هموم الرزق

زيد بن مسفر البحري
عناصر الخطبة
  1. حمل الناس هموم الرزق .
  2. تشتّتُ مسالك طالبي الرزق .
  3. رزق العبد مكتوب مقدر .
  4. استجلاب الرزق بالتوكل والرفق .

اقتباس

يقول ابن القيم -رحمه الله- في كتاب "الفوائد": "مَن أصبح وأمسى وليس همُّه إلا الله حمل الله عنه حوائجه كلها، وحمل عنه كل مَا أَهَمّهُ وَأَغَمّهُ، وفرغه لطاعته، ومن أصبح وأمسى والدنيا همه حمَّله الله همومها وغمومها، ووكله إلى نفسه، فهو كالكير، ينفخ بطنه، ويعصر أضلاعه في نفع غيره".

الخطبة الأولى:

أما بعد: ما من غاد أو رائح إلا وهو يحمل أفكارا في مخيلته، ويحمل طموحات يتمنى أن يراها في واقعة، هذا هو شأن كثير من الناس، بل هو شأن البشر، يتمنى أن يرى أهدافه في واقعه.

شَغَلَ الناسَ هذه الأيام السعيُ الحثيثُ العظيم وراء الرزق، فقائل يقول:  ماذا أصنع وأعباء الحياة قد كثرت؟ وآخر يقول: ما هي الطرق، وأبواب الرزق قد أغلقت؟ وآخر يقول: كيف الوصول إلى مسكن يأويني ويأوي أسرتي؟ وآخر يقول: ما هي الطرق لتوفير رصيد يعولني وأسرتي؟.

هذه طموحات كثير من الناس، ولا شك أن هذه الأماني هي طبيعة في البشر، لكن مكمن المشكلة -عباد الله- أن كثيرا من الناس في هذا الزمن أصبح في السعي وراء متطلبات الحياة على مفترق طريقين، وليس الكل، وإنما الكثير، بعضهم شغلته هذه الأشياء حتى أضاعت صحته ودنياه، فأصيب إما بهمّ وإما بمرض، وآخرون سلكوا الطريق الآخر فأضاعوا دينهم، إما بتحصيل هذه الأموال من طرق حلال أو طرق حرام، وإما أضاعوا دينهم ومروءتهم أمام الكبار من أجل تحصيل مناصب عظام، وهذا هو مكمن المشكلة.

عباد الله: سبحان الله! لو أن كل واحد منا اقتنع بواقعه لسعد سعادة طيبة، وعلى ذكر هذا ذكرت بعض كتب الأدب أن رجلا هام على وجهه في الصحراء، ضل الطريق، فأصبح في ظمأ شديد، فماذا صنع؟ قام بحفر حفرة علّه أن يجد جرعة من ماء تطفئ ظمأه، حفر وإذا بعينيه تبصر كنزا ثمينا، ترى جواهر ودررا عظيمة، فماذا صنع؟ أعرض عن هذا الكنز وقال:

أينفع المال والإنسان في ظمأ *** أمامه الموت لا قبر ولا كفن

ما كل ما يتمنى المرء يدركه *** تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

أينفع المال مع ضياع الصحة والعافية؟ لا والله! أينفع المال مع ضياع الدين والمروءة؟ لا والله!.

النبي -صلى الله عليه وسلم- قال، كما عند أبي داود والترمذي: "أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: يا رب، وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، فجرى القلم بما هو كائن إلى قيام الساعة".

فجريان القلم بكتابة المقادير يوم أن خلقه الله -جل وعلا- يعطي العبد راحة وطمأنينة من أنه لن يأتيه إلا ما قُدِّر له، يسعى، نعم، ولكن بحدود المقدور دون تعب، دون إرهاق، دون ضياع صحة، دون ضياع دين.

النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما عند مسلم قال: "قدَّر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء"، هذا هو التقدير العام الذي لا يتغير ولا يتبدل، يتبدل ما في أيدي الملائكة مما ينسخونه من اللوح المحفوظ؟ نعم يتغير ما يكون في صحفهم، أما التقدير العام فلا، قال -تعالى-: (يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) [الرعد:39].

بل ذكر الشرع أنواع المقادير لكي يذكّر العبد بحقيقة دنياه وبحقيقة ما كتب له، هناك "تقدير عمري" كما جاء في الصحيحين: "يأتي الملك الجنين حين يتم أربعة أشهر؛ فيكتب له رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد".

وهناك "تقدير سنوي"... الله -عز وجل- يقدر فيه ما يكون إلى السنة التي تأتي:  (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان:3-4].

بل ذُكِّر العبدُ أن قدر الله -جل وعلا- حاصل له كل يوم، قال -جل وعلا-:  (يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن:29]، هو -جل وعلا- كل يوم في شأن مع خلقه، يفرِّج همَّا، يُنفِّس كربا، يشفي مريضا، يعطي بائسا، يغني فقيرا.

ووالله! إن هناك لقصة لو تمعن فيها العبد لرضي، ثم إذا رضي سعِد بعدها، هذه القصة ذكرها ابن خلِّكان -رحمه الله- في "وفيات الأعيان"، عن والد علي بن حزم العالم المشهور صاحب كتاب "المحلى"، من أن أباه، وهو أحمد بن سعيد بن حزم، كان أبوه وزيرا للمنصور، تقول القصة إنه بينما والد علي بن حزم في مجلس للمنصور ذات يوم إذ رُفعت ورقة استعطاف من امرأة إلى المنصور لكي يرحم ابنها ويخرجه من السجن، فلما وقعت هذه الورقة في يد المنصور قال: ذكَّرَتْني به! والله ليصلبنّ! فقام المنصور فكتب ورقة فقال وهو يريد أن يكتب: يُصلب، إذا بيده تكتب: يُطلَق، فأعطاه والد ابن حزم، فأمضى الورقة إلى صاحب الشرطة بإطلاق فلان، فغضب المنصور وقال: ماذا تصنع؟ قال آمر بإطلاق سراحه، قال أجُننت؟ فأراه توقيعه، فقال المنصور: وَهِمْتُ، والله لَيصلبنّ! فبدل أن يكتب يُصلب كتب مرة ثانية: يطلق، فأعطاها والد ابن حزم، فأمر بإطلاقه، فاستعظم المنصور منه هذا الأمر واشتد حنقه أعظم وأعظم، فأراه والدُ ابن حزم توقيعه، قال: وهمت، والله ليصلبن! وإذا به في المرة الثالثة لم تطاوعه يده فبدل أن يكتب يصلب كتب يطلق، فأمر والد ابن حزم بناء على توقيع المنصور أن يطلق، فغضب المنصور أكثر من المرتين الأوليين، فأراه والد ابن حزم توقيعه، فلما رأى توقيعه قال: يطلق على رغم أنفي! من أراد الله إطلاقه فلن أمنعه أبدا!.

هذه صفحة من التاريخ وقعت في سيرة والد ابن حزم -رحمه الله-، مما يعطي العبد يقينا من أنه لن يحيد عن واقعه وعما قدِّر له قيد أنملة.

النبي -صلى الله عليه وسلم- نشَّأ الصبية على ذلك، في مسند الإمام أحمد لما أردف ابن عباس -رضي الله عنهما- خلفه، ماذا قال في إحدى الروايات؟ قال: "اعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك"، فدرج السلف على ذلك، حتى أوصى بها عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- ابنه الوليد، قال "اعلم أنك لن تؤمن بالقدر خيره وشره حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك"، ما قدِّر لك لن يذهب إلى غيرك، "وما أخطأك لم يكن ليصيبك"، ما ذهب إلى غيرك لا يمكن أن يصل إليك، هذا هو قدر الله -عز وجل-.

بعض الناس يتعب ويشتد تعبه على أبنائه وعلى أطفاله، وهذه طبيعة ابن آدم أن يشفق على أبنائه أن يدعهم من بعده في ضياع جياعا، هذه سنة الله -عز وجل-، ولكن تذكر أننا أتينا إلى هذه الدنيا من غير طعام، من غير شراب، من غير لباس، فأطعمنا الله، وسقانا، وكسانا، وأنعم علينا: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [هود:6]، (وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [العنكبوت:60]، (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) [الذاريات:22].

لا تعتبن على العباد فإنما *** يأتيك رزقك حين يؤذن فيه

 فثقَنْ بمولاك الكريم فإنه *** بالعبد أرأف من أب ببنيه

النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول، كما عند ابن ماجه من حديث جابر -رضي الله عنه-: "اتقوا الله وأجملوا في الطلب"،  أول ما قدم، قدم تقوى الله -عز وجل-، لأن الدنيا وسيلة لإقامة الدين، فإذا أتى الدين أتت الدنيا وهي راغمة، "اتقوا الله وأجملوا في الطلب"، يعني خفف من طلب الدنيا، لا يعني أنك تدعها، هذا ليس من دين الله -عز وجل- في شيء، ولكن ارفق بنفسك، "اتقوا الله وأجملوا في الطلب، واعلموا أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وإن أبطأ عليها، فخذوا ما حلَّ، ودعوا ما حرم".

وإن كان همُّ أبنائك قد شغلك فعليك بتقوى الله -جل وعلا-، سبحان الله! ابن المسيّب -رحمه الله- كما ذكر ابن رجب في جامع العلوم والحكم: "كان يزيد في صلاته، فكان ينظر إلى أحد أبنائه الصغار ويقول: إني أزيد في صلاتي رجاء أن أُحفظ فيك بعد موتي، قيل كيف؟ فقال: أولم تسمع ما قاله -عز وجل-: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً) [الكهف:82]". فبصلاح هذين الأبوين حُفظ هذا الكنز لهذين الصغيرين حتى يكبرا.

ربك -جل وعلا- قال: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ)، كل منا يحاف أن تضيع أسرته من بعد موته، ولكن؛ إذا أردت أن يحفظوا بعد وفاتك فماذا عليك؟ (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً) [النساء:9].

أين نحن من الطيور؟ عند الترمذي وابن ماجه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير، تغدوا خماصا وتروح بطانا"، تخرج من أعشاشها في الصباح خامصة البطون، يعني فارغة البطون، فلا تعود في آخر النهار إلا وقد امتلأت بطونها من رزق الله، مع أنها طيور ضعيفة! سعت في أول الصباح، لكن التوكل لما كان عظيما في قلوبها رزقها الله؛ "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصا وتروح بطانا".

عند ابن ماجه، وتأمل معي هذا الحديث، النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كانت الدنيا همَّه فرَّق الله شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة همه جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة".

يقول ابن القيم -رحمه الله- في كتاب "الفوائد": "مَن أصبح وأمسى وليس همُّه إلا الله حمل الله عنه حوائجه كلها، وحمل عنه كل مَا أَهَمّهُ وَأَغَمّهُ، وفرغه لطاعته، ومن أصبح وأمسى والدنيا همه حمَّله الله همومها وغمومها، ووكله إلى نفسه، فهو كالكير، ينفخ بطنه، ويعصر أضلاعه في نفع غيره".

وصدق النبي العظيم -صلى الله عليه وسلم- إذ قال، كما عند ابن ماجة: "من جعل الهموم همَّاً واحدا -همَّ المعاد- كفاه الله همَّ دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك".

لا يعني أنني آمر بترك الدنيا، لا، اسع، ولكن رفقا بصحتك؛ لأن المال إذا أتى والصحة مفقودة، فوالله! لا خير فيه، وأنتم تدركون من حيث الواقع أناسا قد بلغوا في الثراء ما بلغوا، وكيف كانت نهايتهم قبل وفاتهم، أين السعادة؟ المال أمامهم، الأطعمة من جميع أصنافها تقدم لضيوفهم وهم لا يأكلون منها شيئا، اسع وراء دنياك، ولكن رفقا بصحتك، ورفقا في أول الأمر بدينك، بمروءتك، بأخلاقك، اسع وراء الرزق الحلال.

يقول ابن القيم -رحمه الله- كما في "الفوائد": "اشتغل بما أمرت به من طاعة الله، ولا تشتغل بما ضُمن لك من هذه الدنيا؛ لأن الأجل والرزق قرينان، متى ما كان الأجل باقيا كان الرزق آتيا".

نعم، بل في حديث عند الطبراني من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- وحسنه الألباني -رحمه الله-: "إن الرزق ليطلب العبد أكثر مما يطلبه أجله"، إذا كنت تخشى من منيتك أن تأتيك فاعلم بأن الرزق أسبق من منيتك إليك.

قال -رحمه الله-: "اشتغل بما أمرت به من طاعة الله، ولا تشتغل بما ضُمن لك من هذه الدنيا، فإن الأجل والرزق قرينان، متى ما كان الأجل باقيا كان الرزق آتيا، فإذا سد الله -عز وجل- عليك -أيها المؤمن- طريقا من الرزق فاعلم أن الله -عز وجل- بحكمته سيفتح لك بابا من الرزق أنفع من الأول، وتأمل حال الجنين، يأتيه غذاؤه من طريق  السُّرَّة، فإذا خرج من بطن أمه انقطع ذلك الطريق بخروجه إلى هذه الدنيا، فيغلق ذلك الباب من الرزق، فيفتح الله -عز وجل- له طريقين من الرزق وهما ثديا أمه، يخرج منهما حليبا سائغا لذيذا، فإذا تمت مدة الرضاع وحصل الفطام لهذا الطفل، انقطع عنه ذلك الطريقان ففتح الله -عز وجل- له أربعة أبواب من الرزق: طعامان وشرابان، الطعامان: الحيوانات والنباتان، والشرابان: اللبن والماء، وما يضاف إليهما من الملاذ والمشارب، فإذا مات ابن آدم انقطعت تلك الطرق الأربعة من الرزق فحينها، إن كان سعيدا، فتح الله -جل وعلا- له بعد موته في آخرته ثمانية أبواب، وهي أبواب الجنة، يدخل من أيها شاء، وليس هذا لغير المؤمن؛ فإن الله -جل وعلا- إذا أغلق عليه بابا من الرزق فتح له أبوابا أنفع وأطيب... فإن الله -عز وجل- يمنعه الحظ الأردأ الخسيس ليعطيه الحظ الأعلى النفيس" انتهى.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي