2173) أحمد (2/108) مالك (1392)].
 
ولا خير في كسب من ورائه، وقد نهى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
 
ولأن بعض العلماء حرم بيع الثمار على النخيل بربح؛ لأنها ليست من ضمان المشتري، وقد: "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ربح ما لم يضمن"[الترمذي (1234) أبو داود (3504) ابن ماجة (2188) أحمد (2/175) الدارمي (2560)].
 
فالأولى: بيع ثمار النخيل على ذوي الحاجات تفريدًا؛ لأنه أبعد عن الوقوع في هذه الأمور.
 
إن هؤلاء المناجشين وإن زاد كسبهم بهذه الطريقة المحرمة، فإنه ينقص إيمانهم؛ لأنهم وقعوا في معصية الله ورسوله، وتنقص كذلك بركة أموالهم؛ لأن المال إذا خالطه المحرم محق بركته، وربما يحصل فيهم، أو في أهلهم آفات وأمراض، تلتهم أموالهم بالعلاج، أو يحصل نقص في سعر التمر، فيلحقهم من الخسارة أكثر مما أدركوا من الربح، وهم بمناجشتهم يضيقون على أهل العوائز، حيث تزيد عليهم الأثمان بسبب مناجشة هؤلاء الجشعين.
 
وفقني الله وإياكم للورع عما يضرنا، والزهد فيما لا ينفعنا، والرغبة فيما يقربنا إليه، وجعلنا هداةً مهتدين مصلحين صالحين، إنه جواد كريم.
 
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي