يقول ابن بطال -رحمه الله-، كما في الفتح، مبينا الفرق بين المداهنة والمداراة: "إن المداراة من أخلاق المؤمنين، ومن أقوى أسباب الألفة بينهم، ومن ظن أن المداراة هي المداهنة فقد غلط، فإن المداهنة المراد منها أن تعاشر الفاسق، وأن تظهر الرضا لما هو عليه، من غير إنكار عليه".
أما بعد: فيا عباد الله، حديثنا في هذا اليوم عن [المداراة]، ربما قال قائل: أهناك فرق بين المداهنة والمداراة؟ وذلك لأن البعض ممن ضَعُفت نفسه قد ينسب إلى أحد الأشخاص أنه مداهن، نتيجة موقف رآه مع رجل قد عصى الله -عز وجل- فسكت عنه، ولذا قد تُنسب هذه الكلمة إلى بعض أفاضل الناس نتيجة موقف من المواقف. فيا ترى؛ ما هي المداراة وما هي المداهنة؟.
المداراة -عباد الله- أن تداري صاحبك وأن تدفعه برفق ولين، كما ذكر ذلك ابن حجر -رحمه الله-، فمداراة الناس والتلطف معهم لا بد للإنسان أن يتخذها سبيلا في حياته، يقول ابن حبان -رحمه الله- كما في [روضة العقلاء ونزهة الفضلاء]: "وعلى المسلم أن يلازم المداراة في جميع أحواله، ومَنْ لم يدارِ الناس ملوه، فالواجب على العاقل أن يداري الناس مداراة الرجل السابح في النهر الجاري، لأن وداد الناس لا يُسْتجلب إلا بمساعدتهم على ما هم عليه ما لم يكن إثما، فإن كان إثما فلا سمع ولا طاعة"؛ ولذا يقول -رحمه الله-: "ومَنْ لم يدارِ صديق السوء فليس بحازم".
ولقد أحسن القائل إذ قال:
تجنب صديق السوء واصرم حباله *** وإن لم تجد عنه محيصا فداره
وأحبب حبيب الصدق واحذر مراءه *** تنل منه صفو الود ما لم تماره
وذلك -عباد الله- لو أن الإنسان كلما رأى زلة على أخيه المسلم رفضه وتركه لم يبق له صديق، بل قال الماوردي -رحمه الله-: "لا بد من المداراة حتى مع الأعداء"، فيقول: "إذا كان للإنسان عدو قد استحكمت شحناؤه فالبعد عن هذا حذرا أسلم، والكف عنه متاركة أغنم، لأنه لا يُسْلم من عواقب شره إلا بالبعد عنه".
وقد قيل في الحكم "مَنْ قال: إن الشر بالشر يطفأ فليوقد نارين فلينظر: أتطفئ إحداهما الأخرى؟ أم ماذا؟ بل يطفئ الخير الشر كما يطفئ الماء النار".
يأتي ابن القيم -رحمه الله- في كتابه [الروح] ويبين تبيينا شافيا واضحا الفرق بين المداراة والمداهنة، يقول -رحمه الله-: "المداراة صفة مدح، والمداهنة صفة ذم، والفرق بينهما أن المداراة تلطف الإنسان بصاحبه حتى يستخرج منه الحق أو يرده عن الباطل، وأما المداهن فهو الذي يتلطف مع صاحبه ليقره على ذنب أو يتركه على هواه، فالمداراة لأهل الإيمان، والمداهنة لأهل النفاق".
قال -رحمه الله-: "وقد ضُرِب لذلك مثل من أروع الأمثلة، وذلك كرجل أصابته قرحة في قدمه فجاء الطبيب الرفيق فأخذ يعالج هذه القرحة ويخرج ما فيها، ثم إذا به يضع الدواء الذي يُنبت اللحم، ثم يتعاهدها، ثم يضع عليها المراهم حتى ينشفها، ثم يضع عليها خرقة، فلا يزال يتابع هذا وهذا حتى نشفت رطوبتها، وأما المداهن فهو الذي أتى إلى صاحب هذه القرحة وقال: لا بأس عليك إنما هي شيء يسير، وسترها عن عيون الناس بخرقة، وتلهى عنها، فلا يزال يزداد شرها وتكثر عفونتها حتى يهلك" انتهى كلامه -رحمه الله- بتصرف.
فالمداراة -عباد الله- وهي التلطف والتلين مع الآخرين على حسب مراتبهم وتنوع مشاربهم أمر شرعي أتى به الشرع.
لشيخ الإسلام -رحمه الله- كلام جميل عند قوله -تعالى-: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل:125]، بيّن -رحمه الله- في مجموع الفتاوى أن الناس يدارون على حسب ما في قلوبهم، (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ)، هذا التلطف مع الجاهل الذي لا يعرف الشيء ولا يعرف الخير فيُبين له، (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)، هذا هو الشخص الذي عنده علم لكنه متخبط، متردد، هذا يتلطف معه في بيان الحق وإيقاعه في الطريق الصحيح السليم، (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، هذا مع الشخص الذي عنده علم لكنه معاند ورافض للحق فهذا يجادل بالتي هي أحسن.
ولو نظرنا إلى كلام الله -عز وجل- وما ورد فيه من قصص الأنبياء لوجدنا أن هناك تلطفات وهناك مداراة جرت من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- مع قومهم، شعيب -عليه الصلاة والسلام- لما أنقص قومه المكيال ماذا قال؟ (بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ) [هود:86]، تلطف.
ذلكم الرجل المؤمن من آل فرعون، لما كان يخاطب قومه، لما أتى موسى -عليه الصلاة والسلام- ودعا فرعون ومن معه: (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ) [غافر:30]، (وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ) [غافر:32]، إلى غير ذلك من هذه التلطفات التي جرت على لسان هذا الرجل المؤمن.
الله -عز وجل-، ماذا قال عن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-؟ (إذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً) [مريم:42-43].
ماذا قال الله -عز وجل- عن موسى وهارون؟ وماذا أمرهما به لما ذهبا إلى فرعون وخشيا منه؟
(فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى* قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى* قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى* فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) [طه:44-47]، هذا من باب التلطف والتنزل، ولذا جاء في صحيح ابن حبان من حديث جابر -رضي الله عنه- والحديث فيه مقال، ويحسنه ابن مفلح -رحمه الله- في [الآداب الشرعية]، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مداراة الناس صدقة".
ولذا إذا نظرنا إلى صفحات النبي -صلى الله عليه وسلم- في سيرته وفي سنته لوجدنا أنه كان يداري الناس، يداري المنافق، يداري المؤمن الذي في خُلُقِه شيء من الغضب، اسمع إلى ما جاء في صحيح البخاري عن عائشة -رضي الله عنها-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قدم رجل قال: "ائذنوا له، بئس ابن العشيرة! -أو- أخو العشيرة!"، فلما دخل ألان -عليه الصلاة والسلام- له الكلام، فلما خرج قالت عائشة: "يا رسول الله، لما أقبل ذلك الرجل قلت ما قلت، فلما دخل ألنت له الكلام!"، فقال: "أي عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله مَنْ تركه الناس اتقاء فُحْشِه". قال ابن حجر -رحمه الله- كما في الفتح: ولفظه عند الحارث بن أسامة، انظروا إلى هذا الموقف النبيل منه -عليه الصلاة والسلام- من أجل أن يبين أنه يدفع شيئا مقابل تحصيل مصالح أكثر وأعظم، جاء في رواية الحارث بن أسامة، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إنه منافق أداريه عن نفاقه حتى لا يفسد عليَّ غيره".
كان يداري حتى المؤمن الذي في خلقه شيء، جاء في صحيح البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أُهدي له أقبية -جمع قَبَاء، لباس يشبه الكوت الذي نلبسه في الشتاء-، أقبية من ديباج، فوزعها على بعض أصحابه، فعلم مخرمة بن نوفل بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتته أقبية، فجاءه ومعه ابنه المسور، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- له وعليه قباء منها، وقال له: "خبأت لك هذا يا مخرمة"، فرضي، وكان في خلقه شيء.
الصحابة -رضي الله عنهم- لهم مواقف في هذا، أبو الدرداء، كما جاء عند البخاري معلقا موقوفا عليه، ماذا قال؟ قال: "إنَّا نَكْشِر" نكشر يعني: نتبسم، "نكشر في وجوه قوم، وإن قلوبنا لتلعنهم".
وأيضا جاء عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أنه قال لزوجته: "إذا غضبت فرضّني، وإذا غضبتِ أرضيتك، وإلا لم نصطحب".
لا بد من المداراة في حياتك مع الناس، معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-، ماذا كان يقول؟ كان يقول: "لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت"، قالوا كيف؟ قال: "إن مدوها خليتها وإن خلوها مددتها".
يذكر ابن مفلح في [الآداب الشرعية] "أن الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطى شاعرا مالا، فقيل له: لم تعطه وهذا الشاعر يقول البهتان ويعصي الرحمن؟ فقال -رضي الله عنه-: "إن خير ما بذلت من مالك ما وقيت به عرضك، ومن ابتغى الخير اتقى الشر".
وقد صدق المتنبي إذ قال:
ومَنْ نكد الدنيا على الحر أن يرى *** عدوا ما من صداقته بدُ
يقول الحسن البصري -رحمه الله-: "إن الناس كانوا يقولون إن المداراة مع الناس هي نصف العقل، وأنا أرى أن المداراة هي العقل كله". وقال أبو يوسف -رحمة الله عليه-: "خمسة يجب عليك أن تداريهم: الملك المُسلّط، والقاضي المتأول، والمرأة، والمريض، والعالم الذي يقتبس منه علمه".
يقول أحد الشعراء:
لما عفوت ولم أحقد على أحد *** أرحت نفسي من هم العداواتِ
إني أحيي عدوي عند رؤيته *** لأدفع الشر عني بالتحياتِ
ولذا يقول ابن حبان -رحمه الله-: "مَنْ دارى وتلطف مع الناس لم يسلم، فكيف ترجو السلامة لمن لم يدارِ الناس؟!".
وقال أبو سليمان الخطابي:
ما دمت حيا فدار الناس كلهمُ *** فإنما أنت في دار المداراة
يقول ابن بطال -رحمه الله-، كما في الفتح، مبينا الفرق بين المداهنة والمداراة: "إن المداراة من أخلاق المؤمنين، ومن أقوى أسباب الألفة بينهم، ومن ظن أن المداراة هي المداهنة فقد غلط، فإن المداهنة المراد منها أن تعاشر الفاسق، وأن تظهر الرضا لما هو عليه، من غير إنكار عليه".
هذه هي المداهنة: أن تعاشر الفاسق، وأن ترضى بما يصنعه من غير أن تنكر عليه؛ لكن المداراة، يقول -رحمه الله-: "المداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم، وأن ترفق بالفاسق حتى تزيله عما هو عليه"، فقد ترى إنسانا ذا خير وذا ديانة مع شخص يفعل المنكر فلا تنسب إليه بأنه مداهن، فلربما أن هذا الرجل تركه في مثل هذه الحال من أجل أن يجره إلى أن يخرجه من هذه المعصية.
وليس معنى ذلك أن الإنسان يوقع نفسه مواقع الشبه، كلا، لكن لو أن الإنسان رأى مع أخيه المسلم مَنْ هو يعمل المعصية فلا ينسب إليه المداهنة، فلربما وقف مع الرجل من أجل أن يداريه، ولذا قال زهير:
ومن لم يصانع في أمور كثيرة *** يُضرَّس بأنياب ويوطأ بِمَنْسِم
المنسم: طرف خف البعير والنعامة.
أما بعد: فيا عباد الله، مما مضى نعلم أن المداراة في الأمور الدنيوية يؤجر عليها الإنسان، أما ما يتعلق بأمور الدين فإنه لا يجوز للمسلم أن يتلطف فيها، اللهم إلا كما أسلفنا إذا أراد أن يتمهل مع هذا الرجل حتى يرده عن منكره، وإلا فإن التلطف مع الآخرين فيما يتعلق بأمور الدين والسكوت عما هم عليه من الذنوب، هذه هي المداهنة، وأما المداراة فإنها تخرج الإنسان المذنب من ذنبه إلى أن يسلك طريق الطاعة.
ثم لتعلم -عبد الله- أن المداراة فيها راحة في الدنيا وفيها أجر في الآخرة، والمداراة كما يُحتاج إليها مع الأصدقاء، يحتاج إليها مع الأعداء، والمداراة تعد، كما قال الحسن البصري -رحمه الله-، تعد من كمال العقل...
وبالمناسبة، جاء في سنن أبي داود أن السائب -رضي الله عنه- أثنى عليه بعض الصحابة، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- جالسا، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "أنا أعلمكم به"، فقال السائب: "نعم، إنك لأعلم الناس بي، كنتَ شريكي، كنت لا تداري ولا تماري"... قوله: كنت لا تداري، أي: كنت لا تشاجرني في شراكتك معي، كما قال -عز وجل-: (فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا)، يعني: فاختلفتم فيها، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن كذلك في الشراكة، ولم يكن ذا شجار مع شركائه -عليه الصلاة والسلام- في التجارة.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي