هذا الخمرُ طالما خدَّرَ الأمم والشعوب، وسلبها حضارتها وانتصاراتها، وشحذ شهواتها الحيوانية، وتعلقت به النفوسُ تعلقاً شديداً أشدَّ من تعلقها بكتابِ ربها وسنة رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم-، كلُّ هذا مع أنَّ أدلةَ الشرعِ قد تتابعت على تحريمهِ، وحذّرت منه؛ لمنافاتهِ لروح الإسلام الجادَّة، وتعاليمهِ الطاهرةِ الرفيعة، هل عرفتموه أيّها المسلمون؟ إنَّهُ الغناءُ المحرم...
الحمد للهِ العظيم الرحمن، الكريمِ المنان، المتفضلِ بواسع ِالرحمة والعطاءِ والإحسان، أحمدهُ -سُبحانهُ- وأشكره.
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنّ محمداً عبده ورسوله، وصفيُّهُ وخليله، وخيرته من خلقه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهِ واقتفى أثرهُ إلى يوم الدين، وسلَّمَ تسليماً كثيراً.
أمَّا بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، اتقوهُ حقَّ التقوى، وراقبوهُ في سركم وعلنكم، واحذروا غضبهُ وعقابه؛ فإنَّ أجسادَكم على النارِ لا تقوى.
أيّها المسلمون: خمران مسكران مفسدان، حرّمهما الإسلام، ونهى عنهما أشد النهي، أحدهما يُسكر البدن، ويُذهبُ العقل، لكنَّهُ على الرغم من خطرهِ وعظم شره، لا يلبثُ صاحبهُ أن يفيق من سكره ويعود إلى رشده، وأمَّا الخمر الآخر، فإنَّهُ يُسكر الروح، ويُفسد القلب، ويستولي عليه، فلا يبقي فيه مكاناً لمحبةِ الله وتعظيمهِ والأنس به، وهذا الخمرُ لا يَكادُ صاحبهُ يفيقُ منه، إلا أن يتداركهُ الله برحمةٍ منه.
هذا الخمرُ طالما خدَّرَ الأمم والشعوب، وسلبها حضارتها وانتصاراتها، وشحذ شهواتها الحيوانية، وتعلقت به النفوسُ تعلقاً شديداً أشدَّ من تعلقها بكتابِ ربها وسنة رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم-، كلُّ هذا مع أنَّ أدلةَ الشرعِ قد تتابعت على تحريمهِ، وحذّرت منه؛ لمنافاتهِ لروح الإسلام الجادَّة، وتعاليمهِ الطاهرةِ الرفيعة، هل عرفتموه أيّها المسلمون؟ إنَّهُ الغناءُ المحرم، المصحوب بآلاتِ اللهوِ والمعازف، الذي ألفهُ كثيرٌ من الناسِ واعتادوه، بل استحلوهُ، مصداقاً لقولِ النبي- صلّى الله عليه وسلّم-: "ليكونن من أمتي أقوامٌ يستحلون الحرَ والحرير والخمر والمعازف" فهذا الحديثُ من أعلامِ نبُوتهِ- صلّى الله عليه وسلم-.
وها نحنُ نرى اليومَ هذا الغناءَ الخبيث، وهو يُبثُّ من سائرِ المحطاتِ والإذاعاتِ إلاَّ القليل، بلا نكيرٍ ولا تغيير.
ولم يقتصر الأمرُ على ذلك، حتى ضمُّوا إلى ذلك صور الصبايا الفاتنات، الكاسياتِ العاريات، المائلاتِ المميلات، وهنَّ يتراقصنَ على أنغامِ الموسيقى بشكلٍ مخجل، فلا إلهَ إلاَّ الله! ما أعظمها من فتنة! وما أشدَّها من بلية!.
فلا تعجب -أخي المسلمُ- إذا علمت أنَّ اللهَ حرَّم الغناءَ بمكةَ قبل تحريمِ الخمرِ بالمدينة، وما ذلك إلاَّ لخطرهِ على الإيمانِ والعقيدة. وقد عبَّرَ عن ذلك الإمامُ ابن القيم -رحمهُ اللهُ- بقوله:
فالقلبُ بيتُ الربِّ جـلَّ جلالـهُ *** حباً وإخلاصاً مع الإحسانِ
فــإذا تعلَّــقَ بالغناءِ أصارهُ *** عبداً لكـلِّ فـلانةٍ وفـلانِ
حُبُّ القُرانِ وحُبُّ ألحـانِ الغنا *** في قلبِ عبدٍ ليس يجتمعانِ
واللهِ ما انفكَ الذي هـو دأبـهُ *** أبداً من الإشراكِ بالـرحمنِ
واللهِ إنَّ سماعهم في القلبِ والـ *** إيمانِ مثل السُمّ في الأبـدانِ
وإذا أردت -أخي المسلم- معرفةَ خطر هذا البلاء؛ فتأمل حال من ابتلوا بفتنةِ من يسمونها كوكب الشر أو غيرها، كيف يسهرون الليالي الطوال، ودموعهم على خدودهم يتجاوبون مع التأوهات والتكسرات التي تصدرها تلك المغنية الفاجرة، التي خلعت جلبابَ الحياءِ وخوف الله -سبحانه-، ثمَّ تفكر بعد ذلك: كيف يتسنى لأمةٍ هذا حالُ أكثرِ أفرادها، أن تبني مجداً، أو تستعيدَ عزاً، أو حتى تدفع عن نفسها عدواً أو طامعا؟.
والتاريخُ شاهدٌ على أنَّهُ ما من أمةٍ أوغلت في الغناءِ والموسيقى إلا أصيبت بالضعف والوهن والفساد الخلقي، كما تردت الأمة الرومانية واليونانية من قبل، وكما تتردى اليوم الأمة الغربية في أمراضها القاتلة، وذلك أنَّ الاستماعَ إلى الموسيقى والغناءِ الماجنِ يُولدُ في النفس الارتخاءَ الدائم، ويشحذُ الشهوات، فتصعبُ التكاليفُ، وتستيقظُ الشهوة، وتعظمُ الحياة الدنيا ولذاتها في النفس، وتتلاشى الآخرةُ والعمل لها؛ لأنَّ الغناءَ والموسيقى ذروةُ اللهو، واللهو ذروة الحياة الدنيا، وفي ذلك كلهِ تخديرٌ لمشاعر الجهادِ والتضحيةِ والفداء.
ويكفيكَ أن تنظرَ إلى تصرفات السامعين وحركاتهم المنافيةِ للوقار، وتستمع إلى أمانيهم في إشباعِ شهواتهم التي ألهبها هذا الغناء، يكفيكَ هذا لتحكم على هذا المنكرِ وأثرهِ المدمر في حياةِ الأممِ والشعوب، وهذا نذيرٌ للأمم اللاهية الراقصة.
ومن هُنا تعلمُ -أخي المسلم- لماذا يرتكزُ أعداءُ الإسلام في مخططاتهم الإجرامية لإفسادِ العالم، على نشرِ الغناءِ والرقص والموسيقى، وتشجيع محترفيها، والدعاية لهم، وقد ذكروا في بروتوكلاتهم أنَّهم سينشرون الفنَّ والرياضة، ويخدرون بهما الشعوب، حتى يخلو لهم الجوّ فيحكموا العالم ويتحكموا فيه، وقد نجحوا في ذلك.
فإلى الذين يُرددون في كلِّ مناسبة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهم يعلمون أنَّهم يُعلنون بهذا ولاءَهم الكامل للهِ ورسوله، ويُسلمون له قيادهم، إلى المؤمنين الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تُليت عليهم آياتهُ زادتهم إيمانا، وعلى ربهم يتوكلون، إلى هؤلاءِ أسوقُ حُكم الله تعالى في هذا المنكر، الذي أصبحَ اليومَ معروفاً.
يقول الله -تعالى-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [لقمان:6-7]. فسَّر كثيرٌ من الصحابة والتابعين لهو الحديثِ في الآيةِ بالغناء، بل حلفَ على ذلك ابن مسعودٍ - رضي الله عنه- فقال: "واللهِ الذي لا إلهَ غيره هو الغناء"، قالها ثلاثا.
وروى البخاري في صحيحه معلقاً بصيغة الجزم، عن أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف"، وهو نصٌ صريحٌ في تحريم المعازفِ بجميعِ أنواعها، ولو لم يكن في تحريم هذا المنكرِ إلّا هذا الحديث لكفى.
وقد اتفق الأئمةُ الأربعة -رحمهم الله- على تحريم الغناء، وقد نصَّ الإمامُ أحمد على كسرِ آلاتِ اللهو كالعودِ ونحوه، إذا رآها مكشوفةً وأمكنهُ كسرها.
وقال القاسمُ بن محمد: "الغناءُ باطلٌ، والباطلُ في النار". ويقولُ الفضيلُ بن عياض: "الغناءُ رقيةُ الزنا"، وقال يزيد بن عبد الملك: "يا بني أمية، إيَّاكم والغناءَ! فإنَّهُ يُذهبُ الحياء، ويزيدُ في الشهوة، ويهدمُ المروءة، وإنَّهُ لينوبُ عن الخمر، ويفعلُ ما يفعلُ السكر".
وسمع سليمان بن عبد الملك صوت غناءٍ فأحضر المغنين، وقال: "إنَّ الفَرسَ ليصهلُ فتستودقُ له الرمكة، وإنَّ الفحلَ ليهدر فتضبعُ له الناقة، وإن التيسَ لينبُ فتستحرمُ له العنز، وإنَّ الرجلَ ليتغنى فتشتاقُ لهُ المرأة"، ثُمَّ أمر بخصائهم. فأيُّ رجلٍ بعدَ هذا يملكُ في نفسهِ شيئاً من الغيرةِ والرجولة، يسمحُ لنسائهِ وبناتهِ بالإصغاء إلى غزلِ الفجَّارِ من المغنين السافلين؟ فلعمرُ الله! كم من حُرةٍ صارت بالغناءِ من البغايا! وكم من حُرٍ أصبح به عبداً للصبيان والصبايا! وكم من غيورٍ تبدَّلَ به اسماً قبيحاً بين البرايا!.
هذه -أيّها المسلمون- أقوال سلفنا الصالح في غناءٍ معظمهُ زهدٌ وحرب، فكيفَ بما هو سائدٌ اليوم من غناءٍ ماجن، يُحرضُ على الفاحشةِ ويشحذُ الشهوات، ويفجر الغرائز الحيوانية؟.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ ما تسمعون، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِّ ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروهُ وتوبوا إليه؛ إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم.
الحمد لله العظيمِ الرحمن، الكريمِ المنان، المتفضلِ بواسع الرحمة والعطاء والإحسان، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلّى الله عليه، وعلى آله وصحبه.
أيّها المسلمون: لقد عمت فتنةُ الغناءِ في هذا الزمن وطمت، حتى لم تدع بيتاً إلا دخلته، وهذا -والله- نذيرُ شؤمٍ وعذاب، يقولُ ابنُ القيم -رحمه الله-: "فإنَّ من يُعظمُ المغنيات والمغنين، ويجعلُ لهم نوع رياسةٍ وعزٍ لأجل ما يستمعُ به منهنَّ من الغناءِ وغيره، قد تَعرضَ من غضبِ الله ومقته وسلب نعمه عنه إلى أمرٍ عظيم، ولله كم زالت بهؤلاءِ نعمة عمن أنعم الله عليه فما رعاها حق رعايتها، وقد شاهدَ الناسُ من ذلك ما يطولُ وصفه، وما امتلأت دارٌ من أصواتِ هؤلاءِ وألحانهم وأصوات معازفهم ورهجهم، إلا وأعقبَ ذلك من حُزن أهلها ونكبتهم، وحلول المصائبِ بساحتهم، ما لا يفي بتلك الشرور، من غيرِ إبطاء، وسلِ الوجودَ ينبيكَ عن حوادثه، والعاقلُ من اعتبرَ بغيره".
وقال -رحمهُ الله-: "ومعلومٌ عند الخاصةِ والعامة، أنَّ فتنةَ سماعِ الغناءِ والمعازف أعظمُ من فتنةِ النوحِ بكثير، وهذا شاهدناه نحن وغيرنا، وعرفناه بالتجارب، أنَّهُ ما ظهرت المعازفُ وآلات اللهوِ في قومٍ وفشت فيهم واشتغلوا بها إلاَّ سلط الله عليهم العدو، وبلوا بالقحط والجدب وولاة السوء، والعاقلُ يتأملُ أحوالَ العالمِ، وينظر". وصدق -رحمهُ الله-، فهل من معتبر؟.
ألا فليتقِ الله أقوامٌ عكفوا على استماعِ هذا الغناء وآلاته، وملؤوا به قلوبهم، وليتق الله أقوامٌ رضوا به في بيوتهم وبين أهليهم، نابذين شرعَ اللهِ وراءهم ظهرياً.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [الأنعام:36].
اللهم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي