لقد علمنا اختيار الله -عز وجل- من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها، وهي البلد الحرام؛ حيث اختاره الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، وجعلَه مناسك العباد، وأوجب عليهم الإتيان عليه من القرب والبعد من كل فجٍّ عميق، فلا يدخلونه إلا متواضعين متخشعين متذللين كاشفي رءوسهم متجردين من لباس أهل الدنيا، جعله الله حرمًا آمنًا، وجعل قصده مكفِّرًا لما سلف من الذنوب، وماحيًا للأوزار وحاطًّا للخطايا، ففي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه"...
الحمد لله الذي شهدت له بالربوبية والإلهية جميع المخلوقات، وخضع لعظمته وذل لجبروته من في الأرض والسماوات.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عالم السرائر والخفيات، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه، أرسله الله رحمة للعالمين، وجعله إمامًا للمتقين وحجة على الخلائق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فوصيتي لكم ولنفسي عباد الله تقوى الله في السر والعلن، فما يخفى على الله شيء أبداً (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ) [الأنبياء:110].
فاتقوا الله لعلكم ترحمون، وعليه فتوكلوا إن كنتم مؤمنين.
أيها المسلمون: المتأمل في هذا الكون الفسيح وما فيه من مخلوقات متنوعة يرى ما يدل على وحدانية الخالق -جل وعلا- وربوبيته وكمال حِكمته وعلمه وقدرته، وأنه الله الذي لا إله إلا هو يخلق ما يشاء ويختار، ويفضِّل بعض البشر على بعض وبعض النبيين على بعض، وبعض البقاع على بعض، فسبحان الخلاق العليم، وتبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير.
أيها المسلمون: ولنا اليوم وقفة موجزة حول الاختيار الإلهي لخير البقاع وأشرفها البلاد الحرام؛ فإن الله -جل وعز- حرَّم مكة يوم خلق السماوات والأرض، وجعلها بلدًا آمنًا وقيامًا للناس، قال العليم الخبير سبحانه وبحمده: (جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المائدة:97].
لما تلا الحسن البصري -رحمه الله- هذه الآية قال: "لا يزال الناس على دين ما حجُّوا البيت واستقبلوا القبلة".
في هذه الآية أخبر الله -سبحانه- أنه صيَّر الكعبة وجميع الحرم قوامًا للناس تتحقق به مصالحهم، وتستقيم أمورهم، ويأمن فيه خائفهم، ويُنصَر فيه ضعيفهم، ولقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد -رحمه الله- قال: "كان الناس كلهم فيهم ملوك يدفع بعضهم عن بعض، ولم يكن في العرب ملوك يدفع بعضهم عن بعض، فجعل الله لهم البيت الحرام قيامًا يدفع بعضهم عن بعض به".
قال -عز وجل-: (جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ) [المائدة: 97]، فالشهر الحرام المراد به الأشهر الحرام ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب.
فإنهم كانوا أيّ العرب لا يطلبون فيها دمًا، ولا يقتلون بها عدوًّا، ولا يهتكون فيها حرمة، فكانت من هذه الحيثية قيامًا للناس، فلقد كان الرجل من العرب لو لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له.
(وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ) أي: جعل الله الهدي والقلائد قيامًا للناس، والهدي ما يُهدَى إلى الحرم من بهيمة الأنعام للتوسعة على فقرائه، والقلائد ما يقلد من الأنعام، فخصها بالذكر لعظم شأنها فلا يتعرض لها أحد من الناس.
وقال -عز وجل-: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت: 67]، ولقد أكد النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- تعظيم الكعبة في مناسبات عدة، فمثلاً في قصة سيره نحو مكة قال: "هذا يوم يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ " (رواه البخاري).
ولا عجب! فبيتٌ أضافه الله إلى نفسه الشريفة، وأمر الخليل -عليه الصلاة والسلام- بتطهيره من الأوساخ والشرك، وغير ذلك، وأمر الناس باستقباله وأن يأتوا إليه حجاجًا وعمارًا يستحق هذا التكريم.
قال -عز وجل-: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 96- 97].
إنه أول مسجد وُضع على وجه الأرض ففي الصحيحين عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أول مسجد وُضع على الأرض، فقال "المسجد الحرام" قلت: ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى"، قلت: وكم بينهما؟ قال: "أربعون عامًا، ثم الأرض لك مسجد، فحيثما أدركتك الصلاة فصلِّ".
هذه البقعة الشريفة حرم الله -سبحانه- يوم خلق السموات والأرض؛ كما قال النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة: "إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ؛ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلا يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا، وَلا يُخْتَلَى خَلاهُ".
فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إلاَّ الإِذْخِرَ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ. فَقَالَ: إلاَّ الإِذْخِرَ. (أخرجه البخاري ومسلم).
وقوله: "لا يختلى خلاه" هو الحشيش الرطب.
لقد جعل الله هذا البيت المعظم محط أفئدة الناس يأتون إليه فما يرجعون حتى يشتاقون إليه مرة أخرى، وتلك من آيات الله جعل البيت مثابة لهم، ليس منه الدهر يقضون الوطر، يحنون إلى زيارته، ويشتاقون لرؤيته (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [البقرة: 125- 126].
وإبراهيم الخليل -عليه السلام- هو الذي بنى الكعبة المعظَّمة على أصحِّ الأقوال بأمر الله له، وكان قد وضَع بعض ذريته في أرض الحرم حول مكان الكعبة؛ كما جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس.
أيها المسلمون: يجب على كل مسلم أن يعظِّم شعائر الله والشهر الحرام كأرض الحرم والكعبة المشرفة، وأماكن العبادة كلها، وأن يعرف للنبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- منزلته ومكانته فهو الذي عرَّفنا بأمر الله حرمة هذه الأماكن، وأن يعرف للوحي الذي نزل عليه وهو كتاب الله وكلامه المعظم ما له من فضل ومنزلة (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ) [الحج: 32].
اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، ووفقنا إلى ما تحبه وترضاه واجعلنا هداة مهتدين، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد: فلقد علمنا اختيار الله -عز وجل- من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها، وهي البلد الحرام؛ حيث اختاره الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، وجعله مناسك العباد، وأوجب عليهم الإتيان عليه من القرب والبعد من كل فج عميق، فلا يدخلونه إلا متواضعين متخشعين متذللين كاشفي رءوسهم متجردين من لباس أهل الدنيا، جعله الله حرمًا آمنًا، وجعل قصده مكفِّرًا لما سلف من الذنوب، وماحيًا للأوزار وحاطًّا للخطايا، ففي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه".
ولم يرضَ -جل وعلا- لقاصده من الثواب دون الجنة، ففي السنن من حديث ابن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة".
وليس للحجة المبرورة ثواب دون الجنة، وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".
فلو لم يكن البلد الأمين خير بلاده لما جعل عرصاتها مناسك لعباده، ففرض عليهم قصدها، وجعل ذلك من آكد فروض الإسلام، وأقسم به في القرآن العزيز في موضعين قال: (وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) [التين:3]، وقال: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) [البلد:1].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة ألف صلاة".
وهذا تصريح بكونه أفضل بقاع الأرض على الإطلاق، وفي مسند الإمام أحمد وجامع الترمذي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال وهو واقف على راحلته بالحذورة من مكة يقول: "والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت".
ولقد حبَس الله عن مكة أبرهة الأشرم وجنده حين جاء ليهدم الكعبة، وأهلَكهم الله قبل دخول الحرم بطير صغار بيض في أفواهها حجارة سوداء، فجعلت ترميهم بها فلا تصيب شيئًا إلا هشَّمته حتى هلكوا جميعًا؛ كما ذكر الله ذلك في سورة الفيل.
وفي هذه السنة التي هلك فيها جيش أبرهة وُلد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال ابن القيم: "وكان أمر الفيل تقدمة قدَّمها الله لنبيه وبيته، وإلا فأصحاب الفيل كانوا نصارى أهل كتاب، وكان دينهم خيرًا من دين أهل مكة؛ إذ ذاك؛ لأنهم كانوا عَبَدة الأوثان، فنصرهم الله على أهل الكتاب نصرًا لا صنع للبشر فيه إرهاصًا وتقدمة للنبي الذي خرج من مكة وتعظيمًا للبلد الحرام".
وإن حادثة الفيل لتؤكد أن القوة لله جميعًا، وأن البشر مهما كانوا أقوياء فالله أقوى وهو القوي العزيز، ومهما عظموا فالله أعظم، ومهما كبروا فالله أكبر، ومهما دبَّروا ومكروا فالله أسرع مكرًا كما تؤكد عدم الاستسلام للباطل مهما تجبر أصحابه، فالله -جل وعلا- أعظم.
وإنها لتؤكد كذلك ألا يكون عند المسلم شيء من الإحباط واليأس، وهو يرى قوى الكفر الكبرى تبطش، وتقهر وتتسلط، وتتوعد، فربك للظالمين بالمرصاد وهو بكل شيء محيط.
اللهم يا ذا الجلال والإكرام! يا حي يا قيوم، كما أهلكت أهل الفيل وغيرهم من الظالمين نسألك أن تهلك الروس المجرمين، وأن تسلط عليهم وعلى النصيريين ما يذلهم؛ إنك أنت القوي العزيز.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي