ذكر الله الوسيلة في القرآن العظيم، ففهمها أهل الحق على مراد الشرع، فكان الإيمان والاتباع، وفهمها أهل الباطل على خلاف مراد الشرع، فكان الشرك والابتداع. فأهل الحق قالوا: إن الوسيلة التي ذكرها الله هي...
ذكر الله الوسيلة في القرآن العظيم، ففهمها أهل الحق على مراد الشرع، فكان الإيمان والاتباع، وفهمها أهل الباطل على خلاف مراد الشرع فكان الشرك والابتداع.
فأهل الحق قالوا: إن الوسيلة التي ذكرها الله هي القربى، والتوسل هو التقرب إلى الله، والتقرب إلى الله عبادة، والعبادة مبناها على التوقيف، ولا يجوز التقرب إلى الله إلا بما شرع.
وحقيقة الوسيلة إلى الله -تعالى-: مراعاة سبيله بالعلم والعبادة، وتحري مكارم الشريعة.
والذي دلت عليه الآيات والآثار مما يشرع من التوسل أشياء:
أحدها: التوسل إلى الله بالإيمان به وطاعته، فتتقرب إلى الله بإيمانك به وبملاكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وبما أمر الله بالإيمان به إجمالا وتفصيلا، وتطيعه فيما أمرك، وتترك ما نهاك عنه، تفعل ذلك ابتغاء وجه الله، وخوفا من عقابه، ورجاء موعوده، ومحبة لربك -جل جلاله-، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 35].
قال التابعي الجليل قتادة -رحمه الله-: "تقربوا إلى الله بما يرضيه".
والثاني: التوسل بدعاء الله وحده لا شريك له بأسمائه وصفاته وربويته، قال الله -تعالى-: (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف: 180].
وذكره الله عن أنبيائه؛ كما قال تعالى عن أيوب -عليه وسلم-: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [الأنبياء: 83].
وقال عن سليمان -عليه السلام-: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل: 19].
وقال عن يوسف -عليه السلام-: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف: 101].
وثالثا: التوسل إلى الله بالأعمال الصالحات التي قدمها العبد، فيتوسل إلى الله بها لطلب حصول الثواب والمغفرة والرضوان، وإجابة الدعاء، وقضاء الحوائج، وكشف الكرب، كقول المسلم: "اللهم إن كنت تعلم أني ما صليت هذه الصلاة أو ما تصدقت، أو ما حججت بيتك الحرام، إلا ابتغاء وجهك، فاغفر لي، ويسر لي أمري، وأصلح لي شأني، واخلفي لي ما أنفقت، أو اللهم بمحبتي لنبيك احشرني تحت لوائه، وقد دل عليه قوله تعالى: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 16].
وقوله تعالى عن الخليل -عليه السلام-: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم: 37].
وفي السنة: حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، فدعا كل واحد منه ربه بصالح عمله؛ ففرج الله عنهم [متفق عليه].
ورابعها: التوسل إلى الله بدعاء الصالحين من عباده، حال حياتهم، وأما بعد مماتهم فضلالة، كأن تقول لأخيك المسلم: ادع الله أن يغفر لي ذنبي أو يرزقني أو يثبتني على الهدى أو يصرف عن السوء أو يهب لي ذرية صالحة، فهذا جائز، كما قال تعالى عن إخوة يوسف -عليه السلام-: (قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يوسف: 97 - 98]، وقال تعالى: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا) [الفتح: 11].
وفيه قول عكاشة محصن: "ادع الله أن يجعلني منهم".
وقوله عليه الصلاة والسلام للمرأة: "إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك".
وقول الأعرابي له عليه الصلاة والسلام: هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا؟ فرفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يديه وقال: "اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا" [متفق عليه].
أيها المؤمنون: أنشأ قوم معاني للتوسل ليس عليها أثارة من علم، ولم تكن من علم السلف ولا من عملهم، وفيها خلط بين الحقائق الشرعية وتناقض في الاستدلال؛ تنزه عنه الشريعة المحمدية؛ فتسمع أدعية مبتدعة، وترى أعمالا شركية؛ فتسمع من يقول مبتدعا: أسألك بنبيك محمد! أو بجاه فلان! أو بحرمة فلان! أو حقه أو بركته! أو بحق قبره أو قبته!
وتسمع منهم الشرك الذي نهى الله عنه، كسؤالهم المدد والغوث من الأموات، وقولهم: يا فلان أغثني أو أدركني! وقولهم: أنا في حسبك وجاهك! أو قول بعضهم: نظرة إلينا بعين الرضا!
بل تجاوز الأمر إلى سؤالهم المغفرة والتوبة، والسجود لهم والصلاة إلى قبورهم ولها، ويزعمون أن هذا هو الشفاعة المشروعة، والتوسل المشروع، وهو الشرك عينه، فصرفوا العبادة لغير الله، وهتفوا بدعاء الغائبين والموتى، وتوسلوا بجاه المخلوق وذاته، وابتدعوا أدعية وأعمالا لم ينزل الله بها سلطانا، ويتعلقون بأحاديث واهية وموضوعة، ويعرضون عن النصوص الصحيحة المحكمة، طريقة أهل الضلال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) [الإسراء: 57]، (قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً) [الإسراء: 56]، (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النحل: 20 - 21]، (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [فاطر: 2].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي