الغناء والموسيقى

منصور محمد الصقعوب
عناصر الخطبة
  1. ذم الغناء وبيان بعض مفاسده .
  2. حكم الغناء في الإسلام والرد على من أباحه .
  3. نصائح وتحذيرات لمستمعي الغناء. .

اقتباس

معصيةٌ بُلي بها الكثير, معصيةٌ عمَّت وطمَّت وفشت بين الناس وانتشرت, حتى مع كثرة الإمساس بها استُسهلت, فُتِنَ بها كثيرٌ من الرجال والنساء, والأطفال وحتى الشيوخ –شيوخ العمر لا شيوخ العلم- واكتوى بِشرّها حتى من لا يريدها, وطالت حتى من يتورع عنها، اقتحمت كثيراً من بيوتنا, ولم تسلم منها مساجدنا, ولها في الإذاعات والقنوات نصيب وافر, حتى أصبح لها رواج كبير، ونتج منها الشر المستطير. وصفها الصحابة -وهم العارفون-بأنها رقية الزنا ومُنبت النفاق، وشَرَك الشيطان، وقرآن إبليس وخمرة العقل، والصوت الفاجر, لعلها لم تعد خفيةً عليكم يا كرام, أجل إنها الغناء والموسيقى.

الخطبة الأولى:

الحمد لله ذي القدرة القاهرة، والآيات الباهرة، والآلاء الظاهرة، والنعم المتظاهرة، حمداً يؤذن بمزيد نعمه، ويكون حصناً مانعاً من نقمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وصلى الله على خير البرية وأزكى البشرية، محمد النبي, والرسول الأمي، ذي الشرف العلي، والخلق السني، والكرم المرضي، وعلى آله الكرام، وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا أيها المسلمون الزموا التقوى، في السر والجهر، وراقبوا الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً) [الأحزاب: 70].

عباد الله: تقول العامة إذا كثر الإمساس قلّ الإحساس، ويقول العلماء: إذا استسهل المرء الوقوع في المعصية جرّأه ذلك على غيرها, ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب سُقِل قلبه، وإن عاد زيد فيها, حتى تعلو قلبه, وهو الران الذي ذكر الله (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين: 14] (سنن الترمذي: 5/ 434).

معصيةٌ بُلي بها الكثير, معصيةٌ عمَّت وطمَّت وفشت بين الناس وانتشرت, حتى مع كثرة الإمساس بها استُسهلت, فُتِنَ بها كثيرٌ من الرجال والنساء, والأطفال وحتى الشيوخ –شيوخ العمر لا شيوخ العلم- واكتوى بِشرّها حتى من لا يريدها, وطالت حتى من يتورع عنها، اقتحمت كثيراً من بيوتنا, ولم تسلم منها مساجدنا, ولها في الإذاعات والقنوات نصيب وافر, حتى أصبح لها رواج كبير، ونتج منها الشر المستطير.

وصفها الصحابة -وهم العارفون-بأنها رقية الزنا ومُنبت النفاق، وشَرَك الشيطان، وقرآن إبليس وخمرة العقل، والصوت الفاجر, لعلها لم تعد خفيةً عليكم يا كرام, أجل إنها الغناء والموسيقى.

ويعجب المرء وهو يرى التكالب على هذه المعصية والتهاون بهذا الصوت المحرم، إن في الإعلام أو حتى في أجهزة الاتصال, مع ما ورد من التحذير منه عن رسول الله وأصحابه.

ففي القرآن يقول الرحمن: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [لقمان: 6]، قال عبد الله بن مسعود: "هو الغناء، والذي لا إله إلا هو، يردّدها ثلاث مرّات" (تفسير الطبري: 20 / 127) وروي ذلك عن ابن عباس وجماعة من الصحابة.

وفي أقوال رسولنا -صلى الله عليه وسلم- ما رواه الأشعري: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والمعازف"، وما خرّجه الترمذي عن عمران بن حصين: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف"، فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله ومتى ذاك؟ قال: "إذا ظهرت القينات والمعارف، وشُربت الخمور" (سنن الترمذي: 4 / 495، وصححه الألباني).

ولقد كان العقلاء من الناس ينأون بأسماعهم عن الغناء, لمِا يورثه من النقص في الخلق والعقل بله الدين, واسمع لكلام يزيدَ بن معاوية حيث يقول: "يا بني أمية إياكم والغناء، فإنه يُنقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل المسكر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء، فإن الغناء داعية الزنا" (إغاثة اللهفان: 1/ 246).

 فماذا يقول الذين تصدح في بيوتهم أصوات الغناء بأصوات الرجال المتجملين تارة, وبأصوات النساء الساقطات تارة.

قال ابن القيم: "ومن الأمر المعلوم عند القوم؛ أن المرأة إذا استصعبت على الرجل اجتهد أن يُسمِعها صوت الغناء فحينئذ تعطي الليان, وهذا لأن المرأة سريعة الانفعال للأصوات جداً, فإذا كان الصوت بالغناء صار انفعالها من وجهين: من جهة الصوت, ومن جهة معناه ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنجشة –حاديه- : "يا أنجشة! رويدك, رفقاً بالقوارير" -يعني النساء-،  فأما إذا اجتمع إلى هذه الرقية الدف والشبابة والرقص بالتخنث والتكسر فلو حبلت المرأة من غناء لحبلت من هذا الغناء..

 فلعمر الله كم من حرّةٍ صارت بالغناء من البغايا!, وكم من حرٍّ أصبح به عبداً للصبيان أو الصبايا!, وكم من غيور تبدل به اسما قبيحاً بين البرايا!, وكم من معافى تعرض له فأمسى وقد حلت به أنواع البلايا, وكم جرع من غصة, وأزال من نعمة, وجلب من نقمة, وذلك منه من إحدى العطايا, وكم خبأ لأهله من آلام منتظرة, وغموم متوقعة وهموم مستقبلة". (إغاثة اللهفان: 1 / 247).

ولئن كان هذا شيء من أثره, فإن عواقبه الوخيمة في الدنيا والآخرة كثيرة, فمن ذلك: أنه يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره والعمل بما فيه فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدًا لما بينهما من التضاد؛ فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة ومجانبة شهوات النفوس وأسباب الغي وينهى عن اتباع خطوات الشيطان والغناء يأمر بضد ذلك كله ويحسّنه ويهيج النفوس إلى شهوات الغي فيثير كامنها ويزعج قاطنها ويحركها إلى كل قبيح". (إغاثة اللهفان: 1 / 249).

هذا الأصل, ودعك من سفهاءَ يقول اليوم قائلهم: "في الغناء ما يهذب النفوس, ويحسن الطبع, فلو كان فيه خير لأباحه الشرع, لكنه تزيين الشيطان ولحن القول".

يا كرام: وكم  جرت هذه الأغاني من فسادٍ حين لمّع الإعلام أهله فصار الساقطون والساقطات أخبارهم تملأ الصفحات وتعقد لهم اللقاءات, وقدّموا على أنهم القدوات, فأُشغل شباب الأمة بهذه الترهات وأولعوا بالسفاهات، وكانت أخبار وأسماء أهل الطرب والغناء هي آكد المحفوظات, والاقتداء بهم في هيئاتهم ولباسهم من غير المستغربات, والالتقاء بهم من أغلى الأمنيات.

وإذا كان هذا في أثرهم على الأفراد, فالمجتمعات عانت من هذه السموم, ويكفي أنها معاصٍ جوهر بها رب العالمين "وكل أمتي معافى إلا المجاهرين".

قال ابن القيم -رحمه الله-: "والذي شاهدناه نحن وغيرنا وعرفناه بالتجارب: أنه ما ظهرت المعازف وآلات اللهو في قوم وفشت فيهم واشتغلوا بها إلا سلط الله عليهم العدو وبلوا بالقحط والجدب وولاة السوء والعاقل يتأمل أحوال العالم وينظر والله المستعان" (مدارج السالكين: 1 / 500).

وقال -رحمه الله- عن المغنين: "وما امتلأت دارٌ من أصوات هؤلاءِ وألحانهم، وأصوات معازفهم ورهجهم، إلاَّ وأعقب ذلك من حزن أهلها ونكبتهم، وحلول المصائب بساحتهم، ما لا يفي بذلك الشرور من غير إبطاء، وسل الوجود ينبيك عن حوادثه، والعاقل من اعتبر بغيره" (الكلام على مسألة السماع: ص348).

يا موفق! يا من عرفت حرمة الغناء منذ صباك, لا تستغرب اليوم أن يجادلك في حرمته مجادل, ليقول لك: بأن فلاناً أفتى بجوازه!, وكأن فتوى مفتٍ كفيلة بأن تهزّ قناعة المرء بالمحرم المستقر, لسنا ننكر خلاف من خالف فيه, لكن الخلاف حين يقع, فالمعتبر فيه كلام المعتبرين من العلماء, ولو كل قولٍ شاذٍ أخذنا به, إذن لترقع الدين وصار عرضة للتشهي.

ولقد توارد العلماء بل الأئمة الأربعة على تحريم الغناء, بل حكى جمعٌ من العلماء الإجماع على تحريمه, ولئن وُجد من خالف من أفراد العلماء فإن العلماء ردوا عليهم, مع أن الخلاف كان في غناءٍ ليس كما هو الحال في غناء اليوم, قال ابن رجب -رحمه الله-: "وأما استماع آلات الملاهي المطربة المتلقاة من وضع الأعاجم، فمحرَّمٌ مجمعٌ على تحريمه، ولا يُعلم عن أحدٍ منه الرخصة في شيء من ذلك، ومن نقل الرخصة فيه عن إمام يُعتد به فقد كذب وافترى".

وقال ابن القيم -رحمه الله-: "ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريم ذلك فأقل ما فيه: أنه من شعار الفساق وشاربي الخمور" (إغاثة اللهفان: 1/ 228).

وقال رجل لابن عباس –رضي الله عنهما-: "ما تقول في الغناء أحلال هو أم حرام؟ فقال له: أرأيت الحق والباطل إذا جاءا يوم القيامة فأين يكون الغناء؟ فقال الرجل: يكون مع الباطل, فقال له ابن عباس: اذهب فقد أفتيت نفسك".

قال ابن القيم: "فهذا جواب ابن عباس –رضي الله عنهما- عن غناء الأعراب الذي ليس فيه مدح الخمر والزنا واللواط، والتشبيب بالأجنبيات، وأصوات المعازف والآلات المطربات, فإن غناء القوم لم يكن فيه شيء من ذلك, ولو شاهدوا هذا الغناء لقالوا فيه أعظم قول, فإن مضرته وفتنته فوق مضرة شرب الخمر بكثير وأعظم من فتنته, فمن أبطل الباطل أن تأتي شريعة بإباحته" (إغاثة اللهفان: 1/ 243).

ورحم الله ابن القيم! فما كان سيقول لو سمع غناء اليوم؟!

واليوم لم يعد للغناء صورة واحدة, بل يتعدد بتعدد آلاته, والشريعة لا تفرق بين المتماثلات, فالإطراب حين يقع بالبرامج وتقنية الصوت –وهو ما يسمى بالإيقاع- غناء, تطورت آلاته, ولو سمي اليوم بغير اسمه, ولو تسمح به الكثير وعدّوه إسلامياً, فالتحريم لأجل الإطراب.

روى أبو داود عن نافع قال سمع ابن عمر مزماراً فوضع إصبعيه على أذنيه، ونأى عن الطريق، وقال لي: يا نافع هل تسمع شيئًا؟ قال: فقلت: لا، قال: فرفع إصبعيه من أذنيه، وقال: "كنت مع النبي –صلى الله عليه وسلم- فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا".

وصفةٌ نبويةٌ لمن طرق الغناءُ سمعَه.

اللهم صل على محمد..

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

أما بعد: روى ابن أبي الدنيا عن محمد بن المنكدر قال: "إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الذين كانوا ينزِّهون أسماعهم وأنفسهم عن مجالس الله ومزامير الشيطان، أسكنوهم رياض المسك، ثم يقول للملائكة: أسمعوهم تمجيدي وتحميدي" (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح: 55).

وإذا كان هذا يفوت من سمع الغناء من نعيم الجنة، فقولوا لي: أي ربح يربحه من سمع الغناء؟!, وأي راحة تُنال والمرء خالف أمر الله القائل: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) [طه: 124- 126].

كم بين من يقرأ القرآن ومن يستمع لرقية الشيطان, هَمٌّ وغمٌ وضجيج, وذاك أجرٌ وطمأنينةٌ وقلبٌ بهيج.

يا من طرق سمعَك الغناء! سل نفسك بأي سمع سمعته؟!, أليس السمع نعمة ممن نهاك عن الغناء؟, فكم هو خسران أن تقابل إنعامه بالعصيان فتعصيه بنعمه وفي أرضه وتحت نظره،

أعطاك ربك نعمة حُرمها غيرُك, فلا تجعل نعمته نقمة, وسمعك عليك بلية.

كم هو غبنٌ يا مؤمن أن تبوء بآثام أناس تسببت في إسماعهم الغناء إن في بيتك أو سيارتك, أو ربما أفسدت عليهم صلاتهم بسبب الغناء من جوالك, وكم من امرئ ربما رفع يديه داعياً عليك إذ آذيته بهذا الصوت الآثم.

كم هي عظيمةٌ تبعةٌ أصحاب ذلك الفرح حين يجلبون المغنين والمغنيات في أفراحهم، فيفتتحون زواجهم بمعصية خالقهم, ويبوءون بإثم كل من حضر ومن على المحرم تابعهم وقلدهم, وأي بركة تُرتَجى من زواج يبارز به الباري بالمعصية وعلى رءوس الأشهاد؟!

يا أيها المبارك: إن منا اليوم من يشكو من الغموم والهموم, ومن يشكو من تسلُّط الشياطين عليه, ومن البلاء والشقاق في بيته, وإذا كانت الملائكة لا تدخل بيتاً فيه مزمور وغناء فلا عجب أن تكون البيوت حينها عرضة للشياطين.

ونشكو من قسوة قلوبنا وعدم أنسها بالقرآن, ومن أسباب ذلك أن القلوب ولجها حبُّ مزامير الشيطان, وسماعه.

فمتى الخلاص, ومتى تقول: انتهينا ربنا انتهينا!!

يا موفق! سُنة الله أن من أكثر من شيء مات عليه, فهل ترضى أن تموت على سماعه؟! وكم من إنسان خرجت روحه وصوت الغناء يصدح في أذنيه, فما أسوأها من ميتة!

فإذا أردت الطمأنينة والنجاة والسلامة فاهجر هذا البلاء، وإن مالت نفسك لسماعه وجاهد نفسك، وخالف هواك، ونقِّ بيتك منه وصن سمعك عنه, ولا تستهن بقليله ليسلم لك قلبك وتبقى أعمالك، وترضي مولاك، وتنعم بأصوات غناء حور الجنة في أخراك, ومحروم من آثر غناء الدنيا الآثم على غناء الجنة الدائم, وشتان ما بين الصوتين, بل إن ما بينهما أبعد مما بين المشرقين,

عصمنا الله من البلاء وصان أسماعنا من كل داء.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي