وبعد طول صراع كانت الغلبة لناشري الاختلاط في عدد من البلاد, ففي تركيا ومصر والجزائر وتونس والشام وغيرها حصل البلاء على المسلمين من هذا الأمر,.. فخرجت العفيفات في بلاد المسلمين حاسرات الرءوس, يزاحمن الرجال في الأعمال والمحال, فحصلت من جراء ذلك شرور مستطيرة, وما حصل رقي وتقدم, بل الذي نراه أن الدول العربية التي شاع فيها اختلاط الرجال بالنساء لم يتحقق لها نمو اقتصادي, ولا ازدهار تقني ومالي, بل الأمر على ما هو عليه, بل انحدر للأسوأ...
الحمد لله..
حين نهى الله سبحانه آدم وزوجه عن أكل الشجرة سعى الشيطان بهما ليأكلا منها, وما زال يزين لهما الأمر حتى أكلا, عندها بدت لهما سوءاتهما, وظهرت عورة كل منهما بعد ما كانت مستورة, وكان ذلكم هو أول سعي من الشيطان لكشف سوءة الإنسان, وتاب آدم وزوجته من معصيته, فاجتباه الله وهدى, لكنه منذ ذلك الحين بدأت المعركة بين الشيطان والإنسان, معركةُ الفضيلة والرذيلة, والحياء والبذاء, والحشمة والعري.
وجاء الإسلام, وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يؤكد على أن لا تختلط النساء بالرجال, فكان يأمر النساء عند خروجهن من المسجد أن يستأخرن عن أصول الطريق, وأن يلزمن حافات الطريق (رواه أبو داود).
ويأمر الرجال بالانتظار قليلاً بعد الصلاة حتى يتفرق النساء.
هذا أمره, أما فعل أتباعه فكانوا لا يحيدون عن ذلك, بل كانت النساء لا يخالطن الرجال, عند البخاري عن عطاء قال: "لَمْ يَكُنَّ –أي النساء- يُخَالِطْنَ الرجال, كَانَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها- تَطُوفُ حَجْرَةً مِنَ الرِّجَالِ لاَ تُخَالِطُهُمْ ".
وقد جاءت أم حُمَيد السَّاعِديَّة إلى رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسولَ اللهِ إني أُحبُّ الصلاةَ معك, فقال: "قد علمتُ, وصلاتُكِ في بَيتكِ خيرٌ من صلاتِكِ في حُجرتكِ وصلاتُكِ في حُجرتكِ خَيرٌ من صلاتِك في دارك وصلاتك في دارِكِ خيرٌ من صلاتِكِ في مسجدِ قومك وصلاتِك في مسجدِ قومكِ خيرٌ صلاتِك في مسجدِ الجماعة".
فإذا كان هذا يقال لامرأة تقية أرادت أن تخرج لصلاة، فماذا يقال لمن أرادت أن تخرج لتخالط الذكور في اللهو أو الأعمال أو غير ذلك.
وفي الصحيحين أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ!" فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يَا رَسُولَ اللهِ أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: "الْحَمْوُ الْمَوْتُ".
ورحم الله الإمام الشنقيطي إذ يقول: "الدعوة إلى الاختلاط والسفور دعوة إلى الموت, ولم يسمه النبي -صلى الله عليه وسلم- موتاً إلا لعظم خطره".
قال ابن تيمية: "قد كان من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسنة خلفائه التمييزَ بين الرجال والنساء والمتأهلين والعزاب، فكان المندوب في الصلاة أن يكون الرجال في مقدم المسجد والنساء في مؤخره".
قال: "وكذلك لما قدم المهاجرون المدينة كان العزّاب ينزلون داراً معروفة لهم متميزة عن دور المتأهلين فلا ينزل العزب بين المتأهلين, وهذا كله لأن اختلاط أحد الصنفين بالآخر سبب الفتنة, فالرجال إذا اختلطوا بالنساء كان بمنزلة اختلاط النار والحطب". (الاستقامة: 1/ 359).
معشر الكرام: ولكن الشيطان ما زال يسوِّل لبني الإنسان الاختلاط بين رجالهم ونسائهم, لعلمه أنه بالقرب يحصل البلاء, كما قرر العلماء, فسعى للإفساد, وتولى أولياءُه المَهمة, وحين تفرق الإسلام ووهنت قواهم, وتمكن منهم عدوهم, سعى العدو عبر ربائبه لنشر الاختلاط بين المسلمين, فكانت تلك الدعوات تلقى حرباً ضروساً بين المصلحين من جهة, وبين أدعياء الحرية وأتباع الغرب وأولياء الشيطان من جهة, وبعد طول صراع كانت الغلبة لناشري الاختلاط في عدد من البلاد, ففي تركيا ومصر والجزائر وتونس والشام وغيرها حصل البلاء على المسلمين من هذا الأمر, وابتُلي الصالحون من قبل فئة من المفسدين سعوا بأنفسهم واستقووا بأنصارهم من أعداء الدين كي يقروا الاختلاط, فحصل لهم ما أرادوا في تلك الحقبة.
فخرجت العفيفات في بلاد المسلمين حاسرات الرءوس, يزاحمن الرجال في الأعمال والمحال, فحصلت من جراء ذلك شرور مستطيرة, وما حصل رقي وتقدم, بل الذي نراه أن الدول العربية التي شاع فيها اختلاط الرجال بالنساء لم يتحقق لها نمو اقتصادي, ولا ازدهار تقني ومالي, بل الأمر على ما هو عليه, بل انحدر للأسوأ.
عباد الله: ولقد كان مكر المفسدين في إحلال الاختلاط بين الرجال والنساء كُبّاراً, وتخطيطهم وسعيهم شديداً, وسلكوا في ذلك طرقاً متعددة, تتكرر في كل بلدٍ سعوا فيه لإشاعة الفحشاء والاختلاط, والتعرف على طرائقهم مهم, لأن الخطواتِ تتكرر, والخطى تتشابه.
فتارةً كان هؤلاء يلبّسون الباطل ببعض فتاوى بعض المنتسبين للعلم, توافق آراءهم وما أرادوه من الباطل, فيُلمع هذا لما يريدون منه, وما قصة رفاعة الطهطاوي في مصر إلا خيرُ شاهدٍ على هذا, وأراها تتكرر في بلادٍ أخرى هذه الأيام.
وتجدهم يسعون لفرض الاختلاط من رأس الهرم, كي يستقر في النفوس استهانة ما يقع من بعده, وتجدهم يسعون للتلبيس على الناس بحجة دفع الضَّيْم عن المرأة, وهكذا.
ولربما رأيتهم يسعون لإشاعته في الإعلام وبشكل يومي، إذ لا يُخلون برنامجاً إعلامياً من ظهور امرأةٍ بجوار رجلٍ, تمازحه وتضاحكه، أمام ملايين المشاهدين والمشاهدات، ولا هي قريبته، ولا هو محرم لها، وليس بينهما رباط إلا رباط الإعلام والشيطان، تجد هذا في برامج الأخبار والرياضة، والحوار والسياسة، والأزياء والطبخ، بل حتى برامج الأطفال لا بد فيها من فتى وفتاة, وحتى البرامج الإذاعية, لا بد فيها من ذكر وأنثى, إمعاناً في إشاعة وتطبيع الاختلاط.
هذه الصورة المتكررة في كل لحظة تُهَوِّن هذا المنكر العظيم في نفوس المشاهدين والمستمعين، وتحوله من معصية وعيب إلى عادة وأمرٍ مباح.
والمقرر أن الخطأ خطأٌ ولو كثر الواقعون فيه، وأن المنكر لا ينقلب إلى معروف بمجرد انتشاره، وأن الباطل يبقى باطلاً ولو زَيَّنه المزورون بزخرف القول، وروجوه بالدعاية.
معشر الكرام: وكانت بدايات المفسدين في نشر الاختلاط بين الصغار, وترقى الأمر للكبار, بدءاً بالتعليم ومروراً بالإعلام, والأعمال, وانتهاءً بالمجالس والمؤتمرات والملاعب الرياضية وغيرها, قال الطنطاوي رحمه الله: بدأ الاختلاط-يعني في الشام- من رياض الأطفال، ولما جاءت الإذاعة انتُقِل منها إلى برامج الأطفال فصاروا يجمعون الصغار من الصبيان والصغيرات من البنات, وهكذا.
وحين شاع الزنا والفواحش كان أعداء الحجاب يقولون: إن تلك الانحرافات الجنسية سببها حجب النساء، ولو مزقتم هذا الحجاب وألقيتموه لخلصتم منها، ورجعتم إلى الطريق القويم, وكنا من غفلتنا ومن صفاء نفوسنا نصدقهم، ثم لما عرفناهم وخبرنا خبرهم، ظهر لنا أن القائلين بهذا أكذب من مسيلمة. (ذكريات الشيخ على الطنطاوي 5/268-271).
اللهم صلِّ على محمد...
معشر الكرام: يحدثونك عن الحرية, يحدثونك أننا إذا أردنا أن نرتقي وننهض, ونصل لمصاف الدول العالمية, فلا بد أن تركض المرأة في المسابقات الرياضية, وأن تصدح متكشفة وأمام الرجال في المهرجانات الغنائية, وأن تتحرر من قوامة الرجل, وتقعد جنباً إلى جنب معه في كل ميدان, وإن خالفتهم الرأي رُميت بالظلامية, واتهمت بأنك تسوّق للدعشنة, وأنك تريد إعادة الناس للعصور الحجرية.
إننا يا كرامُ أتباع دينٍ, نسير وفق تعاليمه, ولا خير فينا إن نبذناه, ولا خير فينا إن خالفنا هديه, ففي هديه التقدم والتحرر, وما الرجعية إلا الرجوع لأخلاق الجاهلية, وديننا طفحت النصوص فيه بالنهي عن بروز المرأة في مجامع الرجال, وأكد على المباعدة بين الجنسين حتى في الصلاة, وفي أماكن العبادة, فضلاً عن غير ذلك.
ومع هذا فصيحات الذين عايشوا الاختلاط تأتي كل يوم تعلن أن من جربوه ما رأوا فيه إلا فساد الأخلاق, صحفية أمريكية شهيرة كتبت قائلة: "أنصحكم بأن تتمسكوا بتقاليدكم وأخلاقكم، امنعوا الاختلاط، وقيدوا حرية الفتاة؛ بل ارجعوا لعصر الحجاب، فهذا خير لكم من إباحية وانطلاق ومجون أوربا وأمريكا, امنعوا الاختلاط، فقد عانينا منه في أمريكا الكثير، لقد أصبح المجتمع الأمريكي مجتمعًا مليئًا بكل صور الإباحية والخلاعة, إن ضحايا الاختلاط يملئون السجون، إن الاختلاط في المجتمع الأمريكي والأوروبي قد هدد الأسرة وزلزل القيم والأخلاق".
وكلمات عقلائهم ومطالباتهم بالفصل بين الجنسين كثيرة, وطُبِّقَ بعضُها في بعض القطارات, وبعض أماكن التعليم, وغيرها, فمتى يعي هذا المطالبون بكسر كل الحواجز بين الجنسين في مجتمعات المسلمين
وإن تعجب فعجبٌ قول بعضهم: إن الديانة والثقة في المجتمع تجعلنا ندعو للاختلاط بلا تخوف؛ لأن في الناس من الثقة ما يمنعهم من التعدي, وإن الذين يتخوفون من اختلاط المرأة بالرجل لديهم مشكلة حيث لا يرون في المرأة إلا الشهوة!!
وأعجب من هذا قول بعضهم: إن عزل الرجال عن النساء سبَّبَ سُعارًا جنسيًا في المجتمعات المنغلقة فأصبح الرجل لا يرى في المرأة إلا المعاني الجنسية، بخلاف المجتمعات المنفتحة المتحررة التي يختلط فيها الرجال بالنساء، وتتعرى النساء كما يحلو لهن، وتصاحب المرأة فيها من تشاء لا يوجد فيها هذا السُعَارُ؛ لأن الرجل قد تعود على المرأة وألفها. هكذا يقولون!!
ولو كان الأمر كما يقول المفترون فلماذا يكثر اغتصاب النساء بل الأطفال في المجتمعات المنحلة؟ أليس الوصول إلى المرأة سهلاً؟ فالبغايا يملأن الحانات والخمارات، وعلى نواصي الطرقات؟!
أليس الحصول على المتعة في بلادهم سهلاً؟! فلماذا إذن يكثر الاغتصاب في بلادهم؟! ولماذا تظهر الفضائح تلو الفضائح للسياسيين وأصحاب النفوذ في بلادهم بتحرشاتهم بنساء يعملن عندهم، هذا في عليتهم فضلاً عن غيرهم؟
كل هذه الأباطيل يروج لها اليوم, والمجتمعات من حولنا شاهدة ببطلان ذلك, ولا تعجب حين ترى المنافحة والدعوة للاختلاط من قبل البعض, حتى لَيُخيل إليك أن التقدم والعلو والعزة لن تتحقق إلا حين تزاحم المرأة الرجال, وتُسقطَ الحجاب بينها وبينهم, لا تعجب, لأنه الشيطان حين يتحدث على لسان الإنسان.
وإني لأتساءل: أذكور اليوم المنادين بالاختلاط أتقى وأدين, أم رجال الصحابة الذين كانوا يبقون في المسجد لا يخرجون حتى تصل النساء لبيوتهن!!, أذكور اليوم أورع أم أولئك الرعيل الذين قالوا: لا تخلونّ بامرأة ولو كنت تعلمها القرآن, لا سواء, لكنه الهوى, ولبس الحق بالباطل.
وإن ديناً قرر علماؤه أن المرأة ليس لها أن تركض في السعي حال عمرتها وهي محتشمة لوجود الرجال لن يبيح للمرأة أن تركض متكشفة أمام الملايين في المحافل الرياضية وغيرها.
بيد أننا بحمد الله ما زالت بلادنا عصيةً على الاختلاط في كثير من المجالات, وإن مما يذكر فيشكر تأكيد ولي العهد قبل أيامٍ على منع الاختلاط في المرافق الصحية والمستشفيات, وإننا ونحن نفرح بهذا القرار لنؤمل من وراءه قراراتٍ بمنع الاختلاط في المجالات الأخرى.
هذا الأمر كي نحافظ عليه يحتاج لقرار حازم موفق, وقبل ذلك يحتاج لسعي في الإصلاح من المجتمع, فالمصلحون صِمام أمان بإذن الله من الهلاك, والمصلحون ليس بالضرورة أن يكون لهم جهاز ينضوون تحته, أو لهم مكانة ومنزلة يتبؤونها, بل المصلحون هم أنا وأنت, وجميع المجتمع, كلنا مصلحون, أو هكذا ينبغي أن نكون.
وإن انتشار الباطل وانتشاء أهله، وغربة الحق وضعف حملته لا يسوّغ السكوت والتخاذل, وإلا غرق المجتمع كله في حمأة الباطل، وطوفان الرذائل, والإصلاح له أبواب, فاضرب لك بسهم, وأنت قادر, المحافظة على الأسرة, وتحصين الجيل, وتوجيه الأولاد بخطر الاختلاط بين الجنسين إصلاح أنت قادر عليه, إنكار المنكر حين تراه عبر أي وسيلة من الوسائل, وبالطريقة النافعة الحكيمة, إصلاح, الدعاء أن يحفظ الله مجتمعات المسلمين من ويلات الاختلاط إصلاح, وهكذا في أبواب عديدة أنت قادر عليها بإذن المولى.
ولو أن أهل القرى حين تحيط بهم الحروب, وتُلِمُّ الخطوب آمنوا واتقوا, وحققوا تعاليم دينهم, لنَصرهم ربهم, ومكّن لهم, ولو كادهم أهل الأرض ما قدروا عليهم لأن الله معهم.
اللهم اكف مجتمعات المسلمين شرور الاختلاط, وجمّلها بالحياء ومحاسن الأخلاق, اللهم صل على محمد..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي